مجلة الرسالة/العدد 694/الحلم والتحلم. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 694/الحلم والتحلم. . .

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 10 - 1946



للأستاذ محمود عزت عرفة

- 4 -

(إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتحلم، ومن يتخير الخير يعطه،

ومن يتوق الشر يوقه) حديث شريف

دواع إلى التحلم:

تدعوا إلى التحلم عوارض كثيرة، وأمور متعددة، لأن التكلف كيفما كان خروج على الطبيعة، وتحويل للغريزة؛ وشيء من ذلك لا يكون أبداً وحده، ولا يتم مجرداً عن العلل خارجاً على البواعث والأسباب.

فما يدعو النفس إلى التحلم ويطوعه لها أن تستشعر القدرة على الانتصار فيفثأ ذلك من حر غضبها، ويبدلها بقلقها هدوءاً، ويجزعها تثبتاً واطمئنانا وحينئذ تنتفي بواعث الانتقام، فيكون التحلم الذي يتطاول مع الزمن حتى يصير حلماً، وأكثر ما يكون عفو الملوك لمثل هذا الباعث، وقد مرت بنا أمثلة منه مختلفات. ويكاد يضع يدنا على هذه الحقيقة وضعاً قول المنصور لجعفر الصادق بعد عفوه عن أهل المدينة: إنك لتعلم أن قدرتي عليهم تمنعني من الإساءة إليهم.

ومن كلام بعض الحكماء: ليس الحليم من ظلم فحلم، حتى إذا قدر انتقم؛ ولكن الحليم من ظُلم فحلم؛ حتى إذا قدر عفا.

ويقول عبد الله بن مسعود: انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه، وأمانته عند طمعه. وما علمك بحلمه إذا لم يغضب؟ وما علمك بأمانته إذا لم يطمع؟

وقد نصح معاوية لابنه يزيد فقال: عليك بالحلم والاحتمال حتى تمكنك الفرصة؛ فإن أمكنتك فعليك بالصفح، فإنه يدفع عنك معضلات الأمور، ويوقيك مصارع المحذور. . . ولعل هذا الخلق الكريم - العفو عند المقدرة - يعد أشرف مواقف الرؤساء، وأدلها على أصالة النبل في نفوسهم، واستحواذ الكرم والفضيلة على طباعهم.

ومن البواعث على التحلم أيضاً ما يكون من الاستهانة بالمسيء أو استضعاف شأنه، حتى كأنه المعني بمثل قول (مسلم):

فاذهب فأنت طليقُ عرضك إنه ... عِرضٌ عززْتَ به وأنت ذليل

وبمثل قول الآخر:

نجابك عرضُك منجى الذبابِ=حَمته مقاذيرُه أن ينالا!

ولقد عفا مصعب بن الزبير - لمثل هذا الباعث - عن قاتل أبيه. فقد روى أنه لما ولي العراق جلس يوماً لعطاء الجند، وأمر مناديه فنادى: أين عمرو بن جرموز؟ - وهو الذي قتل أباه الزبير - فقيل له: أيها الأمير، إنه قد تباعد في الأرض. فقال: أيظن الجاهل أني أقيده بأبي عبد الله؟ فليظهر آمناً ليأخذ عطاءه موفوراً. . .!

وقال عمر بن الخطاب لأبي مريم السلولي قاتل أخيه زيد بن الخطاب - وقد كان كفه عن دينه وورعه وعدالته -: والله إني لا أحبك حتى تحب الأرض الدم! قال: أفيمنعني ذلك حقاً؟ قال: لا. قال: فلا ضير، إنما يأسى على الحب النساء!

ولقد يدعو إلى التحلم فرط السآمة من الانتقام، ورغبة النفس عن التشفي لطول ما بلغت من ذلك حظها، والشيء إذا زاد عن حده مال ضده، وللنفوس ثورة تجنح معها إلى السكون، ومؤاخذة تميل بعدها إلى المتاركة، ويبدو ذلك المظهر واضحاً فيما يسجله التاريخ من عفو المنصور بعد حروبه مع العلويين، وتسامح المأمون بعد حوادث الفتنة بينه وبين أخيه الأمين. ولما انتهت فتنة ابن الأشعث أتى عبد الملك بن مروان بأسارى موقعة دير الجماجم؛ - وكانوا ممن خانوا عهده ونقضوا بيعته وقاتلوا جنده قتالاً عنيفاً - فقال لرجاء بن حيوه: ما ترى؟ قال: إن الله تعالى قد أعطاك ما تحب من الظفر، فأعط الله ما يحب من العفو! فلم يكن بأسرع من أن فك قيودهم وعفا عنهم.

