انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 700/على هامش النقد:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 700/على هامش النقد:

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 12 - 1946



من مفارقات التفكير. . .!

الأستاذ إسماعيل مظهر وكتاب الأغلال

للأستاذ سيد قطب

لا يزال الإنسان يصادف بين آونة وأخرى صنوفا من مفارقات التفكير، ما كان ليتصورها لو لم تقع فعلا في الحياة، وتبدو آثارها للعيان. فقد تجد الرجل المحقق المتفوق في علم أو فن، يبدي فيه الرأي، فإذا له الكلمة الصائبة، والنظرة النافذة. . . ثم يجاوز مادة تخصصه إلى شأن آخر، فتأتي بالكلام الذي لا تصدق نسبته إليه إلا إذا قامت له البراهين على انه قائله، لأنك تجد عندئذ رجلا آخر لا تعرفه، دون ذلك الرجل بمراحل ومسافات.

وأقرب مثل يحضرني اليوم هو الأستاذ إسماعيل مظهر. فمما لاشك فيه عندي أن الرجل مثقف مطلع، ذو مشاركة طيبة في الحركة الفكرية المعاصرة. . . ولكنني رأيته يكتب في جريدة الكتلة مرة ومرة عن كتاب (هذي هي الأغلال) بطريقة عجيبة، فمرة يقول: انه يساوي ثقله ذهباً؛ ومرة يرتفع بصاحبه على مقام جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدة! ويخلو أسلوبه على كل حال من التمحيص والاتزان اللذين أعهدهما فيه. . .

وعجبت من أن يكتب رجل كالأستاذ إسماعيل بمثل هذا الأسلوب، وأن يعتقد في مثل هذا الكتاب وصاحبه ذلك الاعتقاد. . . وظللت متحيراً في هذه الظاهرة العجيبة. وكنت قد قرأت الكتاب فوجدت صاحبه يتعلق بالتافه من خرافات العوام، ومن الأضاليل الخرافية التي حاربها الزمن في البيئة الإسلامية وانتهى من حربها منذ خمسين عاما أو تزيد. يتعلق بهذا التافه فيصول ويجول في الكفاح والنزال، ويبدو - كما قلت في مجلة السوادى - في هيئة (دون كيشوت) يطعن في الهواء يحسب طواحين الهواء فرسانا، وزقاق الخمر قساوسة! ثم ينتهي في التواء إلى أن هذه هي العقلية الدينية الإسلامية؛ فهي إذن عقلية لا تصلح للحياة ولا لوراثة الأرض. بينما الأوربيون يتبعون منطق الحياة، فهم إذن أولى بوراثة الأرض من أصحاب العقلية الدينية. وإذن فما يحق للشرق أن يثور على استعمار ولا أن يحنق على مستعمرين! وتلك هي النتيجة الحتمية لكل مقدمات الكتاب. ولعلها هي الهدف الأول الذي لف في طواياه!

ولا ينتهي الرجل إلى هذه النتيجة وحدها، عن هذا الطريق الملتوي المليء بالمغالطات، إنما ينتهي إلى نتيجة أخرى - لعلها هي التي قادته إلى سلوك هذا المسلك المريب؛ ولعلها كانت رائدة في كتابه وفي حياته. . . تلك أن العنصر الأخلاقي يجب أن ينفى من الحياة. فكل ما يقال له روح وضمير وخلق ودين. . . إن هو إلا (أغلال) ومعوقات وتعلات فارغة لا تجدي؛ والمعول في الحياة على القوة المادية: قوة الصناعة والتجارة والمال!

ولعل الرجل يطبق في كتابه وسلوكه تلك المبادئ الذهبية! أقول عجبت من أن يبذل الأستاذ مظهر إعجابه كله لمثل هذا الكتاب المريب في هذا الأوان، إلى درجة أن يستخفه الإعجاب، فيفارقه ما عرف به من النفاذ والتؤدة والاتزان. . . ولكن أخيراً تكشف لي السبب، فبطل مني العجب؛ وذلك في كلمة افتتاحية في المقتطف الأخير عن كتاب (هذي هي الأغلال) أيضاً!

إن الأستاذ إسماعيل فيما يظهر قد استغرقته الدراسات الفلسفية والدراسات العلمية - وفي أوربا خاصة - فلم يجد وقتاً يتتبع فيه الحركة الفكرية في الشرق العربي - وفي مصر خاصة. فظل يعتقد مخلصاً في اعتقاده أن أهم ما يشغل بال المسلمين في الآونة الحاضرة من أمور دينهم ودنياهم مسائل من نوع: (الكلام في مثل ما تكلم فيه السيوطي في كتابه (كشف المعمى في فضائل الحمى) وكتابه (الطرثوث في فضل البرغوث) أو ما تكلم فيه ابن حجر العسقلاني في كتابه (بذل الماعون في فضل الطاعون) أو ما ترى فيه كتب المناقب وغير كتب المناقب في الخرافات التي تهلع لها قلوب الأحرار، والأساطير التي تهتز لها الأرض وتفزع السماء، أو البحث في من يحمل فوق ظهره قربة ملئت فُساءً هل تصح صلاته بها أم ينتقض وضوؤه) كما كتب في هذه الافتتاحية العجيبة!

