مجلة الرسالة/العدد 692/القصص
مجلة الرسالة/العدد 692/القصص
لا قدر الله. . .!
للروائي الإنجليزي أوسبرت سيتويل
لست أعرف بعد كيف ستنتهي هذه القصة، فإن ما سأقصه عليك إنما حدث صباح أمس، قبل أن أغادر السفينة في السويس.
جلست على كرسي طويل من القماش، وإلى جانبي أكداس من الكتب وصحفة حساء فارغة، أتطاول ببصري إلى الفضاء المكلل بالغمام، الفضاء الخاوي الذي لم يخفف من وطأته على الصدر سمك يتواثب فيسلي المسافرين. بدا كل شيء دفيئاً رطباً بالغ الرطوبة. وكانت حافة السماء تتدلى منها أعلام مهلهلة من السحب، وقد ذابت فيها حافة البحر. وكان الرجل الجالس بجواري قد بسط على حجره كتاباً مفتوحاً، وإلى جانبه أيضاً عدة كتب، وكان هو الآخر يحملق بنظرة ثابتة إلى المنظر المائي الخاوي. كان البحر يثير روحاً من الكآبة والاغتمام، لا يساعد على احتمالها إلا ما تبعثه في النفس من الفتور والكسل، وأنها تولج اليوم في اليوم فتحمل أناسا كثيرين على الاعتقاد بأنهم لابد قد تمتعوا بالرحلة مادام الوقت قد مر بهذه السرعة. كان من الواضح أن هذه الروح الكئيبة المغتمة تخيم علي وعلى جاري أيضاً. كان جاري طويل القامة نحيفاً دقيق اليدين، وكان يبدو على خلقته حساسية بالغة الارهاف، وساءلت نفسي من تراه يكون. . . لم تكن الكتب التي بجواره تساعدني على إجابة هذا السؤال، إذ كانت متنوعة: ترجمة لمجموعة شعر إغريقية، ورواية عصرية، وكتاب علمي، ودراسة لسيرة أحد السياسيين، ومجموعة من القصص القصيرة الحديثة. ثم لاحظت معها كتاباً من كتبي، وهو ذلك المسمى (الرجل الذي فقد نفسه) وبغتة حوَّل عينيه عن الماء وخاطبني قائلا: (أتحب البحر؟). فأجبت: (نعم أنا أحبه، نوعاً من الحب، على الرغم من ملاله، وما يبعث في لسوء الحظ من الرعب. أنني بحار ماهر، ولكن حين يتمدد الآخرون في فرشهم الخشبية يتمنون لو أنهم يغرقون، أتمدد أنا على فراشي الخشبي، مرتدياً جميع ملابسي، أبتهل إلى الله ألا أغرق، وأفكر في الخضم الشاسع من المياه الذي يتلاشى فيه رأس الإنسان فلا يكاد يكون شيئاً. ذلك هو السبب في أنني أفضل البحر الأبيض المتوسط، حيث نكون عادة على مرأى من البر. . . لكن يبدو أنه قد اختفى كلية في هذا اليوم. . . بل ليتني أبلغ قناة السويس، فإني أرتقب أن أحظى بوقت ممتع).
