انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 690/(نعم) أومن بالإنسان!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 690/(نعم) أومن بالإنسان!

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 09 - 1946



للأستاذ عبد المنعم خلاف

هل يستطيع صديقي الأستاذ الطنطاوي أن يحصر الجدل في هذه الصخرة الراكزة التي يخيل إلي أني وضعت عليها الفلسفة الإثباتية واليقين الديني، وقيمة العلم والحضارة حين اهتديت إلى ما زعمته القضية الفكرية الأولى، وهي الملخصة في هذه الجملة:

(أومن بالإنسان لأومن بالكون ورب الكون، فلن يؤمن الفرد الإنسان ي بهما أن لم يؤمن أولا بنوعه، لأن عقل النوع هو المنظار الذي ندركهما به، فإن أهدرنا قيمة الإنسان أهدرنا عقله وروحه، فلا يبقى لنا ما ندرك به كوننا وربنا!!).

ولو وقف صديقي أمام هذه القضية التي هي كما قلت (أشبه ما تكون بمعادلة رياضية) لعرف أي نظرة جديدة إلى الكون تتراءى من خلال هذه الفكرة، وأي أفق رحيب يتفتح للنفس البشرية من ورائها، وأي توفيق لطريق حل مشكلات العيش والفكر يتراءى منها!

وقد زعمت أن ي اهتديت إلى القضية الفكرية والدينية الأولى حين اقرر هذه القضية، فإن لم أكن سبقت إلى الاهتداء إليها، فهذا هذا الزعم صحيح، ونعم هو من توفيق يحمد الله عليه اجل الحمد.

وقد قلت في مقدمة الكتاب: (وأكاد أرى أن الموقف الفكري في هذه القضية يسبق موقف (ديكارت) حين اثبت (وجود الذات المفكرة)، واتخذه أساسا بني عليه فلسفته الإثباتية؛ إذ أنه من أين لديكارت أن يثبت أن لتلك الذات قيمة واعتبارا، وأن لما ينتج منها من الفكر قيمة واعتبارا أن لم يثبتهما أولا للنوع الذي تنتسب إليه هذه الذات، ليكون لما يصدر عن أفراد ذلك النوع تلك القيمة وذلك الاعتبار؟

فالموقف الطبيعي الأول هو أن نرصد أولا هذا النوع الإنسان ي كله بعين غريبة عنه، مفارقة وجوده، لنثبت له مكانته الخاصة في الكون، وخصوصا بعد أن وصل فكره وجهده أخيرا إلى أن يكون عاملا عظيما من عوامل الحكم والتكوين والتخريب في الطبيعة، ثم تأتي بعد ذلك جميع مواقف الإثبات واليقين).

والطفل في نشأته الأولى يدرك الكون والناس إدراكا فكريا قبل أدراك نفسه وأعماقها، فينبغي مسايرة للنشأة الطبيعية أن لا نحاول إثبات (الذات المفكرة) كما فعل ديكارت إلا بعد أن نثبت (النوع) الذي نراه وندركه قبل أن نراها، بل نحن لا نستطيع أن ندركها إلا في مرآة النوع ومواريثه. والفرد من غير النوع لا يستطيع أن يدرك شيئا من مواريث جنسه: ويكون كذلك (الإنسان الغزال)، أو (الإنسان القرد)، أو (الإنسان الذئب)، الذي يتحدث عنه الناس!

هذه هي القضية في سمائها العالية، وهي تحتاج إلى جناح قوي للتحليق وراءها، وتحتاج - كما قلت - إلى نظرة المفارق لنفسه ونوعه، الخارج بالفكر والخيال عن حدود وجوده، الراصد لنوعه رصد الملأ الأعلى ممن هم فوق الإنسان والملأ الأدنى مما هن دونه!!

ولم يدر صديقي الطنطاوي أن أولى الناس بالفرح والتأييد ل هذه القضية هم أمثاله من الدينيين الذين تهفو حياة قلوبهم إلى الإثبات واليقين، ويرون الكون لا معنى له أن لم يكن قائما على قيم ثابتة تعتمد على منطق الطبع ومنطق العقل ومنطق العمل.

والقضية مسوقة للرد أولا على الماديين الذين لا يعترفون بقيم ثابتة للوجود، و (الدرْونيين) الذين يقررون أن الإنسان ما هو إلا قرد نهض على قدميه وثرثر بلسانه وفرح بما ثرثر، وخلق لنفسه إلهة، ووضع موازين ومقاييس لخيره وشره، وزعم أنها موضوعة من (عقل) الكون، ويقررون أن عقل الإنسان ودينه وعلمه، إنما هي كالإفرازات المادية للكبد والمعدة وغدد السموم في العقارب والحيات، وأن ما يزعمه من قيم للأمور، إنما هي أعاليل يعلل بها نفسه ليخدعها، وليس بينه وبين (عقل) الوجود - أن اعترفوا به - صلة، وأن ما بينهما هوة لا يستطاع عبورها، وأن موازين (الخير) والشر عنده مسائل اعتبارية، وليس هناك وحي ولا نبوة، وأن ما بين الناس لا يزيد على ما بين النحل والنمل والبقر والبراغيث والبعوض - كما قال ذلك في الرد علي في هذه المجلة صديقي الأستاذ زكي نجيب محمود في سنة 1941 - وأن حياة أفراد الإنسانية إلى عدم لا رجعة بعده، كحياة مليارات أوراق النبات وأهراء الحبوب، وملايين الحشرات تأتي بها دورات وتذهب دورات أبدية من غير رجعة إلى مصير أكمل - كما قال ذلك كاتب متدين صوفي باحث كتب إلي من بيروت يطرح أمامي هموما ذهنية وشكوكا لحقته -.