وهذه هي الخرافات التوافه التي أخذ المؤلف يبدى فيها وفي أمثالها ويعيد، ويصم التفكير الإسلامي كله بأنه يصدر عنها؛ ثم أخذ ينازلها كما نازل (دون كيشوت) طواحين السماء، ويشقها بسيفه كما شق (دون كيشوت) زقاق الخمر! والتي خيل للأستاذ مظهر أنها كذلك تشغل بال المسلمين في هذه العصور، فأخِذ بالقوة التي يهاجمها بها مؤلف الأغلال، فقال:

(أنتصر لهذا الكتاب، لأني أشتم فيه ريح القوة والجبروت والعزة التي هي من صفات الإسلام، وليست من صفات المسلمين!!

وهنا زال عجبي وعرفت القصة. فالأستاذ إسماعيل مظهر بقدر ما هو عالم ومطلع في الفلسفة الحديثة والعلم الحديث، بعيد كل البعد عن حركة الفكر الإسلامي في القديم أو في الحديث. فكل حديث عنها في نظره إعجاز وإبداع!!

ومثل إعجابه البالغ الذي لا يتحفظ فيه بهذا الكتاب كمثل من يعجب أشد الإعجاب برجل يشنها حرباً شعواء على من يقولون: إن الأرض محمولة على قرن ثور. فما تزيد معظم الخرافات التي تصدى لها المؤلف في أهميتها اليوم وفي مقدار اعتقاد الناس فيها، على اعتقاد بعض العامة أن الأرض محمولة على قرن ثور!

ويا ليت إخلاصاً يبدو في ثنايا الكتاب، حتى مع هذا التمحل وهذا التزوير المدسوس على عقلية الشعوب الإسلامية في العصر الذي نعيش فيه؛ إنما هنالك الريبة التي تخالج القارئ حين يذهب في القراءة إلى النهاية، فيشم رائحة غير نظيفة تشيع بطريقة ملتوية خبيثة، رائحة إشعار الأمم الشرقية بأنها لا تستحق وراثة الأرض، ولا تستحق سوى العبودية والذل، وأن الأمم الأوربية هي التي تستحق هذه الوراثة، وأن العرب خاصة في حاجة إلى حماية الإنجليز والأمريكان لهم، لأن الخطر الصهيوني يتهددهم وهم عُزل من كل قوة، ولا سند لهم إلا قوة خصومهم من الإنجليز والأمريكان!

ترى هذه هي (ريح القوة والجبروت والعزة التي يتحدث عنها الأستاذ إسماعيل؟ اللهم إن رجلا بعيداً عن كل اتصال بحركة الفكر الإسلامية، راعته البديهيات الساذجة التي يسوقها رجل مريب، فلم ينتبه في - زحمة الروعة - لهذا العنصر المريب!!

وكتب الأستاذ (عبد المنعم خلاف) في عدد (الرسالة) الماضي يشير إلى ما نبهت إليه من سرقة المؤلف لأفكاره في كتابه (أومن بالإنسان) وادعائه أنه لم يسمع بموضوع هذا الكتاب!

قلت في كلمتي بمجلة (السوادي) إنني لم أحترم هذا التجاهل، لأنه ليس سمة الباحثين المخلصين. وقال الأستاذ عبد المنعم بعد أن قرر أنه فرح لانتشار فكرته التي دعا إليها ست سنوات، فكرة الإيمان بالإنسان والاعتقاد بأن الحياة صادقة.

(ولكن ما لبثت هزة الفرح والابتهاج أن انقلبت إلى أسى ووجوم واشمئزاز إذ رأيت الكتاب يخلو من أدنى إشارة إلى تسجيل سبقي في هذه الدعوة، وإذ رأيت صاحبه مع ذلك يحدث ضجة مفتعلة حوله، ويصدر غلافه بهذه الجملة:

(سيقول مؤرخو الفكر: إنه بهذا الكتاب قد بدأت الأمم العربية تبصر طريق العقل. وإنه ثورة في فهم الدين والعقل والحياة. . .) كأن مؤرخي الفكر عميان لا يتلمسون مصادر الآراء!