قال: (نعم أنا أعرف هذا الشعور، فإنه يداخلني أنا أيضاً بعض الشيء. وما دمت أنت كاتباً، فسأقص عليك قصة عنه ولكن أرجو ألا تكون ممن يؤمنون بالطيرة والفال
ربما لا تستحق هذه القصة أن تسمى قصة في واقع الأمر. هي شاهد أكثر منها قصة، أو هي برهان على إحدى النظريات. . . هذه النظرية، أو المغزى، هي تلك النظرية القديمة البديهية التي شغف أحد الروائيين المحدثين بترددها، وهي أن ما تشعر به يكون أشد صدقاً، ولا بد أن يكون دائماً أشد صدقاً، من مجرد الفكرة التي تدور بخلدك. أو بعبارة أخرى، اعتمد في حكمك على اللمس، لا على البصر. ولكن الناس في هذه الأيام تعوزهم الشجاعة التي تجعلهم يعملون كما يشعرون، فهم يعملون طبقاً للعقل، ثم يحاولون أن يخترعوا تفسيراً منطقياً فيما بعد، يفسرون به الأشياء الفذة التي تحدث لهم. لكن لا جدوى من وراء هذا مطلقاً
كانت السفينة مبحرة إلى أمريكا الجنوبية. غادرت تلبري في عصر يوم ممطر من أيام ديسمبر، ولكن في اليوم التالي كان البحر هادئاً كأنه بركة زرقاء في فصل الصيف. واستمر كذلك ثلاثة أيام، حتى عندما عبرنا خليج بسكاي. ولكن برغم هدوء البحر تأخرنا عن الوصول إلى لشبونة، حتى إذا وصلنا إليها اخذ موظفو الميناء يتجادلون جدالا لا ينتهي، كأنهم عقدوا العزم أن نتأخر عن الإقلاع من الميناء. وقفت أرقب المسافرين النازلين وأستمع إلى المشاجرة البرتغالية الصاخبة تعلو وتتناثر كأنها صواريخ مبتلة، بين وكيل السفينة وأحد موظفي الجمرك. . . لم يكن بين المسافرين الجدد من يلفت النظر إلا امرأة إنكليزية وزوجها. كانت جميلة حقاً، ولكن جمالها كان من نوع عجيب، كأنها إلهة القدر الإغريقية. كانت عيناها واسعتين ذواتي زرقة عميقة، يمكن أن تقرأ فيهما معاني كثيرة، أحدها صادق وكثير منها كاذبة. كانت قسماتها المذعورة الحجرية كأنها تمثال كلاسيكي، يكمن فيه شيء من المأساة. ثم إني ظننت أو الأحرى أن أقول أحسست أن بقسماتها شيئاً من حورية البحر. إذ انتمت عيناها إلى البحر. . . كان زوجها إلى جانبها يبدو عادي المظهر. لكن منظرها الفذ كان مقتصراً على محياها، أما ملابسها فكأنها اختيرت بحيث تمحو الأثر الذي يخلفه جمالها العجيب، وتحط من سموه وتجعله عادياً مألوفاً.
في الصباح التالي كنت جالساً على ظهر السفينة، كما أنا جالس الآن معك، فوجدتني مجاوراً لهما. وبعد أن بعثنا برهة بكتبنا عبثاً يشابه في اضطرابه حركة السفن واهتزازها - حقاً إن هناك رابطة قوية بين دوار البحر والكتب المطبوعة - بدأنا نتحدث قليلاً. وحين تحدثا لم يتركا في النفس أثرا غير عادي، وكان صوتها هادئاً مليئاً بالاهتمام ثابت النبرات وإن كان فارغاً بعض الشيء، ولم يكن به أي عنصر غريب من المأساة أو من النبوءة. ولكن برغم ذلك عرفت، بل شعرت وأحسست، بأنها كانت تصلها بتلك العناصر الغريبة صلات وثيقة. تجاذبنا أطراف الحديث ساعتين أو أكثر، وكان البحر قبل ذلك هادئاً كالبساط، ولكنه بدأ في خلال محادثتنا تظهر عليه علائم التغير الأكيدة. وكأنه كان يحاول اختبار قواه ليستخدمها في مناسبة مقبلة. فصفرت في جنباته رياح هينة، وأخذت السفينة هزةٌ أثارت المزاح والضحك المعهودين بين الشبان من المسافرين الذين كانوا يتنقلون على ظهر السفينة في جلبة، وضاعفت من حماسة اللاعبين في لعبهم المختلفة، فازدادوا مرحاً، حتى يخفون ما شعروا به من بداية التقزز والغثاثة. . . تسألني عم كنا نتحدث؟. . . قد نسيت، ولكنها كانت أشياء مختلفة، من السياسة، والأسفار، والكتب الكتب البريئة المملة.
ولكن كلما مرت دقيقة ازداد التحدث صعوبة، إذ ارتفعت بين آونة وأخرى أصوات الأشياء المتصادمة، ازدادت الريح دوياً، وإن كان الركن الذي انتحيناه محمياً هادئاً بعض الشيء. . . أخبرتني أنهما كانا ذاهبين إلى بونس أيرس، حيث يمكثان أسبوعاً، ثم يعودان إلى وطنهما مباشرة. فإن المستر روفني - وهذا اسم زوجها - كان مريضاً، وقد نصحه الطبيب بالقيام بهذه الرحلة البحرية. وقال الزوج: (لقد حاولت أن أثني زوجتي عن المجيء، ولكنها ألحت. أنا لم أغرك بالمجيء يا حبيبتي، أليس كذلك؟ لقد بذلت كل جهدي لمنعك).
