انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 699/تعقيبات. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 699/تعقيبات. . .

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 11 - 1946



للأستاذ عباس حسن خضر

أعداء المرأة:

منذ سنين أطلق بعض المروجين للأستاذ توفيق الحكيم عليه لقب (عدو المرأة)، واتخذت المجلات الشعبية هذا اللقب مادة للتندر فيما يتصل به، وطاب ذلك للأستاذ نفسه، فأكثر في كتاباته مما يثبته ويسيره بين الناس، وكان بين الناس، ولم يزل بينهم، من يتساءل عن معنى هذه العداوة. وأكثر هؤلاء المتسائلون تساؤلهم لما رأوا أخيراً الدكتور زكي مبارك يعلن بنفسه في مجلة (مسامرات الجيب) أنه عدو المراة، ويتبع بذلك حملة عشواء. . . يعلو فيها مثار النقع. وتنجلي غمراتها عن هزيمة الجنس الناعم أمام أسلحة الشتائم التي جرد منها بالتثقيف والتهذيب، واتخذها بعض الرجال أداة لحربه. . .

ويعجب المشاهدون لهذه المسامع من هؤلاء (الأبطال) الذين يريدون أن يعكروا صفو المودة بين الجنسين التي هي من آيات الله الذي جعل لنا من انفسوا أزواجا لنسكن إليها وجعل بيننا مودة ورحمة؛ ويعجبون اشد الإعجاب لتحقير اللائى هن من أنفسنا ونحن منهن ولا يحق لهن إلا الكرامة والإعزاز

ويقول السائلون عن معنى تلك العداوة: أهي عداوة جنسية بحيث يدعو أولئك المغاوير سائر الرجال إلى حرب النساء، ويضطر النساء إلى المقاومة، فيقف الجنسان في الميدان صفين على رأس أحدهما توفيق الحكيم وزكي مبارك. . .؟

ما الرجل؟ وما المرأة؟ أليسا نصفي شيء واحد هو الإنسان؟ وهل يستطيع هذا الإنسان أن يتحرك إذا شل نصفه؟

إن الرجل ليس رجلا إلا لأن هناك امرأة، فهما متقابلان لا وجود لأحدهما دون الّاخر، وليست المرأة إلا شريكا للرجل له قيمته، وليس من الرجولة أن تنتقصه ونتنكر له!

فإذا كان من يتسمون أعداء المرأة يريدون أن يحاربوا عيوبا تتصف بها، ونقائص جرت أو طرأت عليها، فليس السبيل لذلك إيذاء شعور الكرائم وجرح نفوسهن بتلك المهاترات، إنما السبيل هو الذي يسلكه ذوو الألباب من التنديد بالنقائص والعيوب والدعوة إلى نبذها والتجمل باضدادها، كما يصنع الأستاذان الطنطاوي وسيد قطب في (الرسالة) الزاهرة وليس للرجل أن يعيب المرأة - من حيث هي امرأة - لنقائص في جنسها، أو لأن أفرداً منه حادوا عن الجادة، فالرجال في ذلك كالنساء، بل إن من الرجال من لا تستطيع اشد النساء إمعانا في الخزى أن تبلغ شأوه في هذا المضمار، وهم المتشبهون ببها. . . ومن يتخذونهم بدلا منها. . . ومع ذلك لم نسمع أن امرأة نودي بها أو نادت بنفسها عدوة للرجل. . .!

فعداوة الجنس برمته لا موضوع لها إلا أن يكون القصد منها الترويج والتهريج والتظاهر بأعجب البطولات!

رؤيا لم تقص:

رأى أحد الأشرار في نومه أنه قتل رجلا، ولم يستطع الفرار؛ فوقع في يد الشرطة، وقدم إلى المحاكمة. وحكم عليه بالاعدام، وحل وقت التنفيذ، واتى به إلى المشنقة؛ وبينما كان الرجل سابحاً بفكره في رؤياه دخلت زوجه لتوقظه، وفي اللحظة التي وصل فيها إلى أن كان الجلاد يعد له حبل المشنقة - لمست يد الزوجة عنقه، فقامت هذه اللمسة مقام الحبل في التأثير في الرجل. . . ففاضت روحه.

مهلاً قارئ (الرسالة)، فأنا أعرف فطنتك، وما يقاس ذكاء مثلك بمثل هذه الحكاية، فلا أخالك إلا سائلا: وكيف عرف أن الرجل رأى هذه الرؤيا وقد اتصل نومه بالموت فلم يقص رؤياه على أحد. .؟!