ونحن لا نكاد نفهم عفواً يصدر عن الحجاج - أضمأ ولاة المسلمين إلى الدماء - إلا على هذا الوجه، ولمثل ذلك الباعث. فهو قد أبلى في قتال أبن الأشعث أعظم البلاء، وذاق أمام قواته مرارة الهزيمة وحلاوة الانتصار، حتى قهره في موقعة دير الجماجم فلما عرض الأسرى من رجاله على السيف مثل أمامه الشعبي في جملتهم. فقال: أصلح الله الأمير، نبا بنا المنزل، واجدب الجناب، واستحلسنا الخوف، واكتحلنا السهر، وضاق المسلك، وخبطتنا فتنة لم نكن فيها بررة أنقياء، ولا فجرة أقوياء. قال الحجاج: صدقت، والله ما بررتم بخروجكم علينا ولا قويتم. . . خلوا سبيل الشيخ!

وكان قوم يتحلمون على السفهاء إذا اعترضهم الأذى، بل ربما تعرضوا إليهم عامدين طلباً لاكتساب الحلم وتدرباً عليه، وقهراً للنفس على السكون، وتعويداً لها على المسامحة. روى أن جعفر بن محمد الصادق كان إذا أذنب له عبد أعتقه. فقيل له في ذلك فقال: إني أريد بفعلي هذا تعلم الحلم! ومن كلام الأحنف ابن قيس وكان من أحلم الناس: لست بحليم ولكني أتحلم!

وبقول أبو عثمان الجاحظ في بيانه وتبيينه: (كانوا يأمرون بالتحلم والتعلم، وبالتقدم في ذلك أشد التقدم)، وحجة القائلين بهذا أن تكلف الفضيلة عند فقدها فضيلة. نعم، يفرق الصوفية - في المعنى وفي الدرجة - بين حالتي الوجد والتواجد مثلاً، ولكنهم لا ينكرون المقام الأخير متى قصد به التوسل إلى بلوغ الأول وتحصيله، والأصل عند الجميع في هذا ما يروي عن الرسول عليه الصلوات من قوله: إن لم تبكوا فتباكوا!

هذا وقد تحمل الشفقة على المسيء والرحمة إلى مقابلته بالحلم، إذا ما تقرر في الذهن أن الإساءة لا تعدو أن تكون تصرفاً مريضاً مبعثه الجهل، وأن صاحبه أولى بالعلاج منه بالعقوبة، وهذا باعث كريم على التحلم لا يتسامى إليه من النفوس إلا أكرمها عنصراً وأزكاها جوهراً.

ولقد عوتب كسرى أنوشروان مرة على ترك عقوبة المذنبين فقال: هم المذنبين ونحن الأطباء، فإذا لم نداوهم بالعفو فمن لهم؟. وقال إبراهيم التيمي: إن الرجل ليظلمني فأرحمه! قال الغزالي: (وهذا إحسان وراء العفو، لأنه يشتغل قلبه بتعرضه لمعصية الله تعالى بالظلم، وأنه يطالب يوم القيامة فلا يكون له جواب).

وحكي الفضيل بن عياض قال: ما رأيت أزهد من رجل من أهل خراسان، جلس إليّ في المسجد الحرام ثم قام ليطوف، فسرقت دنانير كانت معه. فجعل يبكي. فقلت: أعلى الدنانير تبكي؟ فقال لا، ولكن مثلتني وإياه بين يدي الله عز وجل، فأشرف عقلي على إدحاض حجته، فبكائي رحمة له!

وقد يحلمون - في غير موضع الحلم - تجانفاً عن شبهة قد تعرض في القصاص وإن كان عدلاً، والتماساً لمرتبة من الخلق أسمى من هذا العدل، وأبعد مما يتلبس به من تلك الشبهة.

قال عمر بن عبد العزيز لرجل غلط غالطاً أشتد له غضبه: لولا أنك أغضبتني لعاقبتك. وإنه في هذا ليأتسي بجده أبن الخطاب، وقد أشرنا - فيما سبق - إلى كفه عن السكران الذي شتمه، وقوله: إنه أغضبني، ولو عزرته لكان ذلك لغضبي لنفسي. . .

