مجلة الرسالة/العدد 699/الإسلام والنظام العالمي الجديد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 699/الإسلام والنظام العالمي الجديد

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 11 - 1946


للأستاذ عباس محمود العقاد

هذه هي الدعوة الثانية من الهند في هذا الموضوع، وهو موضوع الإسلام وأحكامه التي تتكفل للعالم بنظام شامل يحل معضلاته ويوثق الروابط بين أممه ويبسط فيه الطمأنينة والسلام

وقد كتبت في (الرسالة) عن الدعوة الأولى لصاحبها المولى محمد على الكاتب الهندي المشهور ومترجم القرآن إلى اللغة الإنجليزية

وهذه هي الدعوة الثانية هي خطاب ألقاه ميرزا بشير الدين محمود أحمد في الاجتماع السنوي للجماعة الأحمدية بقاديان سنة 1942، ثم ترجم إلى اللغة الإنجليزية وعنيت الجماعة بنشره قبل بضعة شهور

ويبدو من مطالعة هذا الخطاب إن صاحبه يوجه النظام العالمي إلى حل مشكلة الفقر أو مشكلة الثروة وتوزيعها بين أمم العالم وأفراده، وأنه بغير شك على اطلاع واف محيط بالأنظمة الحديثة التي عولجت بها هذه المشكلة، وهي نظام الفاشية ونظام النازية ونظام الشيوعية، وبعض النظم الديمقراطية

ولكنه يعتقد بحق إن المشكلة لا تحل على أيدي الساسة وزعماء الأحزاب والحكومات، وأنه لا مناص من القوة الروحية في حل أمثال هذه المشكلات، لأن الحل الشامل لكل مشكلة إنسانية عامة يتناول الإنسان كله ولا يهمل فيه الباعث الأكبر على الطمأنينة والحماسة للخير والصلاح، وهو باعث العقيدة والأيمان.

وقد عرض للأديان الكبرى القائمة في الهند خاصة - والعالم عامة - من حيث علاقتها بهذه المشكلة وتدبير الحلول التي تزود العالم بنظام جديد افضل من نظامه المغضوب عليه، فأتى بالأدلة الكثيرة على انفراد الإسلام بينها بمزية الإصلاح وتعميمه بين جميع الأجناس والطبقات فيما مضى وفي هذا الزمن الحديث

فالديانات الهندية تعلم لإنسان إن تفاوت الطبقات قضاء من الأزل لا نجاة منه لمخلوق، لان الأرواح تنتقل من جسد إلى جسد جزاء لها على ما جنت في حياتها السابقة من السيئات والذنوب، فهي تخرج إلى الدنيا بنصيب محتوم لا يقبل التبديل ولا يحسن تبديله إذ أستطيع - ولن يستطاع - لأنه هو سبيل التكفير والارتفاع من حياة إلى حياة. وقد جاء في قوانين مانو: (إن الفرد من طبقة السودرا لا يجمع الثراء ولو قدر عليه، لان ثراءه يؤلم نفوس البرهميين). فإذا ادخر بعض المال لحاجته التي تزيد على القوت والكساء حق للحكومة أن تجرده من ماله وتتركه للفاقة والكفاف، وهكذا تقوم الفواصل بين الطبقات المختلفة، وهي طبقات البرهمان والكشاتريا والفاشيا والسودرا وهم أخس الطبقات.

وتقضي القوانين البرهمية بسداد الديون بالعمل إذا كان الدائن والمدين من طبقة واحدة. فأما إذا كان المدين من طبقة أعلى من طبقة الدائن فلا سداد إلا بالنقد أو العين متى تيسر، ولا إلزام بالسداد قبل التيسير.

وتجب التفرقة بين الاخوة في حقوق الميراث إذا اختلفت أمهاتهم في الطبقة الاجتماعية. فيقسم الميراث كله إلى عشر حصص متساوية، ويعطي ابن البرهمانية أربعا وابن الكشاترية ثلاثا وابن الفاشية اثنتين وابن السودرا حصة واحدة على قدر ما يجوز له من الثراء

ومن حق البرهمان أن يستولي على ملك خادمه من السودرا لأنه وما ملك في طاعة مولاه.

فإذا كان الإصلاح العالمي محتاجا إلى حماسة العقيدة، وكانت هذه عقيدة المؤمنين بالديانات الهندية فلا رجاء فيها لعلاج مشكلة الفقر وأنصاف الطبقات المظلومة والتقريب بين الناس في حظوظ الحياة.

أما الإسرائيلية فهي بأحكامها المنصوص عليها في كتاب العهد القديم تخص اليهود ولا تعم الأمم جميعا بالمساواة. فحرام على اليهودي أن يقرض يهوديا بالربى ولا يحرم عليه أن يتقاضى الربى المضاعف من أبناء الأمم الأخرى. ولا يجوز استرقاق اليهودي طول حياته ولا تزيد مدته في الرق على سبع سنوات، ولكن استرقاق العبيد في الأمم الأخرى جائز في كل حال ولا حرج عليهم. وفي الإصحاح العشرين في سفر التثنية يقول العهد القديم لشعب إسرائيل: (حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، فإن إجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وان لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهاك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغنمها لنفسك. . .

وأما مدن هذه الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تستبق منها نسمة ما. . .).

هذه هي حدود المعاملة بين المؤمنين بالعهد القديم وسائر بني الإنسان، فإذا سادت هذه المبادئ فالأمم كلها عبيد مسخرة وأبناء إسرائيل وحدهم هم أصحاب السيادة والثراء.