وبعد، فقد قرأت قصة (قطر الندى) للصديق القديم الأستاذ محمد سعيد العريان التي ظهرت في سلسلة (اقرأ)، وهي قصة ممتعة جلاها أسلوب العريان الطلي وحلاها براعته الفنية، ولكني وقفت فيها عند رؤيا لم تقص. . . لست ادري كيف عرفها الأستاذ العريان؟!

ذلك أن (أم آسية) حاضنة قطر الندى بنت خمارويه بنت أحمد ابن طولون - رأت في ذات ليلة أنها في قصر عظيم تزف فيه قطر الندى بنت ملك المغرب (خمارويه) إلى ملك الشرق (الخليفة العباسي)، وكأنها (أم آسية) أم العريس، وقد أفسحوا لها حتى دخلت إلى دار الحرم فشاهدت قطر الندى جالسة على سريرها. . . وحملها أريج البخور على جناحين من لهب إلى السماوات، فما تنبهت إلا على صائح يصيح. .!

وقصت رؤياها على سيدها خمارويه راجية منه أن تكون ماشطة الأميرة يوم زفافها. . . ثم كبرت الأميرة. . . وهيئت للزفاف إلى المعتضد، وسار ركب العروس من مصر إلى العراق. وفي بعض منازل الطريق نامت أم آسية ماشطة العروس ذات ليلة، فرأت تمام الرؤيا التي بدأتها في منامها منذ سنين. . . حملها الأريج إلى السماوات، وسمعت هذه المرة صيحة الصائح. . . عرفته وفهمت عنه، رسول من مصر يهتف بنبأ مروع. . . قال الأستاذ: (وطوت صدرها على السر فلم تكشف لأحد عن خبره). وقال: (واشتد بها الوجع ذات ليلة في بعض منازل الطريق، وأصبحت ميتة لم تكشف عن سرها ولم تتحدث إلى أحد برؤياها!)

وعرفنا من حوادث القصة بعد ذلك أن تمام الرؤيا قد تحقق كما تحققت بدايتها، إذ كان النبأ المروع أن غلمان خمارويه وثبوا عليه فقتلوه!

ولا شك في أنك الآن مشاركي العجب من معرفة الأستاذ العريان رؤيا أم آسية الثانية وهي لم تتحدث إلى أحد بها! اللهم إلا أن يكون قد رأى أم آسية في نومه فأفضت إليه بالسر الذي طوته حقبا من الدهر. . .؟

في تعليم للغة العربية:

كتب لأستاذ عادل الغضبان في مجلة الكتب الصادرة في أكتوبر الفائت مقالا بعنوان (اللغة العربية بين المعلم والطالب) بين فيه ما رآه من أسباب ضعف الناشئة في اللغة العربية، ووزع التبعة في ذلك بين الطالب والمعلم ولمنهج، فالطالب منصرف عن الدرس مقبل على مطالعة صحف المتعة والتسلية، والمعلم مرهق بكثرة العمل مشغول بأسباب معاشه في عصر كثرت فيه المطالب والنفقات، وقد أفاض الأستاذ في هذه النقطة فانصف المعلم ودعا الدولة إلى رعايته وتقديره

وتلك أسباب لضعف الطلبة في جميع المواد لا في اللغة العربية وحدها، ويظهر أن الكتاب، لغيرتهم على اللغة العربية وتشبعهم بحبها، يقصرون إلى الكلام عليها حينما يتعرضون لشئون التعليم من حيث انخفاض المستوى العلمي للطلبة مع أنه يكاد يكون على سواء في جميع المواد

أما كلام الأستاذ في المنهج، فقد تضمن ما نخالفه فيه، عاب معالجة المنهج المشحون بالحذف والتبسيط، ولكنه لم يقل بم يعالج، فمن المعلوم أن ازدحام المنهج بالمواد يتخم الطالب ويعسر عليه هضم المعلومات، فبم يعالج إن لم يكن بنقصه وتسهيل صعبه؟

وحمل على التبسيط فقال: (ولقد عمت موجة التبسيط كل مقومات اللغة، فتناولت اللفظ والأسلوب والصرف والنحو والبلاغة والأدب. فبدت اللغة العربية لذهن الطالب بعد ذلك التبسيط شجرة جرداء مقلمة الفروع جافة الغصون). وقال: (إن هذا التبسيط يبعد الطالب عن الأساليب القديمة البليغة). إلى أن قال: (واعجب العجب ما قرأناه أخيرا من أن أستاذاً في الجامعة يملي عليه تلامذته تفسير القران باللغة العامية)

والذي أراه أن أستاذ الجامعة يسف في التسهيل والتقريب، والأستاذ عادل الغضبان يوغل في البعد عن مدارك التلاميذ، ومن أسس التربية المفروغ منها وجوب البدء بالسهل ثم الانتقال منه إلى الصعب ثم إلى الأصعب، ولكن الأستاذ عادل يريد أن يصدم الأذهان الغضة بالأساليب القديمة البليغة، وأستاذ الجامعة ينتهي بالجامعيين إلى ما هو دون ما يجب أن يبدأ به، فالتلميذ يبدأ في السنة الأولى الابتدائية بالمحادثة العربية وينتهي في الجامعة بالبلاغة العامية. .!

