مجلة الرسالة/العدد 691/القيم. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 691/القَِيم. . .

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 09 - 1946



للأستاذ عبد المنعم خلاف

من ذا الذي يستطيع أن يرد على الناس إيمانهم (بالقيم) العظيمة التي تعمر الوجود؛ وكانت تعمر القلوب إلى ما قبل هذا العصر المادي، عصر زوال الحدود وكثير من الفروق القديمة بين الأشياء والأمور؟ إنها رسالة المخلصين للحياة لرد الإيمان بالحياة نفسها إلى قلوب أوشكت أن تفقد إحساسها بالحياة. . .

إن الكون العظيم قائم على نِسَبٍ ثابتة، وحدود واضحة بين الجمال والقبح، والصحة والفساد، والنظام والفوضى، وكانت عقول الناس وطباعهم متأثرة بما في طبيعة الكون من هذه النسب والحدود. لا تحاول طمسها بفلسفتها، ولا تغييرها بمقدرتها العلمية؛ لان الكون المادي ظل في قوالبه القديمة وحدوده الجامدة، لا يستطيع الناس الخلط بينها إلى أن أتى هذا العصر الذي زالت فيه الكثير من الحدود والمسافات بين الأشياء والأمكنة فزالت الحدود كذلك بين الخير والشر والجمال والقبح أو خيل للناس أنها زالت، واتسع مدى الخلط والتأويل، لأن رجال الأخلاق لم يسايروا المنطق العصري فيجعلوا الحكم النفسي على (قيم) الأمور متمشيا مع الفهم العلمي الجديد لها. وهذا كله نتيجة لتخلف الروح تخلفا بعيدا عن سيرة الحياة المادية وقد صار الناس لا يتذوقون الأشياء المادية تذوقا روحيا يضفي عليها ظلال التأويل، ويخلع عليها لونا من حياة القلوب نفسها فيخرجها في هالة روحية وطاقة نفسية.

خذ أمثلة: الانتقال السريع بالطيران، والاتصال الخاطف باللاسلكي، والمقدرة الساحقة بالكهرباء والفولاذ والقوى الذرية. . إنها أعمال واقعية الآن، وكانت إلى ما قبيل الربع الأول من هذا القرن أحلاما إنسانية خالدة لا تقترب من خيال الناس إلا حيث يدور حديث الآلهة والكائنات القادرة التي تتصل بالآلهة. . . والتي لا سدود ولا قيود في عالمها.

والآن بعد أن صارت هذه الأعمال من أعمال الإنسان ابن العجز القديم، صار يفعلها وهو في ذهول عن (قيمة) ما يفعل، كأنها لم تكن يوما ما أحلاما عن عالم الآلهة! وإني اعتقد أن أزمات الحياة الآن ناشئة عن هذا الذهول الشنيع الناشئ من إهمال الوعاظ والأخلاقيين والمربين أن يحملوا هذه المقدرة الإنسانية الأخيرة مجالا عظيما من مجالات الوعظ والإرشاد لأيقاظ الإنسان أولا إلى (قيمة) ما يفعله الآن.

ونحن إذا أفلحنا في أن نجعل الفرد الإنساني يتذوق هذه الأعمال المادية اليومية التي يفعلها تذوقا روحيا يجعله يتلفت بالفكر والقلب إلى قيمتها، نفلح لا شك في أن نعود به إلى رؤية (القيم) العظيمة الخالدة التي تعمر الوجود، وكانت تعمر القلوب أيام العجز قبل التسلط المادي الأخير.

وبديهي أن الطفل الناشئ في هذا العصر بين القطارات والطائرات والبرقيات وعالم الكهرباء ينشأ وهو يرى هذه الأشياء كأنها أشياء طبيعية لا تسترعي انتباهه، ولا تثير اهتمامه، لأنه ألفها من منذ نشأته؛ فيمر عليها مخدرا بالألفة، ولا يعرف لها قيمة تجعله يلتفت إلى (الإنسانية) التفاته خاصة يدرك بها تفردها وامتيازها.

