مجلة الرسالة/العدد 694/الأدب في سير أعلامه:
مجلة الرسالة/العدد 694/الأدب في سير أعلامه:
ملتن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 29 -
البطل الضرير:
وآن أنْ يتجه ملتن إلى الأدب بعد طول انقطاعه عنه، وكان يميل به إلى الأدب ما تنطوي عليه نفسه من حنين إليه شديد، ما برح يملأ خاطره كلما خلا إلى نفسه لحظة من السياسة ومشكلاتها وخصومتها، وتزايد هذا الحنين في نفسه إلى الشعر حين اطمأن قلبه من جهة إلى أنه أحسن البلاء فلم يعد يقوى على مجادلته خصيم، وحين توجس قلبه من جهة أخرى خوفاً من المستقبل، إذ كان يكربه إعراض الناس عن الجمهورية، وتزايد رغبة الكثرة في إعادة الملكية وإن كان لا يجرؤ أحد على الجهر بذلك؛ وكذلك دب إلى قلبه السأم من كرمول نفسه فيما يتصل بسياسته الدينية إذ كان كرمول لا يريد أن يتحول عن إقامة كنيسة تشرف عليها الدولة، ويكون لرجالها حقوق وامتيازات مالية؛ وكان ملتن شديد التمسك بفصل الكنيسة عن الدولة لأنه يعتقد أن قيام طائفة دينية تعتمد في حياتها على الدولة هو سبب ما يلحق بهذه الطائفة من فساد، ثم تكون هذه الطائفة بدورها السبب الأكبر في فساد الدولة. . .
لهذا رغب ملتن وقد أزعجه شبح اليأس أن يعكف على الشعر فلا تكون له إلى السياسة عودة، وقد جعل مرتبه معاشاً له مدى حياته فزالت مخاوف الرزق، والحق أنه بعد رده على مورس بات فيما يشبه العزلة، أما عمله الرسمي فكان نائبه فيه يؤديه عنه إلا إذا استدعى الأمر إشرافه، ولم يك ذلك في الأكثر إلا عند كتابة الرسائل الهامة باللاتينية أو ترجمة ما يرد منها إلى الإنجليزية وكان يستعان بغيره أحياناً فيما يتطلب الدقة والمراجعة.
ولم يستدع إشرافه واهتمامه بعد تلك المعارك العنيفة بينه وبين خصوم الجمهورية إلا حادث وقع سنة 1655 فاهتز له البروتستانت في أوربا كلها، واهتم به كرمول اهتماما عظيماً، وشايعه في ذلك ملتن وامتلأت يده بسببه بالمكاتبات وذلك هو مذبحة بيدمنت؛ وخلاصتها أن شارل عما نويل الثاني دوق سافوي وأمير بيدمنت، قد أنذر البروتستنت في بيدميت منه بريح عاتية فعليهم أن يعتنقوا الكاثوليكية وإلا فليخرجوا من ملكه في مدى عشرين يوماً، وكأنما رأى هذا الأمير أن المذاهب حتى الدينية منها كالثياب لا يكلف الناس فيها إلا استبدال ثوب بثوب! ورفض البروتستنت في بيدمنت أن يذعنوا لهذا الطغيان وآثروا أن يذوقوا العذاب ألوانا، فأرسل عليهم الملك طائفة من جنده أكثرهم من المرتزقة، وما فيهم إلا كل فظ غليظ القلب كأنما قدمت كبده من صخر فأخذوا يذبحون من يلقون أو يقذفون بهم رجالا ونساء وأطفالا من فوق الجبال إلى الأودية ولقد وجد الناس أما ورضيعها في قرار سحيق في أحد الأودية، قد ألقى بهما من فوق الجبل، أما الأم فكانت جسداً هامدا ولكنها كانت تحتضن بيديها الميتتين الباردتين رضيعها ولما يزل على قيد الحياة. . .
