انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 699/إلى وزارة المعارف:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 699/إلى وزارة المعارف:

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 11 - 1946



وعلى هذا فنحن ندور. . .

للأستاذ كامل السيد شاهين

وها هو ذا العام الدراسي قد ابتدأ، بعد أن تحيفته عوامل وأسباب نستكره الخوض فيها، ونرجو أن تكون عوامل خير واستعداد وتهيؤ لا عوامل تخوف واستيحاش وإجفال.

بدا العام الدراسي بعد شهور خمسة قضتها الوزارة في فتح المدارس وتنظيم المصروفات، وإجراء التنقلات والترقيات، وغير هذا مما هو من نصيب المدرس أو الناظر أو المفتش أو المراقب، وكلهم - بحمد الله - يقظ، مفتح العين، مترقب عامل دءوب، متنسم لأخبار الترقيات والعلاوات، متخصص في تطبيق (الكادر) سباق إلى ذوي الخطوة المقربين ليقفز درجة أو ينال مرتبة.

وقد أبلت وزارة المعارف بلاءها السنوي، فنال من نال، وحرم من حرم، وبات الجميع بين مفطور القلب أسوان، ومفتر الثغر فرحان. فآما الذي نسيته الوزارة والقوامون على تصريف شئونها، وأغفلته شر إغفال، ولم يذكرها به مذكر، فذهب ضياعا وراح هدرا، فهو حق التلميذ. فللتلميذ الحق الأول لدى وزارة المعارف؛ وليس حقه هذا في مصروفات تزاد أو تنقص، ولا في غذاء يخفف أو يجود، فالخطب في المال يسير، وهو في الغذاء ايسر، وما كان أمر المال أو الطعام بالأمر الذي يدخل في اختصاص وزارتنا في الصميم، وإنما حقه في تيسير العلم، وترقية الطرق، وتغذية المواهب، وحل المشكلات، والتجانف عن التعقيد والالتواء. وإماطة الأشواك المربكة لعقله، والمعوقة لفهمه، وتنقية الكتب من الطفيليات العلمية التي تتعلق بالأصول المفيدة، فتحد من إفادتها وتقلل من قيمتها.

وما كانت وزارة المعارف - وحاشاها - أن تلتف إلى حق التلميذ هذا، وكيف تلتف وصاحب الحق قاصر، والقوام عليه مشتغل بشأنه عنه؟ وكيف تلتف، وهذه اللفتة لا تفيدها ضجيجاً ولا تلفت إليها الأنظار، ولا تخرجها إلى عالم لا يسمع إلا الفرقعة المدوية، والانفجار الهائل؟

وكيف تلتفت، وهذه اللفتة لا تفيدها ثناء ولا إطراء، ولا تجر إليها إعجابا ولا إكبارا؟ وهي بمنجاة من اللوم، فصاحب الحق خافت الصوت لا يعرف حقه ولا يدريه! ابتدأ العام الدراسي ونظرنا فإذا المقررات هي هي، وإذا الكتب هي هي، منذ عشرة أعوام حتى لكأنما سار هذا الموكب الحافل من المدرسين والمفتشين طوالها لا يلمسون عيباً، ولا يحسون عوجاً، ولا يرضون عنه بديلاً. وكأنما رضوا أما آتاهم المفتشون ولصقاؤهم من كتب خالدة باقية على الزمن يتغير كل شيء ولا تتغير، وتعيش في جو يجر التلميذ والمدرس إليه كرهوا أو رضوا، تعبوا أم استراحوا فإنما هو تأليف فلان أو فلان من الخيرة الأعلام الراسخي الأقدام!

يتغير كل شيء ويتطور، وتخرب الأرض وتعمر، وتقوم الحرب وتضع أوزارها، وتثور الشعوب وتخمد ثورتها، والكتب المدرسية ماضية فيما هي لا تتأثر بهذه الأحداث، وأي عيب في هذا؟

أليست حقائق الأشياء ثابتة ما لها من زوال؟

لقد بحت أصواتنا - حن المدرسين - أن أدركوا الناشئة من التلاميذ التي جنت عليها الدراسات العقيمة في الأدب والقواعد الجافة التي لا تخرج عن إنها مضيعة للوقت ومفسدة للعقل، فقالوا: هدامون نسافون مخربون، فجئنا لهم بالأحجار والملاط، وقلنا لهم شيدوا! أولا، فأفسحوا لنا المجال لنشيد بعيدا عن تحكم المفتشين، وعجرفة المناهج، فأبوا إلا مضياً في الفساد، ورجفت قلوبهم من التغيير والتجديد. وهاأنذا أضع بين يدي القارئين طرفا من هذا العوج حتى يلبوا القائمين على شئون التعليم بوزارة المعارف، ويردوهم إلى شيء من التبصر في أمر هذه الناشئة.

