مجلة الرسالة/العدد 691/بريطانيا وممتلكاتها الحرة
مجلة الرسالة/العدد 691/بريطانيا وممتلكاتها الحرة
للأستاذ عبد الفتاح البارودي
لا تزال شركات الأنباء العالمية توافينا بآراء غريبة لساسة البلدان التي تسمى ممتلكات بريطانيا الحرة حول المسائل السياسية الكبرى. ووجه الغرابة - ولو في إذهابنا وتصوراتنا - هو أن وجهة نظرهم لا تتقيد مطلقا بوجهة نظر ساسة إنجلترا ذاتها، أي قد تختلف معها، وهذا مما قد يتنافى منطقيا مع مجرد تبعيتها لها. لذلك يبدو من المهم لنا ونحن في فترة نضج سياسي أن نلقى بعض الضوء على النظام البرلماني في الإمبراطورية البريطانية من هذه الناحية:
من المصطلح عليه أن النظام البرلماني البريطاني من أكثر نظم الحكم السائدة الآن نجاحا بدليل انه في خلال الثلاثة قرون الأخيرة لم يحدث أي انقلاب برلماني في الإمبراطورية الشاسعة الأرجاء، بينما حدثت انقلابات كثيرة، بل ثورات دموية أحيانا في كثير من أقطار العالم، ومن بينها أقطار صغيرة المساحة والممتلكات والشعوب. ولا شك إن معظم هذا النجاح راجع إلى الصلات السليمة الوثيقة بين بريطانيا وممتلكاتها الحرة لسببين بسيطين:
الأول: إن شعوب هذه الممتلكات تمت غالبا إلى اصل بريطاني، ولذا تهدف بالفطرة لغرض واحد هو الصالح الإمبراطوري العام.
والثاني: أن إنجلترا تفهم معنى الحرية الرأي بين شعوبها، فأتاحت لها حكومات نيابية لا تقل قوة وقيمة وممارسة عن حكومة الدولة، وتشرف عليها جمعيات عمومية منتخبة على هيئة برلمانات تشبه مجلس العموم كذلك، وتقوم بأعمال مماثلة لأعماله ولها وسائلها الخاصة وأغراضها وذاتيتها المستقلة عنه، ولا ترتبط معه إلا بعلاقات استشارية متبادلة.
غاية ما في الأمر أن هذه العلاقات وطيدة ومحترمة، واهم من ذلك انهم يعملون جميعا على رعايتها وصيانتها وتنميتها بإخلاص لا حد له.
وليس أدل على ذلك من انهم - تحقيقا لهذا - انشئوا لجنة دائمة تمثل كل أطراف المملكة المتحدة اسمها الجمعية البرلمانية الإمبراطورية تسير طبقا للائحة عامة وهي المرجع الوحيد لكل ما يتصل بالممتلكات الحرة. ومن الغريب أن هذه اللائحة التي تنظم الروابط بين وحدات الإمبراطورية ليس لديها القوة التنفيذية التي تجبر أي وحدة منها على عدم الانفصال عن الإمبراطورية إذا رغبت في ذلك! ومع هذا لم تتولد مثل هذه الرغبة بشكل جدي حاسم في أي جزء من الأجزاء، لا لشيء إلا لأن اللائحة أولا تتجنب كل ما يتعارض مع مبدأ المساواة التامة بين الجميع. وثانيا توجه المجموعة بأكملها توجيها عاما مركزا حول الضرورات فقط، ولا شأن لها بالتفاصيل التي قد يتشعب منها خلاف ما. وهذا هو السبب في أن كل جزء من أجزاء الممتلكات الحرة يخضع لنفوذ هيئة خاصة به تدير شؤونه وحدها كاتحاد أمريكا الشمالية في كندا والاتحاد الأسترالي العام في استراليا، وهكذا في جنوب أفريقيا ونيوزيلندة أكثر من هذا، فإنه عند وضع (اللائحة) أصرت كل وحدة على إثبات رغبتها في الاحتفاظ دائما بحقوقها كقوة خارجية تكاد تكون أجنبية لا يربطها بالتاج ألا حق الولاء. وآذن لا نستغرب حين نعلم إن كل ما يربط بين نيوزيلندة وبين الإمبراطورية مثلا اتفاقية تسمى لتنظيم الملاحة التجارية لا غير. وهكذا في سائر الأجزاء، لكل جزء رابطة خاصة به على حدة.
ويحسن هنا أن ننوه بأن كثيرا من البريطانيين حاولوا إدماج هذه المجموعات في (بريطانيا ألام)، أو ما يطلقون عليه وكانت أهم محاولة عملية في عام 1910 عندما ألقى المستر إمري محاضرة خاصة بذلك على مسمع من ممثلي الجمعية الإمبراطورية الملكية ودعا إلى الاتحاد الشامل من جميع الوجوه، وانتهز فرصة حفلات التتويج التي كانت تقام في ذاك الحين، وطالب بتمثيل البرلمانات الحرة فيها تمثيلا له صبغة رسمية، وفعلا حظيت دعوته بنجاح يذكر كان من نتائجه عقب ذلك إنشاء لجنة تنسيق خاصة ظلت تعمل على تسهيل الاتصالات وتقريب وجهات النظر بدرجة محسوسة النفع.
وبعد الحرب الكوكبية 1914 - 1918 نمت الدعوة نموا كبيرا إلى أن عقد لتنسيقها أول مؤتمر للممتلكات الحرة فيما وراء البحار في مقر اتحاد جنوب أفريقيا عام 1924. ثم عقدت بعد ذلك عدة مؤتمرات في مختلف أنحاء الإمبراطورية , وأسفرت عن اتفاقيات ذات قيمة كاتفاقيات (إتاوة) المعروفة باسمها
ولكن يظهر أن فكرة الاتحاد التام قد وصلت عند هذا الحد إلى نهايتها القصوى، أي دون أن يحدث الاندماج المنشود، بل بقيت كل الممتلكات الحرة محافظة تماما على استقلالها التقليدي، وان كانت وجهات النظر قد وضحت وتقاربت تقاربا يضمن عدم الانفصال ويضمن حتى عدم احتماله.
هذه هي على وجه الإجمال علاقة بريطانيا بممتلكاتها الحرة، وهي علاقة يمكن اعتبارها انفصالية بمقدار ما هي اتصالية، ومع هذا يتبادلون الرأي بإخلاص وثقة فيما يتعلق بمصالحهم المشتركة ويعملون معا وقبل كل شئ على صيانة الإمبراطورية.
عجيب جدا هذا النظام، واعجب منه نجاحه الرائع. ولعله لا عجب إلا في أدمغتنا المتأثرة بشر أنواع الحزبية والفردية في الشرق المنكود.
وليس معنى ذلك انه نظام مثالي لا وجه لنقده. . . فلكم تعرض في إنجلترا ذاتها لمهاجمات كثير من المفكرين أمثال (كارليل الذي كان يتساءل متهكما عما إذا كان من المستطاع تصوره عقلا إن حوالي 600 إنسان مهما بلغوا من الحكمة والحنكة والخبرة يمكنهم وحدهم أن يحكموا ويتحكموا في أكبر إمبراطورية بنزاهة وعدم انحراف!
غير إن الواقع الذي لا تجدي فيه المكابرة قد اثبت نجاح هذا النظام نجاحا يعتبر نموذجيا إذا قيس بفشل معظم النظم الأخرى وانهيارها، حتى في البلاد التي أحكمت وضعها وتطبيقها كألمانيا وإيطاليا وغيرهما.
عبد الفتاح البارودي