(وإني أعجب كيف يجرؤ كاتب أو مفكر يحترم رأي الناس، ويستحي من نفسه أن يسبق التاريخ ويصدر حكمه على عمله بهذه الدرجة من الافتتان والزعم!

(إن المفكر الواثق من أنه أتى بجديد حقاً، يضع آثاره بين يدي التاريخ في صمت، ويدع له أن يحكم، ولا يتعجل الحكم حتى تعلنه الأيام سواء في حياته أو بعد مماته. . . والمفكر الأمين الثقة الغيور على الحق وحرية التفكير يترفع عن أن يغمط حق غيره، وعن أن يغطي جهود من سبقوه بالدعاوة الجريئة لنفسه، لأن هذا إن جاز في مجاز الإعلان عن المتاجر والمهن، فلن يجوز في رحاب الفكر والخلق.

ولكن ما للمؤلف وللحديث عن الأخلاق، وهو كما روى عنه الأستاذ سيد قطب في مجلة (السوادي) يرى (أنه يجب أن ننفي العنصر الأخلاقي من حياتنا، فالحياة لا تعرف العناصر الخلقية، ولا قيمة لها في الرقي والاستعلاء).

والأستاذ عبد المنعم يحاكم الرجل إلى مبادئ ومثل يقول هو عنها: إن التشبث بها هو سبب تأخر الشرق وجموده. فما الخلق؟ وما الضمير؟ وما الحياة؟ إنها كلها (أغلال) تقيد الخطو وتخلق العثرات. إنما المهم كما يقول هي الأخلاق الصناعية والتجارية والمالية!!

والواقع أنها جرأة عجيبة، ولكن لماذا لا يجرؤ الرجل، وفي مصر كتاب كبار لا ينتبهون لهذه الجرأة العجيبة، فيسبغون على فكرة مسروقة ومستغلة استغلالا مريباً كل هذا الاهتمام والإعجاب؟

ولكنني أعود فأستدرك، فلعل هناك اتهاماً للأستاذ عبد المنعم، وطعناً في ضميره وخلقه ووطنيته حين نذكر أن فكرة الأغلال مسروقة من كتابه (أومن بالإنسان).

إنها مسروقة نعم في عمومها وفي الكثير من قضاياها، ولكن الأستاذ عبد المنعم كان يعالج فكرته في استقامة ونزاهة، ويحسب للدين وللخلق وللضمير حسابها في قيم الحياة، وحين دعا إلى الإيمان بالإنسان مستدلا بما أبدع في الأرض بفكره ويده، لم ينس أنه يهدف إلى قضية أكبر، وهي قضية الإيمان بخالق هذا الإنسان وقضية التسامي بضمير هذا الإنسان.

ولقد وافقت الأستاذ عبد المنعم على قضيته وأهدافه، وخالفته في طريقة استشهاده، ووددت أن يفسح للوجدانات الروحية، وللأعمال الفنية مكانا أكبر في الاستشهاد على عظمة هذا الإنسان، ليكون نشيد الإيمان به أوسع وأشمل، حين نضم إلى إبداع فكره ويده إبداع وجدانه ومشاعره.

أما هذا الرجل، صاحب الأغلال، فيأخذ الفكرة لينحدر بها انحداراً عن مستواها، وليبدو فيها ضيق الآفاق لا يتصور أن الإنسان جسم وروح، وأن الحياة مادة ومعنى. ثم ليستخدم الفكرة في الزراية على الشرق عامة والمسلمين خاصة، وليحطم في نفوسهم كل شعور بالعزة، وليسوّد عليهم مستعمريهم، وليثبت هم أنهم في حاجة إلى قوة هؤلاء المستعمرين، إلى أن يتخذوا طريقهم في الإنتاج!

وما يخدم قضية الاستعمار في طورها الحالي كما يخدمها بث هذه الروح. وإذا كان الشرق يعتز في جهاده للاستعمار بماضيه وبعقائده وبكرامته القومية، وبعدد من مثل هذه المعنويات. فهذا رجل منه يقول له: إنما تعتر بترهات جوفاء. والمستعمر أحق بوراثة الأرض منك، فلتحن هامتك إذن، فتلك سنة الحياة!

وبدلا من أن ينبه النقاد الكبار إلى هذا الاتجاه المريب يؤخذون بالدعاوة المفتعلة، ويبذلون إعجابهم المطلق للكتاب وصاحب الكتاب! والرجل والحق يقال: ماهر في الدعاوة، لا تقيده فيها الأغلال!!

ألا إنه لكتاب يساوي ثقله ذهباً، كما قال الأستاذ مظهر. ولعل من تهمهم مثل هذه الكتب لم يبخسوا الكتاب قدره وكل الدلائل تشير إلى أنهم لم يبخسوه قدره، والحمد لله!

سيد قطب