ويغالي الأستاذ عادل في بيان قيمة القواعد ويرى الإكثار منها في المدارس، ولم يول اللغة نفسها أي الكلام العربي شيئا من الاهتمام مع أنه هو الغاية المنشودة، والأجدى في الوصول إلى هذه الغاية أن نعرض الكلام نفسه مكونا مركبا على الناشئ بمختلف الوسائل، ليدركه ويتذوقه وينطبع مثاله في ذهنه، قبل أن نحشوه بتلك القواعد التي تحلل الكلام وتفككه. وبهذا نحقق فائدتين: الأولى تكوين ملكة لغوية يقتدر بها الناشئ على التعبير الفصيح وتذوق الأساليب العربية، والفائدة الثانية أن يقبل القواعد بعد ذلك شاعرا بالحاجة إليها لضبط ما عرفه ومرن عليه من الكلام.

ومن مغالاة الأستاذ في هذا الصدد قوله: (أما البلاغة فقد أخنى عليها الذي أخنى على القواعد فبسطت بالحذف دون مراعاة جلال شان الحذف، فقد حذف من أبوابها باب الفصل والوصل ولعله في نظرنا أهم أبواب البلاغة والطريف أن للبلاغة تعريفات جمة منها إنها (معرفة الفصل من الوصل) ولو عرف كثير من الكتاب هذا الباب ووقفوا على أسراره ودقائقه لاهتموا بان يقدموا للقارئ أسلوبا لا تتعادى فقرة ولا تتجافى ألفاظه ولا تختلط فيه حروف العطف اختلاطا متنافرًا متناكراً).

وأنا أقول له: إن الكتاب الذين يشير إليهم إن يقرءوا باب الوصل والفصل في كل كتاب من كتب المعاني مائة مرة فلن يأتوا منه في أسلوب بشيء، إنما يعوز هؤلاء - كي يقدموا للقارئ أسلوبا لا تتعادى فقرة. . . الخ. أن يقرءوا الأدب العربي ويفهموه ويتذوقوا ويعيشوا معه حتى يكتسبوا منه سليقة يعرفون بها الفصل من الوصل وغير الفصل والوصل من مقتضيات البلاغة، فالذي افهمه من معنى أن البلاغة هي معرفة الفصل من الوصل إن الكلام البليغ ما يجيء فيه كل من الفصل والوصل في موضعه، فليس المقصود من البلاغة هنا أنها (علم بقواعد).

وفي وسع أي كاتب أن يرد على هذا الكلام بمقال يبين فيه الفوائد التي لا تحصى من دراسة علوم البلاغة، ولكن المحقق أنه لن يفكر وهو يكتب هذا المقال في شيء من قواعد هذه العلوم. . .

وبعد فثمة عامل من عوامل ضعف تلاميذ المدارس في اللغة العربية لم أر أحداً نبه عليه، ذلك أن فروع اللغة العربية من إنشاء وأدب وقواعد وتطبيق ومحفوظات ومطالعة وإملاء وخط - متعاونة كلها متآزرة كأعضاء الجسد. . . الواحد إذا اشتكي فزع منها تداعى له سائر الفروع بالدرجات المكملات للنهاية الصغرى اللازمة للنجاح. . . فالذي يقع من جراء ذلك أن التلميذ يهمل فروعا قد يجهلها جهلا تاما اعتمادا على تلك الوحدة الرائعة. .

فلا نعجب إذا رأيت تلميذا ينجح في امتحانات اللغة العربية وهو لا يستطيع كتابة سطر بأسلوب سليم، لأنه يحفظ القواعد أو يحسن غيرها من بقية الفروع، وقل مثل ذلك الباقي، ولو جعل لكل مادة درجة معلومة لا بد منها للنجاح لاضطر التلميذ أن يصل إلى المستوى الذي يجب أن يكون عليه في كل مادة بجلا من أن نمكن له أن يجهل شيئا بشيء.

عباس حسن خضر