ومن هنا ينشأ الذهول عن (القيم) الثابتة التي في الوجود؛ كالحق، والخير، والجمال، والمروءة، والإيمان، وغير أولئك من معايير الحياة القديمة التي كانت تسجد على أقدامها قلوب الناس أيام العجز.

وما أدري: لعل هذا الكائن الإنساني سيأتي عليه عصر سيشعر فيه بقدرة فائقة، ولعله حينئذ يستحي كما يستحي الخلائق العقلاء الكاملون أن يعتدوا على (قيم) الحق والخير. لان حياة الإنسان القادر لا تستقيم ولا تستمر إن لم يقمها على الحق والخير، والحق والخير هما أساس هذا الوجود الذي نعيش فيه، ولا يعمى عنهما وعن أخواتهما كائن يخلف الله في الأرض تلك الخلافة الواسعة.

والحياة الفردية والحياة الاجتماعية قد اثر فيهما فقد (القيم) الآن تأثيرا خطيرا هو الذي يجعلهما على قلق واضطراب وتقطع أمر. فلست ترى الفرد الذي يستحي من نفسه إذا فعل القبيح أو الضار حينما يخلو بتلك النفس اللوامة؛ لأنه صار يرى الأعمال بدون (قيمتها)، وصارت الفلسفات الأبيقورية والميكيافللية تمهد له وتبرر عمله، وتسعفه بالأعذار الكاذبة الخادعة، فلا يسمع لضميره صوتا ينكر عليه، لأنه فقد الحساسية بالقيمة الخلقية للأعمال، وأسعفته الحريات التي صارت شعار العصر، واختلطت فيها حرية الفكر والرأي بحرية الطباع، وحرية الطباع معناها الانطلاق وراء البدوات والنزوات، والبدوات والنزوات هي امتداد حياة الطفولة التي لا تدرك (قيم) الأشياء، وامتداد طيشها الذي لا يحسب حساب عواقب الأعمال والأقوال.

ولست ترى كذلك الآن الدولة التي تحترم العهد والكلمة والشرف لان فقد (القيم) قد انتقل إلى المجال الدولي كذلك كنتيجة طبيعية للحياة الفردية الحالية. وهي حالة بالغة الخطورة إن لم يتداركها المربون والمفكرون بالسعي المتواصل لرد (القيم) إلى مكانها من القلوب والأشياء، وخلع القداسة على كل حرمات الحياة، وإحاطة النظم والقوانين والعقائد السامية بهالة من الاحترام والاعتبار؛ حتى تحد من الفجور الذي يصحب القدرة المالية الفائقة، وتكفكف من غلواء الغرور الذي تبعثه السيطرة على القوى. ذلك الغرور الذي جعل الولايات المتحدة الأمريكية توشك أن تتنكر لرسالتها الإنسانية، وتغفل عن تاريخ أبطالها العالميين حين اهتدت إلى سر القنبلة الذرية الذي جعل لها المقام الأول في التسلح والمقدرة على البطش. فهي الآن تسير في سياستها العالمية تحت تأثير غرورها بأنها حائزة أسرار ذلك الطارق العنيف الذي جعل اليابان تركع على قدميها اثر ضربتين اثنتين من ذلك الطارق.

فقيمة رسالتها الإنسانية قد أثر فيها زيادة مقدرتها المادية، وقوتها المحاربة، لأنها خطت خطوة واسعة في العلم لم يصحبها خطوة موازية في الروح التي تخلع القيم على الأشياء، وان رد القيمة الخلقية للأعمال والأشياء رسالة تحتاج إلى معجزات من الجهاد الموصول والإخلاص الإنساني والاستمداد من رب الحياة الذي جعل في الإنسانية مرونة تجعلها تدرك رشد أمرها وتكيف حياتها حسب مصلحتها، وتخرج من الأهوال وفيها بقايا حياة تسمح بتجديد شعلتها، وامتداد وجودها في كل الظروف والأحوال.

وأعظم أسلحة الجهاد في هذا السبيل هو التفاؤل والتأميل، وعدم اليأس من روح الله؛ مع اليقين الثابت بأنه ما خلقنا إلا للخير ولو بدا في ثياب الشر لدى أنظارنا القصيرة.

عبد المنعم خلاف