كلا، لست أستطيع أن أتذكر كل المحادثة بجلاء، وإنما أتذكر شيئاً أو شيئين من هذا القبيل. أتذكر المسز روفني تقول، بصوتها الحازم الذي لا يقبل أي سخف أو عبث، والذي كان مع ذلك فارغاً بدرجة عجيبة، ذلك الصوت الذي نطق بالأشياء كأنه لا يعنيها - أتذكرها تقول: (مهما يكن من شيء. فأنا مؤمنة بالقضاء والقدر. أنت لن تستطيع النجاة مما سيحدث لك فهذا هذا، وما عليك إلا أن تتقبله بأحسن ما في استطاعتك. لن يستطيع ثعلب أن ينجو إلى الأبد، إذا كانت كلاب الصيد تطارده). . . أنا أتذكر ذلك جيداً، فإن هذه الملاحظة، برغم أنها شيء معهود طالما سمعناه على الرغم منا، ضايقتني إذ ذاك أشد مضايقة، حتى كدت لا أكتم سخطي؛ إذ وجدتها لا تنسجم مع ذلك الجمال العجيب، أو ذلك الوجه الذي كان يبدو مترقباً لحد الانفعالات العاطفية العظمى - وكنت واثقاً أن هذا الانفعال هو الخوف - فما يجئ هذا الانفعال حتى يصير ذلك الوجه آية رائعة من التعبير. . . ولكن ما أكثر ما ينطق الناس في هذا المجال بأفكار تخيب ظن المرء إذ لا يجدها تنسجم معهم. . . ثم إنها استرسلت تتحدث عن الأسواق في مقاطعات إنكلترة، وأسلمت نفسها إلى نوبات طفيفة من الاعتداد بالذات لم تنسجم معها أيضاً.
ولكني ساءلت نفسي في ذلك الوقت: أكانت حقاً نوبات من الاعتداد بالنفس؟ لقد شعرت بأنها أدخلتها في الحديث لا لتحدث وقعاً على نفسي بل لتدخل الراحة والاطمئنان على نفسها هي. فإن مثل هذا الاعتداد بالنفس يرتبط بالحياة اليومية، والحياة اليومية هي عادة خالية من البطولة والبسالة ومن النكبات والمآسي، كما أن الأفكار التي عبرت هي عنها كانت أفكار الحياة اليومية العادية. وقد تشبثت هي بهذه الأفكار لأنها كانت تتوق أشد توق إلى أن تقنع نفسها بأن حياتها ليست في حقيقتها إلا من ذلك النوع العادي، وأنه ليس من وجود فعلى لتلك النكبة العظيمة والمأساة القديمة التي ترتبط بها والتي هربت منها. فكل فكرة عبرت عنها، وكل مناسبة أشارت إليها، كانت كأنها تقرص نفسها لتتأكد من أنها صاحية ومن أن الكابوس المخيف قد زال. . .
ازداد الطقس اضطراباً، ولم أرهما بعد ذلك في ذلك اليوم. فقد تضاعفت حدة الزوبعة فلم يعد أحد ليجد متعة في الرحلة البحرية. بل لم يعد من المستطاع أن ينام المرء، وإن كانت الزوابع في العادة تجعلني أستغرق في النوم. فإن طرق عينك السبات لحظة واحدة في الليل فلا بد أن يوقظك في الحال صوت الأبواب تنفتح وتنصفق وتتصادم، أو يوقظك إحساس عجيب بأن الروح نفسها، تلك الذات النفسانية التي بني حولها الجسد، قد تنقلت من مقرها بعض الشيء. . . يسائل المسافرون أنفسهم، كعادتهم في خلال رحلة بحرية: (لم قمت بهذه الرحلة؟) ولكني لم أشعر إلا بشعور واحد، شعور طالما أحسست به في المحيط الأطلنطي، وإن كنت قد قمت فيه برحلات كثيرة لم يكن عنها من محيد، ذلك الشعور هو الرعب. لم يغلبني دوار البحر، وإنما شعرت بالرعب من تلك الأودية الباردة في أعماق المياه تحت سطح البحر، تلك الأودية اللانهائية المتعرجة التي أخبرنا بأنهافي عمقها تماثل جبال البر في علوها. . . (وبهذه الناسبة (سامحني لقطعي حبل قصتي) ألم يزد الطقس اضطرابا منذ بدأنا حديثنا، أم ليس هذا إلا وهماً من أوهام مخيلتي؟)
فاضطررت إلى أن أعترف بأن الطقس قد تغير؛ فقد بدأت السفينة تترنحبصورة غير منتظرة.