والمسيحية كما هو معلوم لم تعرض لمسائل القانون ومسائل السياسة أو الاجتماع، ولهذا كانت دعوتها إلى الإسلام من الدعوات التي تصطدم بالواقع وتتمخض عن حروب لا تنقطع وحزازات بين الطبقات لا يهدأ لها أوار كما نرى في تاريخ أوربا الحديث والقديم.

لكن الإسلام يتناول مسائل الاجتماع ومسائل العلاقات بين المحاربين والمسالمين. فالمسلم يقاتل إذا ظلم واخرج من دياره ويأمره كتابه إذا ملك الأرض أن يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر: (أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظُلموا وان الله على نصرهم لقدير، الذين أُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع صلوات ومساجد يُذكر اسم الله كثيراً، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور).

لا يجيز الإسلام للنبي أن يكون له أسرى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم).

ثم هو يستحب المسلم المن والفداء (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب، حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق. فأما منَّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها).

ومن بقي في الأسر وطلب المكاتبة فقبول طلبه واجب على مولاه (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً، وآتوهم من مال الله الذي آتاكم).

ولا مطمع في معاملة بين الشعوب المتعادية أعدل من هذه المعاملة واقرب منها إلى إزالة العدو والبغضاء. فأما المعاملة بين المسلمين فهي كفيلة بأنصاف جميع الطبقات؛ لان الناس يتفاضلون بالأعمال الصالحة ولا يتفاضلون بالمظاهر والأنساب. وينكر الإسلام الجور في توزيع الثروة فلا يجيز لأحد أن يكنز الذهب والفضة قناطير مقنطرة. ومن جمع مالا وجب عليه أن يؤدي زكاة للفقراء والمساكين ومصالح الجماعة بأسرها، وعليه أن يعين مني طلب منه العون قرضا حسنا لا مضاعفة في للربا ولا تجاوز فيه لمكاسب البيع والشراء، فلا تطفيف للكيل ولا مغالاة بالربح ولا مماسكة ولا خداع، وكل يجزي بعمله وسعيه دون إيثار لأحد على أحد في خيرات الأرض جميعا. . . (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) فلا يزعمن إنسان أو جمع من الناس أنه أحق بالأرض سواه.

فالنظام العالمي لا يعتمد على عقيدة اصلح لتعمميه وحض النفوس عليه من العقيدة الإسلامية، وقد أجاز الإسلام الوصية وندب له المسلمين في بعض الحالات. فإن قصرت موارد الزكاة فموارد الوصية لا تضيق بما يطلب منها، لأنها تشمل جميع الأموال والعروض، وقد حث (الميرزا أحمد القادياني) اتباعه على التوصية بمقدار من ثرواتهم يتراوح بين عشرها وثلثها، للإنفاق منها على الدعوة والإصلاح.

ولم يقصر المؤلف - أو صاحب الخطاب - مقابلاته ومقارناته على العقائد الدينية التي أجملنا الإشارة إليها فيما أسلفناه؛ ولكنه خصها بالعناية لان العقيدة كما قال هي أمل الإصلاح الوحيد، ونظر معها إلى النظم السياسية والاجتماعية فإذا هي قاصرة عن بغيتها من الوجهة العملية والوجهة الروحية على السواء.

فالفاشية - ومثلها النازية - لا تؤسس نظاما عالميا مكفول الدوام لأنه تقوم على تفضيل الجنس والعصبية القومية. فلا مكان فيها لأمم العمال غير الخضوع والتسليم للجنس الذي يزعمون له حق السيادة والرجحان.

والشيوعية تعطل البواعث الفردية وتسلب النفس حوافز الاجتهاد وتجعل الحياة مادة في مادة لا يتخللها قبس من عالم الروح، وتأخذ للدولة كل ما زاد من ثمرات الأفراد، ولم تفلح مع هذا في أنصاف العاملين، لان السادة في روسيا الشيوعية طبقات فوق طبقات في الترف والمتاع، وقد روي الصحفيون إن وليمة الدولة للمستر ويلكي مدن فيها ستون صفحة من ألوان الطعام، فهل يجعلون هذه المائدة مثلا يقتدي به المقتدون؟ أو هي بذخ مقصور على فريق من الضيوف دون فريق؟

والترجمة الإنجليزية التي شملت على تفصيل هذه الخلاصة تقع في مائة صفحة من القطع المتوسط وبعض صفحات، ونحسبها صيحة لا تذهب في الهواء إذا انتشرت بين قراء الإنجليزية الأوربيين والأمريكيين بل الهنديين والشرقيين، ولكننا نقرا فيها إن مؤلفها يلقب بأمير المؤمنين وإنه الخليفة الثاني للمسيح الموعود، ومعنى ذلك أنه من فريق القاديانية الذين يدينون برسالة (مسيحية) أو مهدية للقادياني ولا يكتفون له بوصف الاجتهاد كما اكتفى المولى محمد علي وأصحابه من الهنود المسلمين. فنعجب لهذه الألقاب التي تحيط الدعوة بين المسلمين أنفسهم بأسباب الحبوط والإنكار، ونسأل: ما هو موضع هذه المسيحية الجديدة أو هذه الخلافة إذا كانت الحجج التي ساقها المؤلف كلها من المراجع الإسلامية الأولى ولا زيادة عليها من وحي جديد؟

فخير للدعوة أن تقصي عنها هذه الألقاب التي لا تزيدها قوة وتأخذ منها كثيرا من قوتها بين المسلمين أنفسهم، فضلا عن غير المسلمين.

عباس محمود العقاد