وضج البروتستنت في أوربا بالسخط، وقال كرمول إن الحادث قد مس قلبه كما لو كان يتصل بأقرب الناس إليه وأعزهم عنده، وأمر فجمع الشعب الإنجليزي أربعين ألف جنيه معونة للمنكوبين، وأحتج كرمول، وأخذ يتأهب ليعقب احتجاجه بتدخل مسلح لولا أن تداركت فرنسا الأمر، وحملت شارل عما نويل الثاني على سحب قراره. فعاد إلى البروتستنت في بيدمنت الأمن والهدوء.
ولم يقتصر ملتن على إملاء رسائل الحكومة؛ بل أعلن سخطه في مقطوعة من أقوى مقطوعاته الشعرية ومن أكثرها ذيوعا قال: (انتقم أيها المولى العلي لقديسين. المذبوحين الذين تتناثر أعظمهم على جبال الألب الباردة، فقد حل العذاب حتى بهؤلاء الذين حافظوا على دينك الحق خالصاً كما كان في عهده الأول في حين كان يعبد آباؤنا الأوثان والأحجار؛ لا تنسهم أيها المولى، وسجل في كتابك أنين هؤلاء الذين كانوا قطيعك والذين ذبحهم في قرارهم القديم أولئك السفاحون من أهل بيدمنت، وألقوا بالأم وطفلها من حالق فوق الصخور ترميهم صخرة إلى صخرة؛ لقد كان لأناتهم في الأودية صدى رفعته إلى التلال، ونقلته التلال إلى السماء؛ انثر أيها المولى دمائهم الشهيدة وأشلاءهم على حقول إيطاليا كما تنثر البذور حيث لا يزال يتسلط الطاغية الثلاثي عسى أن ينمو من هذه مائة نمو فيكون منها جيل يعجل وقد علم سبيلك بالقضاء على هذا الكرب البابلوني).
وجنح ملتن إلى العزلة بعد هذا الحادث، وكان يقضي اكثر الوقت في بيته، يقرأ له ابن أخته أو غيره من تلاميذه القدامى أو من محبيه من المتأدبين حاشيتي النهار وطرفاً من الليل، وكان يدير في رأسه في تلك الأيام ما عسى أن ينهض له من الشعر. ففكر في أن يجعل موضوعه بطولة الملك آرثر، ذلك الموضوع الذي فكر فيه من قبل فينظم الآرثريادا كملحمة يسجل فيها فترة من تاريخ قومه؛ ولكن أكثر اتجاهه كان إلى موضوع آخر كما يذكر ابن أخته وذلك هو (قصيدة من قصائد البطولة عنوانها الفردوس المفقود)، واقتصر جهده على التدبير في هذا الموضوع والصورة التي يصوغه فيها وقراءة ما يتصل به، وكان أول الأمر يريد أن يتخذ نوعاً من المسرحيات لباساً له؛ على أنه كما يذكر ابن أخته فيلبس لم يبدأ نظم قصيدته فعلاً إلا سنتين قبل عودة الملكية أي سنة 1685. . .
وكانت الحكومة قد أسكنت ملتن هويت هول في أول عهده بالوظيفة، ولكنه لم يلبث هناك طويلاً فاستأجر بيتاً على مقربة من حدائق سان جيمس وعاش فيه منذ سنة 1652، وفي هذا المنزل أقام ملتن حتى سنة 1660 حيث أجبرته عودة الملكية إلى الاختفاء حينا لينجو بنفسه من الهلاك.
وكان يزوره في منزله أصدقاؤه، وهم بين تلميذ له جاوز مرحلة التعلم أو معجب به من المثقفين، وقل في زائريه من كان من المبرزين من رجال العصر في الأدب أو في السياسة أو في الدين، وذلك أن اعتداد ملتن برأيه وتعاليه بثقافته جعلا بينه وبين أكثر الناس ممن يرون أنفسهم أندادا له حجابا كثيفاً، فكان هؤلاء يرمونه بالكبرياء والصلف ويكرهون منه أن ينظر إليهم من على نظرة ترفع وتحفظ وإعراض، هذا إلى أن آراءه الدينية قد باعدت بينه وبين النابهين من البرسبتيرنز، وميوله السياسية قد جعلت من الملكيين أعداء له، وعنفه في الخصومة قد ألقى في روع الناس أن من يتصل به لا يأمن أن يصبح من عدوه لأقل خلاف في الرأي أو العقيدة.