(لقد ظننت كذلك) قال ذلك وتوقف برهة، ثم استرسل: (على أية حال ستكون القناة هادئة. . . ولكن لأستمر في قصتي: من حسن الحظ أنني كنت سأغادر السفينة في ماديرا، ولم يكن دونها إلا رحلة يومين. ولكن كم تشوقت إليها في ذينك اليومين، تلك الدرة البديعة المستقرة في وسط المحيط تحت غطاء سحاب الأطلنطي). .
كان اليوم التالي سيئاً للغاية، بحيث لم يعد المرء يهتم بشيء ما لا بالطعام ولا بالشراب ولا بالنوم ولا بالمسافرين: ولكني لاحظت مع ذلك أن المستر روفني جلس إلى طعام الغداء وحيداً. . . وفي الصباح التالي بدا كأن الزوبعة قد هدأت قليلاً، وفي أثناء تجوالي على ظهر السفينة قابلته.
صحت بحماسة كاذبة: (صباح الخير. . .! كيف أنت في هذا الصباح. . . يؤسفني أن أراك وحيداً).
فأجاب: (نعم إنه شيء مقلق. كم تمنيت أن يكون الطقس لطيفاً. . . فإننا نقترب من ماديرا الآن، وينبغي أن لا يكون الطقس هكذا. . . إنني أصارحك بأنه يزعجني. . . ليس ذلكلن زوجتي غير متعودة على الأسفار البحرية - فإنها الآن لا تشعر بالدوار - بل الحق أن الرعب يتملكها في أي سفينة!)
قلت: (ليس هذا شيئاً مخجلاً، فأنا أيضاً مرتعب. . . وأعتقد أن كثيرين جداً من الناس هم أيضاً كذلك، لو أنهم اعترفوا بالحقيقة!)
أجاب: (قد يكون هذا صحيحاً. . . ولكن الأمر مختلف بالنسبة إليها فإن آخر رحلة بحرية قامت بها كانت في (التيتانيك) وقد غرق أخوها التوأم مع تلك السفينة، ولم تنج هي إلا بمعجزة. . . ولسنين عديدة رفضت أن تركب على سطح سفينة على الإطلاق، بل إنها أبت أن تقوم برحلة القناة الإنكليزية التي لا تستغرق إلا ساعة واحدة، مع إنها قبل ذلك كانت مغرمة بباريس. . . وسأذكر لك شيئاً غريباً: قد يكون البحر هادئاً بالغ الهدوء، ولكن ما تكاد تضع قدمها على سطح السفينة حتى تبدأ الزوبعة، بداية لا شك فيها. لقد شاهدت ذلك يحدث في القناة الإنكليزية عشرات المرات، حتى إنني كثيراً ما تمنيت إني لم أحملها على تغيير عزمها والمجيء معي، حتى لتلك المسافة القصيرة. . . ما كان ينبغي أبداً أن أسمح لها بالمجيء في هذه الرحلة. . . كان ينبغي أن أحظر ذلك حظراً باتاً، من البداية. . . ولكنها كانت قلقة البال علي - فقد كنت مريضاً زمناً طويلاً، وأولئك الأطباء الملاعين قالوا أن رحلة بحرية طويلة هي الشيء الوحيد الذي يرد إليّ العافية - فألحت هي وأصرت. ولم أستطع منعها، فقد بدا كما لو كان من المحتم أن تجيء، وإن ارتاعت هي من ذلك، لو كنت تفهم ما أعني. . .)
وإذن فهذا هو السر! لا غرابة إذن أن تكون مرتاعة، حتى على أشد المياه ضحولة. تذكرت تلك السفينة الفاخرة في رحلتها البكر، وتذكرت اليدين اللاعبتين، والاصطدام المفاجئ الرهيب، والسكون الشامل، حين وصلتها رياح التدمير، ثم تذكرت الاضطراب والفوضى في الماء، والتلاقي الغريب الصامت في الدروب العميقة الخضراء بين الأمواج، حين ترنح القادرون على السباحة إلى أعلى وإلى أسفل، أو اصطدموا الواحد بالآخر كأنهم سدادات الفلين، ولكن لم يستطيعوا تخاطباً، إذ كانت أصواته قد ضاعت تحت صوت المحيط، فبدوا وكأن بعضهم لبعض عدو. . . إذن فهذا هو السر. . .! هذا هو معنى تينك العينين الواسعتين، كعيني تمثال في ضياء الشمس الباهر، ذلك هو المعنى المختفي تحت كلماتها العارضة، السخيفة الجادة معاً: (لن يستطيع ثعلب أن ينجو إلى الأبد، وإذا كانت كلاب الصيد تطارده). كلا، ولا الإنسان يستطيع النجاة، إذا كانت قطعان الشر والهلاك تصاحب مجيئه وذهابه.
