مجلة الرسالة/العدد 7/مجمع البحور
مجلة الرسالة/العدد 7/مجمع البحور
إلى الدكتور محمد عوض محمد
قرأت مقالكم الممتع، تحت عنوان (مجمع البحور وملتقى الأوزان) فوجدت فيه من الطرافة ما يدل على التفوق في الذوق، غير أني أخذت عليكم فيه مأخذين أدلي بهما إليكم وإلى قراء مجلة (الرسالة) الكرام.
(1) قد ذهبتم إلى أن الشعر المرسل قريب العهد في الحدوث. وهذا غير الواقع فقد أنشد أبو عبيدة لأبنة أبي مُسافع وقد قتل أبوها يوم بدر:
فما ليثُ غريفٍ ذو ... أظافير وأقدام
كحييّ إذا تلاقوا
وَ ... وجوه القوم أقرانُ
وأنت الطاعن النجلا ... َء مزبدٌ آنًِ
وبالكف حسامٌ صا ... رم أبيض خذامُ
وقد تركب بالركبِ ... وما نحن بصحبانِ
وتجدون هذه الأبيات في (الموشح) للمرزُباني، (ص20) ومن يدري؟ فلعل هناك كثيراً من قصائد الشعر المرسل ذهبت بها أيدي الضياع. والمعروف أن الأستاذ الزهاوي هو الشاعر الوحيد في المحدثين الذي رفع لواء الشعر المرسل، ولا أعلم العلة التي حدت بكم إلى إغفال ذكره في الموضوع، وهو معيد الفكرة إلى نشأتها الأولى.
(2) أنكم عبتم على أمير الشعراء عدم التزامه وزناً واحداً في رواياته؛ وأنا أقول: لو أن شوقي رحمه الله أجهد نفسه، وتكلف الكثير حتى جاء برواياته، من بحر واحد وقافية واحدة لقال الناس ولقلت أنت أيضاً: إن شوقي قد وضع في عنق الشعر طوقاً يغله به في عصر الحرية والإنطلاق، وأنه مقلد وقديم في عهد التمرد والابتكار. ولكنا إذا صرفنا النظر عن كل هذه الاعتبارات، ونظرنا إلى الموضوع من حيث أن تلك الروايات إنما وضعت للتمثيل خاصة، تجلى لنا الموقف الذي ظهر في شوقي وهو يقدم لأدب الضاد مادة طريفة دلل بها على أن لغة القرآن لا تضيق بكل ضرب من ضروب التفكير، وكل فن من فنون الأداء وأن في الشعر ما يصلح أداة للتمثيل.
أنا لا أختلف وإياكم فيما يحدثه نظم القطعة الواحدة من بحور متعددة من الشعور بنفرة الانتقال المباشر في الموضوع الواحد. ولكن هذه المفارقة النافرة في الذوق لا يبقى لها أثر متى لا حظنا أن الشعر خاص بالتمثيل وأنه نظم ليلقى على المسرح بغير لسان واحد. فانتقال الإلقاء من هذا إلى ذاك مما تضيع به فائدة المحافظة على البحر والقافية في قاعة التمثيل فضلا عما يحدثه التمثيل ذاته في أنفس السامعين من الاتجاه إلى الحادثة وتسلسل المواقف دون الالتفات إلى أن هذا يسأل من بحر الخفيف وذاك يرسل الجواب من بحر الطويل. وقد حضرت روايات شوقي التي مثلتها الفرق المصرية في العراق فلم أجد في نفسي أثراً لاختلاف البحور والقوافي ولم أسمع من غيري شيئا من هذا. ويظهر أن فكرتكم قد تولدت من القراءة المجردة دون أن تقترن بالروح التي تبعثها مشاهدة التمثيل. وما كان شوقي بعاجز عن أن يوحد البحور والقوافي في رواياته بشيء من الجهد وهو أمير الشعراء، ولو كان قد تكلف اجتياز هذه العقبة الكأداء لما وفق في الموضوع إلى المدى الذي انتهى إليه من البراعة في حبكة الرواية والإتيان بأرفع الخواطر سمى ذلك لأن الشعر ذاته في حاجة (بالتمثيل) إلى كل هذه التوسعة وإلا طغت الألفاظ على المعاني وجاءت المواقف في شيء كثير من البرود والجفاف مهما بلغ الشاعر حظا عظيما من فيض العبقرية. ويظهر أن الأبيات التي استشهدتم بها من رواية قمبيز ليست ثلاثة ومصرعا (بفتح الراء) وإنما هي أربعة أبيات باعتبار قوله:
بخٍ بخٍ ... بنتَ أخي
بيتاً واحداً مصرعاً (بتشديد الراء) كما يدل عليه التشكيل في الرواية وعلى حد قوله في (قمبيز) أيضاً:
النوبُ جيلْ ... حر أصيلْ=يقضي الديونْ
نحن الأسود ... حمر الجلودْ=حمر العيونْ
لنا لبدْ ... من الزردْ=هي الحصونْ
إلى آخر القطعة (ص 98) وهناك كثير من أمثال ذلك وهو بحر جديد يستسيغه الذوق طبعاً. وبذلك يرتفع ما يؤخذ على شوقي من استساغته اختلاف البحر في البيت الواحد، وذلك لا يصح صدوره من شاعر، لأن البيت في الشعر وحدة مستقلة الذات في القصيدة، وهذا الاستقلال يفرض معه اتحاد البحر في البيت الواحد.
وبعد فإني أرجو لا يكون هذا الدفاع مبرراً لما جريت عليه في تأليف روايتي الشعرية (رسول السلام) من عدم التقيد ببحر واحد وقافية ثابتة والاكتفاء بموسيقية الوزن فحسب، إنما أرجو فيه إصلاحا لما علق في بعض الأذهان من أن روايات شوقي فقدت أكثر جمالها بفقدها اتحاد الوزن والقافية. ويكفي الشعر التمثيلي أن يحتفظ بنغمة الوزن وحدها ما دام المسرح لم يخصص لقائل واحد وإنما هي مشاهدة عدة وممثلون كثيرون قد يكون هذا التنويع في البحور والقوافي، ملائماً لإبراز ملامح الجمال التي تنسجم مع الموقف ومن فيه.
بغداد. حسين الظريفي