مجلة الرسالة/العدد 697/من غرائب النسيان. . .!
مجلة الرسالة/العدد 697/من غرائب النسيان. . .!
للدكتور أحمد فؤاد الأهوساني
كنا جماعة نتحدث في شتى الشئون، فأطلعنا الأستاذ محمد عبد الغني حسن على كتاب فرنسي طبع حديثاً نقل فيه صاحبه مقتطفات من الشعر العربي إلى اللغة الفرنسية، وكانت إحدى هذه القصائد بعنوان (تحت الشراع) للأستاذ عبد الغني ترجمها الناقل عن مجلة (الرسالة) عام 1940. وتتبعنا الشعر الفرنسي محاولين رده إلى أصله العربي فعجزنا، وهنا طلبنا من صاحب الشعر - أي الأستاذ عبد الغني - أن ينشد شعره الذي نظمه، فأجاب: لقد نسيت! قلنا: ألا تذكر مطلع القصيدة؟ قال: لا. قلنا: ولا بيتاً واحداً؟ قال: لا. وهنا بلغ منا العجب مبلغه. . . كيف ينسى صاحب الشيء شيئه هذا النسيان الغريب!
ومن المعروف أن كثيراً من الشعراء يحفظون شعر أنفسهم ولا ينسونه وينشدونه في المناسبات. ومن هؤلاء على سبيل المثال صديقنا الشاعر غنيم. غير أن السؤال الذي يحتاج إلى جواب هو: لماذا ينسى المرء أعماله وآثاره، وبمعنى آخر: لماذا ينسى نفسه؟!
قلت في تعليل ذلك - وسكت الأستاذ عبد الغني عند هذا التعليل دون تعليق -: أن الشاعر شخص مبدع خالق مبتكر قبل كل شئ، مثله في ذلك مثل الفنان الذي يبدع آثاراً فنية، كالتماثيل التي يصنعها النحات، أو اللوحات الزيتية التي يرسمها المصور، والشعر كالتمثال أو اللوحة الزيتية، يتركب من شيئين: من المعنى الحائر في الذهن، أو الفكرة المبتدعة في صفحة الخيال، ومن مادة يصوغ منها الفنان هذه الفكرة؛ فمادة التمثال الرخام أو النحاس، ومادة اللوحة الألوان، ومادة الشعر الألفاظ. وكثيراً ما يسخط الفنان على عمله فلا يرضى عنه، وعندئذ يحطم النحات تمثاله ويكسره ويأبى أن يظهره، أو يمحو المصور لوحته، وقد يتركها دون أن يتمها، أو يأبى وضع اسمه عليها. تعرفت بمصور في مدينة المنصورة كان يشتغل مدرساً بها، اسمه الأستاذ حلمي، ثم طلبت منه صورة زيتية من ريشته أحتفظ بها تذكاراً لصداقته، فأحضر لي صورة تمثل منظراً ريفياً على شاطئ النيل، ولم تكن ممهورة باسمه، فقلت له: ضع عليها خاتمك، فرفض. ولم أثقل عليه، لأني فهمت ما يقصد: الصورة أعجبتني، ولكنها لم تعجبه، ولو أنه صانعها!
فإذا كان الأستاذ عبد الغني قد نسي شعره، فذلك لأنه فنان يسخط على ما يفعل، ولا يرضى عما يبدع، إذ يتطلع دائماً إلى الكمال والترقي. ولو رضى الناس عن أعمالهم ما تقدموا. وأكبر الظن أن الصورة الشعرية تكون في الذهن بالغة غاية الروعة ونهاية الكمال، غير أن تحقيقها في المادة، وصياغتها في أثواب من الألفاظ هو سر نقصها. والمادة هي علة النقص في الموجود.
وأذكر حادثة أخرى من نوع آخر:
ركبت المترو من عماد الدين، حتى إذا بلغت مصر الجديدة في إحدى محطاتها المتوسطة، سألني أحد الركاب - وكان يجلس أمامي - هل هذه الحافظة لك؟ فنظرت إلى جانبي فرأيت مكان الراكب الذي كان إلى جواري خالياً، ورأيت حافظة نقود ليست حافظتي. قلت: أنها ملك الراكب الذي نزل! وهنا سألت نفسي: ما شكله؟ هل هو شاب أو شيخ؟ هل هو هزيل أو بدين؟ هل هو أسمر أو أبيض؟ كل ذلك لم أذكر منه شيئاً كان أحداً لم يجلس إلى جانبي. ثم تناولنا الحافظة وفتحناها ووجدنا فيها أوراقاً باسم (عماد). وبدا لي أن أنادي هذا الاسم لعل صاحبه يستجيب، فقلت: عماد. . . والتفت شاب أوشك أن ينصرف في أعماق الشارع، ولوحت له بالحافظة فأدرك المقصود، وعاد مسرعاً وأخذها شاكراً. هنا فقط تذكرت، أو على الأصح تعرفت عليه، وبأن لي أنني تأملت هذا الشخص حين كان إلى جواري، إذ كان يقرأ كتاباً باللغة الإنجليزية فيه أشكال رياضية، واستنتجت عند ذلك أنه طالب في كلية الهندسة أو كلية العلوم، وكان يلبس بنطلوناً وقميصاً فقط. ثم سألت الراكبين: هل يذكر أحدهم هذا الشخص؟ فقالوا جميعاً: لا. قلت في نفسي: لو أن هذا الشخص ارتكب حادثة أو جناية، ولم تكتشف إلا فيما بعد، ثم طلبنا البوليس إلى الإدلاء بالشهادة فماذا كنا نجيب؟ ثلاثة رجال لا يتذكرون شيئاً عن شخص رابع ظل يجلس معهم نصف ساعة على الأقل، ووقعت أبصارهم عليه، وشاهدوه، ثم ينسون كل شيء عنه. . . هذا أمر عجيب! والأغرب من ذلك اتفاق الثلاثة على هذا النسيان! اللهم أن شهادة الشهود في المحاكم أمر مشكوك فيه، ويجب على القضاة أن ينتبهوا إلى هذه الحقائق النفسية الثابتة بالخبرة والتجربة!
لا أملك الحديث عن زملائي الآخرين، ولكني أعرف نفسي. فأنا حقيقة كثير النسيان، وعلى الخصوص فيما يتصل بأسماء الأشخاص. وهذه مسألة تحدث لي كثيراً من الخجل والارتباك عندما أكون في صحبة صديق، ثم أقابل صديقاً آخر في الطريق مثلا فأحييه ويحييني، ويستوقفني يتحدث إلى، ثم أحاول أن أقدم الشخصين أحدهما إلى الآخر، وهنا تخونني الذاكرة فأفقد اسم صديقي، وقد يكون عزيزاً لدي أعرفه من زمن طويل، وليس ما يدعو إلى نسيان اسمه، فأقع في الحيرة والخجل، وألجأ إلى الحيلة فلا أقدم أحدهما إلى الاخر، وأضرب صفحاً عن هذه المجاملات الاجتماعية الضرورية.
وقد تسألني: ما علة هذا النسيان، وما سبب نسيان أسماء الأصدقاء بالذات؟
الواقع أنني لم أعثر على جواب يقنعني، ولعل أحداً يتبرع بالجواب. . .
أحمد فؤاد الأهواني