في عصر ذلك اليوم وصلنا إلى ماديرا. فودعت المستر روفني وزوجته. وعلى رغم أنهما كانا مشغولين مع أهل الجزيرة الذين هاجموها يريدون أن يبيعوا لهما ما يحملون من الأقمشة المطرزة والزهور والنعال والصناديق المصنوعة من خشب النخل، ونماذج العربات التي تجرها الثيران، وملابس سكان الجزيرة - فأنهما لوحا لي بأيديهما - إذ غادرت السفينة في زورق إلى البر. ولاحظت مرة أخرى خلو وجهها من التعبير خلواً عجيباً، وذلك شيء إن أنعمت النظر فيه تجلى لك رعب أشد من الرعب. ثم ظننت أنها نظرت إلى البر نظرة المتلهف المشتاق، ولكني كنت أبعد من أن أرى بوضوح. . . مهما يكن من الأمر فأنهما الآن سالمان، فإن بقية الرحلة، خصوصاً في هذا الوقت من السنة، هادئة في المنطقة الحارة، تتجلى فيها الحدائق العميقة الزرقاء المتألقة تحت المياه، وتقفز الأسماك الطائرة فوقهما كما تثب العصافير فوق أرض البستان.
مضى أسبوعان، قبل أن أقرأ في صحيفة هذا الخبر: (إعصار في المحيط الأطلنطي الجنوبي. أمواج المد تطغي على المدن الساحلية. باخرة بريطانية تغرق على مقربة من (ريك). غرق جميع المسافرين). وفي الحال تذكرت المسز روفني. . . إذن قد انتهى الأمر الآن. . . إنها كانت تنتمي إلى البحر بكيفية ما. . . ولا بد أن يستردها البحر إلى أحضانه. لقد كانت تعرف ذلك دائماً، وإن لم يستطع عقلها تصديق ذلك أحياناً. مهما يكن من شيء، فقد انتهى الأمر، كائناً ما كان مغزاه. انتهى طراد طويل، لا يستطيع المرء أن يتعرف على بدايته، أو لعله ليس إلا الفصل الأوسط في درامة تستغرق عدة قرون، أو عدة أحقاب. . . ساءلت نفسي: ترى كيف كانت هيئة ذلك الوجه الجميل في النهاية، وإلى أي حد جعلت صوتها هادئاً عملياً وهي تحدث زوجها للمرة الأخيرة، عارفة ما يخبئ لها القدر. . . ولكن الواقع كثيراً ما يختلف عن النبوءة، وهذا ما حدث في هذه الآونة. . . فأنني عاودت قراءة الصحيفة، فقرأت في أخبار آخر ساعة: (إنقاذ أحد المسافرين. اتفاق غريب. . . المسز روفني التيأنقذت عصر أمس في حالة إنهاك، يتحقق أنها أحد الذين نجوا من التيتانيك، حين غرق أخوها التوأم مع تلك السفينة. ويخشى أن المستر روفني، المشهور في عالم الرياضة، وجميع المسافرين الآخرين والبحارة، قد غرقوا). . . إذن فالبحر لم يستردها بعد، والثعلب قد نجى مرة أخرى، يا للمسكينة! لم يتم الفصل الأخير بعد.
لعلك تعتقد أنني من المؤمنين بالخرافات إذ أشعر بما أشعر الأن؟ ولكن الحياة تبدو أقرب إلى الفهم حين يؤمن المرء بالخرافات. . . على أية حال، قد حدث ذلك منذ ثلاث عشرة سنة. . . وأستعيذ بالله، أنها فوق هذه السفينة، مسافرة إلى سيلان لترى أبنها. لقد تحدثت إليها هذا الصباح، هي كأنها لم تكبر يوماً واحد. ولكن ماذا ينبغي أن يفعل المرء: (أيجيب غريزة الإيمان بالخرافات أم يتحداها؟. . . إنني أجبن من أن أرتكب سخف مغادرة هذه السفينة من السويس).
توقف عن الحديث، واستغرق في الصمت والتفكير ولكنني جاهدت حتى نزلت إلى قاع السفينة، متشبثاً بكل ما وقعت عليه يدي حتى لا أفقد توازني، وهناك أرسلت رسالة برقية.
(عن مجلة الأدب والفن الإنجليزية)
أوسبرت سيتويل