ويجب أن نضيف إلى تلك الأسباب محبته للعزلة منذ أيامه في هورتون وعكوفه على المطالعة والدرس؛ فقد كان ميله إلى العزلة من الظواهر الواضحة في حياته؛ وقد كرهت إليه محبة العزلة لقاء الناس وغشيان مجالسهم أو سوامرهم، وعنده من الكتب عن ذلك عوض. ففيها لنفسه ولعقله متعة حق متعة.
ونستطيع أن نتبين مقدار ما كان بينه وبين نابه عصره من جفاء مما ذكرته أرملته عن رأيه في هوبز الفيلسوف الكبير قالت (لم تكن له معرفة به، وكان لا يحبه زوجي أبداً وإن كان يصرح أنه رجل ذو نواح عظيمة).
وكان من احب أصدقائه إليه وأكثرهم اختلافاً إلى منزله وأقربهم مجلساً منه لورنس وسيرياك سِكَزْ ونيدهام وهارتلب وأولدنبرج وأندرومافل، وكان الأولان تلميذين له أما البقية فكانوا من ذوي المكانة الأدبية وعلى الأخص أخرهم ذلك الذي اختير مساعداً لملتن في وظيفته الرسمية سنة 1675، وكان مارفل متين الخلق كصاحبه لا تضعضعه النوائب ولا تحني رأسه الفاقة، وكان أصغر من ملتن باثنتي عشرة سنة وكان مثله متخرجاً في كامبردج، وقد احب ملتن حبا شديداً وأعجب به إعجابا عظيما فتوثقت بينهما عرى المودة وظل مارفل على ولائه له حتى فرق بينهما الموت.
ويذكر فيلبس أنه كان يزور خاله أبان السنوات الثمانية التي قضاها فيما يشبه العزلة قبل عودة الملكية عدد كبير من ذوي المكانة ثم لا يشير إلا إلى اثنين: ليدي وانالا ودكتور باجت، وكانت ليدي رانالا على حظ من الذكاء غير قليل كما كانت ذات ثقافة وذات ميول حرة؛ وكانت قد وكلت إلى ملتن تعليم ابن أخ لها ثم ابنها من بعده، وقد أعجبت بالشاعر العظيم ولما كان لا يستطيع زيارتها كانت تزوره هي وتستمع في إكبار وإجلال إلى حديثه. . .
وحدثت عنه دبورا إحدى بناته فقالت: (إنه كان جليسا مؤنسا، وكان حياة حلقة من الصحاب تدور به، وذلك لأنه كان يتدفق بشتى الأحاديث والموضوعات وكان عذب الروح مرحاً ذا مودة في غير تكلف لشيء من هذا).
والحق أن ملتن كان لين الجانب طلق المحيه محبب العشرة صادق المودة لمن يجلس منه مجلس التلميذ من أستاذه وهؤلاء هم خاصته الذين ذكرنا، وكانت لهجته في مخاطبتهم لهجة المعلم، وكان يتلو عليهم ما يظن أنهم في حاجة إلى معرفته ولا يجب أن يجادلهم أو يبادلهم حجة بحجة فليس هذا شأن الأستاذ مع تلاميذه، وما منهم إلا من يكبره ويخفض له جناحه ويغض عنده من صوته، وإن كثيراً منهم ليتنافسون من يكتب له إذا أملى ومن يقرأ له إذا طلب بحثاً من البحوث، ومن يقوده ويأخذ بيده ليمشي ساعة في الحدائق القريبة، وكلهم بذلك مغتبط أيما اغتباط.
وكان يزوره في منزله كثير من كبراء الأجانب ممن يهبطون إنجلترا، وكانوا يسمعونه عبارات التجلية والإعجاب، ويذكر اوبري أحد مؤرخي حياته في ذلك قوله (إن الحافز الوحيد الذي كان يحفز فريقاً من الأجانب لزيارة إنجلترا كان في الأكثر رؤية أليفر كرمول حامي الجمهورية ومنستر جون ملتن، وكانوا يرغبون أن يروا بيت الشاعر والحجرة التي ولد فيها فقد كان الإعجاب به خارج إنجلترا أشد منه في موطنه كثيراً).