فالتلاميذ في المدارس الثانوية يدرسون أدب اللغة العربية على طريقة التلقين فالحفظ من غير تذوق الإدراك، ولا إحاطة بملابسات العصر المدروس، في كتب مضغوطة محشوة، وكثيرا ما يلجأ المدرس إلى بترها أو مسخها أو سلخها، فيزيد من غموضها وإنبهامها، ويخرج التلميذ بجمل في كل شاعر أو خطيب لا تبقى معه ريثما يخطها على ورقيته ثم يفرق الله بينهما ابد الآبدين.

وقد اقترحنا علاج هذه المشكلة بأن يقرر مع العصر روايات لها فائدتها في إنارة العصر المدروس وأحواله الاجتماعية، فرب رواية تكون أجدى على التلميذ من قراءة كتب من موسوعات أدب اللغة.

اقترحنا أن تقرر رواية (عنترة بن شداد) مع العصر الجاهلي، ورواية (شاعر الملك) مع العصر الأندلسي، ورواية (فارس بني حمدان) مع العصر الثاني العباسي، وأن تنشأ روايات أخرى لهذا الغرض عينه يراعي فيها الإكثار من الشواهد، والتحري لطابع العصر، فلذلك فائدته وجدواه، وقلنا: إن التاريخ الأدبي مغلول بالتاريخ السياسي مقيد به، ومع اعترافنا بقيم الأحداث السياسية، فإننا نرى إن متابعة تاريخ الأدب للتاريخ السياسي خطوة خطوة وشبرا شبرا مما يتضمن الإسراف على حقائق الأدب وتطوره إلى ابعد مدى.

وقلنا: إن الدراسات النثرية في الأدب لم تأخذ حظها وافيا من الدراسة وأن الشعراء خطوا خطوة واسعة، على حين أهمل أمر كثير من الكتاب. ولو إننا تتبعنا الأعمدة التي وضعها الكاتبون في أدب اللغة لتطور الكتابة لوجدناهم قد راعوا ناحية الوظيفة، فجعلوا من الكتاب (الموظفين) أعمدة على حين بقي غيرهم لا يعرف ولا يشار إليه، ففي هذه الطريق تجد (عبد الحميد) وهو موظف، ثم بعده تجد ابن العميد ثم بعدهما تجد القاضي الفاضل، وهما موظفان كذلك. فيملأ العجب جوانحك وتتساءل في استغراب ودهش: أين إبراهيم ابن المهدي، وهو ذو أسلوب في النثر مبتدع؟ وأين الجاحظ سيد كتاب عصره، والذي سوى لنفسه طريقة لا تزال تؤتسى إلى يوم الناس هذا. وهذان مثلان من مثل كثيرة، ليس هذا مقام تتبعها وأياً ما كان، فإنه يجب أن يخطط تاريخ الكتابة تخطيطا جديدا، ويخص بقسط من العناية أوفى.

قلنا هذا كله؛ وسمعنا إطراء وثناء وبدت لنا الآذان مفتحة والنفوس منشرحة ووعدنا بالنظر، فكان النظر في كل شيء إلا في حق التلميذ فقد بقى (على قدمه)، كأنما هذا الذي بين يديه، غاية الغايات وآية الآيات!

وقلنا إن المستوى الإنشائي للتلاميذ غير مناسب، فيجب أن تقرر عليهم روايات أخرى تنزع بهم إلى ترقية الأسلوب وتذوق الجمال في الآثار الأدبي (كآلام فرتر) و (روفائيل) وكتب فيها مقالات امشاج، تذهب في علاج نواحي اجتماعية أو سياسية في أسلوب أدبي راق (كفيض الخاطر) و (مختار البشري) على أن يكون لها نصيب من الدرجات حتى يرغم التلميذ على قراءتها وإجادتها وتذوقها والإفادة منها.

ونحن إذ نهيب بوزارة المعارف أن تولى أمر المناهج والمعلومات التي يتلقاها التلاميذ عنايتها إنما ينفعل بدافع من هذا الأسف الممض الذي يعتصر قلوبنا اعتصاراً على نابتة تنفخ في غير فحم ولا تسير في طريقها على أمم!

ولي عودة إلى مناهج التعليم الابتدائي إن شاء الله.

كامل السيد شاهين

المدرس بالمدارس أل أميرية