وربما يكون التحلم وسيلة لتحقيق غاية بعيدة، خفية أو ظاهرة؛ من تطيب نفس، أو ربَّ صنيعه، أو إتمام سالف جميل، أو مراعاة قديم حرمة، أو تمهيد لاستعانة وتكليف. وكان أصحاب الجنايات من الولاة والوزراء والعمال يدركون هذا الباعث، ويعملون على أثارته في نفوس الخلفاء إذا هم تعرضوا لسخطهم وصاروا موضع نقمتهم.

ولى معاوية روحَ بن زنباع ثم عتب عليه في جناية فكتب إليه بالقدوم. ولما قدم أمر بضربه بالسياط، فلما أقيم ليضرب قال: أنشدتك الله يا أمير المؤمنين أن تهدم مني ركناً أنت بنيته، أو أن تضع مني خسيسة أنت رفعتها، أو تشمت بي عدواً أنت وقمته، وأسألك بالله إلا أتي حلمك وعفوك دون إفساد صنائعك. فقال معاوية: إذا الله سني عقد أمر تيسر. . . خلوا سبيله.

ومن العفو لمثل هذا الباعث عفو الأمين عن الحسين بن علي ابن عيسى بن ماهان، وكان قد انتقض عليه أيام حربه مع المأمون، وخلعه وحبسه يومين في قصر أبي جعفر، ثم بايع للمأمون ولكن قام أسد الحربي وجماعة فدافعوا عن الأمين، فيلوا رأي الجند فيما صنعوه من طاعة الحسين بن علي. ثم قاموا فقاتلوا الحسين وأصحابه، وكسروا قيود الأمين وأجلسوه في مجلس الخلافة، ولما أتى بالحسين لامه على انتقاضه وذكره بسالف نعمته عليه وعلى أبيه (وكان أبوه قد قتل على رأس جيش الأمين في حربه مع المأمون)، ثم قال الأمين: ما الذي استحققت به منك أن تخلع طاعتي، وتؤلب الناس عليّ، وتندبهم إلى قتالي؟ قال: الثقة بعفو أمير المؤمنين، وحسن الظن بصفحه وتفضله. قال: فإن أمير المؤمنين قد فعل بك ذلك، وولاك الطلب بثأرك ومن قتل من أهل بيتك! ثم دعا له بخلعة فخلعها عليه، وحمله على مراكب وأمره بالمسير إلى حلوان. وخرج الحسين فهرب مرة أخرى في نفر من خدمه ومواليه؛ فنادى محمد في الناس فخرجوا في طلبه حتى أدركوه فقتلوه. . .

وقد يدفع بالنفس إلى التحلم مجرد ما تدركه من فضيلة الحلم، وما تشاهد من جميل أثره على المتصفين به في الدنيا؛ مع ما ينتظرهم من الكرامة عند الله في الآخرة. ذلك أن الفضائل كلها صور جذابة حالية يكفي أن تهتدي الفطر السليمة إلى حقائق جمالها، أو تشهدها على المتخلفين بها حتى تجنح إلى اكتسابها والتمسك بأسبابها. قال الأحنف بن قيس: تعلمت الحلم من قيس بن عاصم!

والذي يتفهم قول عليّ عليه الرضوان: أول ما عوض الحليم من حلمه أن الناس كلهم أعوانه على الجاهل. لا يرى في الحلم إلا خيراً كله. بل من يعرف أن الله سبحانه سمى نفسه (الحليم) ولم يتسم بالعاقل أو العالم يتبين له قدر الحلم بين الفضائل بحالة لا تدع له دون التمسك به من سبيل.

يقول الغزالي في كتاب ذم الغضب من سفر الإحياء: ينبغي أن يعالج هذا الجاهل - يعني الغضوب غير المتحلم - بأن تتلى عليه حكايات أهل الحلم والعفو، وما استحسن منهم من كظم الغيظ، فإن ذلك منقول عن الأنبياء والأولياء والحكماء والعلماء وأكابر الملوك الفضلاء، وضد ذلك منقول عن الأكراد والأتراك والجهلة والأغبياء الذين لا عقول لهم ولا فضل فيهم.

(للحديث بقية أخيرة)

محمود عزت عرفة