وكان يعينه في كثير من شؤونه إلى جانب أصدقائه أبنا أخته. أما بناته الثلاثة فكن صغيرات فقد تركتهن أمهن حين ماتت منذ ثلاث سنوات أي سنة 1652 وكبراهن في السادسة من عمرها ووسطاهن في الرابعة وصغراهن بنت شهر واحد.
وفي سنة 1656 تزوج ملتن بزوجة ثانية، وقد جاءت كما أحب رجاحة عقل وصدق عاطفة، وأستثنى الشاعر نسيم المودة والرحمة بين يديها، وأحس كأنما يحيي حياة جديدة على الرغم مما يحيط به من ظلمة، وكان كمن ألقت به الصحراء المجدبة إلى واحة ظليلة؛ ولكنه لم يلبث في واحته هذه أو جنته إلا خمسة عشر شهراً ثم نكبته النكبة في زوجته فكأنما كان يكيد له الدهر حين أذاقه النعيم فما كان ذلك منه إلا ليعظم في نفسه الهول الجحيم وماتت الزوجة كسابقتها في سرير الوضع وتركت له كذلك أنثى، لم تعش بعد أمها إلا نحو شهر؛ وفزع الشاعر إلى قيثارته يخفف عن نفسه ما يعالج فيها من حزن، وكأنه من فرط ما في جوفه من حريق يحس كأن الجحيم نفسها تتنفس على كبده. قال الشاعر المحزون: (رأيت فيما أرى النائم أن قديستي التي تزوجت بها أخير قد أحضرت إلى من القبر كما أحضرت أليستس التي أرجعها الابن الأكبر لجوف إلى زوجها الذي امتلأ فرحاً وقد نجاها ابن جوف من الموت بقوة ولو أنها ظلت شاحبة هزيلة، ولكن امرأتي جاءت كما لو أنها اغتسلت مما يتركه الوضع فتخلصت بذلك من التطهر وفق الوضع القديم؛ ونظرت فإذا بي كأني املأ منها عيني في الجنة بغير عائق ما، وقد خطرت في ثياب بيضاء نقية نقاء عقلها، ولكن وجهها كان مقنعا، بيد أنى أبصرتها بعيني خيالي فإذا الحب والجمال وطيبة القلب تضيء في هيكلها بصورة لن يكون أحسن منها وأبهج في وجه من الوجوه. . . ولكنها يا ويلتا ما كادت تميل إلي لتعانقني حتى صحوت فلم أجدها ووجدت النهار يحيطني ثانية بليلي المظلم).
هذا هو الشاعر يصف في هذه المقطوعة الجميلة مبلغ حزنه ولكن به كبرياء أن يصرعه الخطب؛ وإن صدق إخلاصه للشعر واعتقاده أنه خلق لعظيمة فيه ليرتفع به عن الحزن؛ وكان يجد عزاءه فيما يقرأ له أصدقاؤه وفيما تنطوي عليه نفسه وتختزنه ذاكرته؛ وإنه في هذا ليتداوى بالتي كانت هي الداء، فهذه الكتب هي التي أفقدته ناظريه؛ على أنه اليوم يقرؤها بعيني غيره.
وكان يقول لمن حوله إن خياله يضيء ويلمع في الظلمة أكثر مما يضيء في النور، وأن النور لم يذهب عنه ولكنه تسرب إلى داخله ليرهف مخيلته وعقله، وتلك تعلات كان لابد له منها لكي يقوى على ما كان يحيط به، وإنه لينهض على ما هو فيه لقصيدة تضعه في مستوى هوميروس ودانتي، وما نعرف شاعراً كانت حاله أكثر سوءاً من حال هذا الشاعر حين يضطلع بعبء كهذا العبء وفي هذا أبلغ شاهد على سمو روحه وقوة نفسه.
(يتبع)
الخفيف