أفتراني يا صديقي حينما أفتش في رحاب الكون والنفس عن فكرة جديدة اقذف بها على باطل القوم، أنتزعها من قوى الإنسان الفكرية والابتداعية النامية المنمية التي جعلت الإنسان في مصاف آلهة القدماء في التكوين والتخريب والتسخير لقوى عظيمة جبارة هائلة كالكهرباء والقوى الذرية والمواد العمياء وتقريب الأبعاد وكشف المستورات من خبايا الكون والتغلب على كثير من الآفات. . . أفتراني حينما افعل ذلك أكون قد خالفت رأي القرآن في الإنسان؟!.

إن الماديين يهدرون الإنسانية كلها وما أتى عن طريقها من دين وعلم ووحي أن زل على محمد وسابقيه من الرسل فليس القرآن بشيء في ميزانهم، وليس محمد وجميع الرسل في رأيهم سوى أفراد من تلك الإنسانية القردية التي تلغو وتزعم أن للغوها قيمة.

أفتساق الحجة لأمثال هؤلاء من القرآن أو التوراة أو الإنجيل وهم لا يعترفون بها ولا بمن نزلت عليهم ولا بالنوع الذي ينتسب إليه من نزلت عليهم؟ أم الأولى أن تساق الحجة إلى هؤلاء من رحاب الفكر والكون الواسعة بمنطق هذا الزمان ما دامت آيات الله في الآفاق والأنفس دائما تسعف الذين يخلصون لله ويخلصون الفكر في الكون؟!.

إن الفكر الديني آفته أنه يخاف غالبا اجتياز الحدود المورثة ولو أيقن أن وراءها مصلحة محققة، لأنه فكر يغلب عليه الاتباع لا الابتداع، وربما يكون ذلك مقبولا ما دامت طمأنينة النفس وسكينتها موفورة، ولكن اعتقد أن واجبه أن يأخذ الحجة حيثما وجدت ما دامت تسعف في إقناع المعارض أو إلزامه.

ثم أني اسأل صديقي بدوري كما سألني: كلام من يا آخي الذي يقول: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا)، (ولقد كرمنا بني أدم وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)؛ (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أن فسهم لا تقنطوا من رحمة الله، أن الله يغفر الذنوب جميعا، أنه هو الغفور الرحيم)؛ (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)؛ (والعاقبة للمتقين)؛ (ولا اقسم بالنفس اللوامة) أي (الضمير)!؟.

أليس هذا كلام الله أيضا؟ وهل وراء سجود الملائكة لأبى هذا النوع تكريم؟ وهل وراء اختصاصه بعلم ما لا يعلمه الملائكة من غيب السماوات والأرض تفضيل؟ وهل بعد صبر الله وحلمه على ما يبدو من ظواهر الإفساد وسفك الدماء الذي يفعله الإنسان حجة على أن الغاية من خلق هذا النوع، أن ما هي غاية تربو فوائدها وبركتها على خسرها ولعناتها؟ وهل بعد رد الله تعالى على الملائكة حينما قالوا (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) بقوله (أني اعلم ما لا تعلمون) يصح أن نعترض كما اعترضوا، ونجعل حجتنا في السخط عليه هي ما نراه من ظواهر الفساد وسفك الدماء بعد أن نظر الله إليها في مجموعها نظرة اغتفار وسماح في سبيل تحقيق الغاية الكبرى من حياة هذا النوع؟

إن أسرار قصة آدم هذه كما أوردها القرآن في أوائل سورة البقرة، اعظم مفتاح للغز الحياة، واعظم تاج على رأس البشرية، واعظم صوت يطرد اليأس من مستقبل الإنسان، واعظم تفسير لما يبدو من شروره، واعظم دافع إلى الكفاح لتحقيق كماله المرجو!.

وإني دائما أقول: أنه يجب على المفكرين إلا يسرعوا بحكمهم النهائي على الإنسانية، مع أنهم لم يتبينوا خاتمة حياتها، ولم يدركوا (القطفة) الأخيرة من ثمارها. . . ولعلها لا تزال في دور الشباب الطائش، ولعل وراء طيشها كهولة عاقلة. وما دام الله تعالى لم ييئس منها - ولن تفوت عليه تعالى غاية أرادها - فينبغي لنا ألا نيئس منها كذلك، فما دام يسمح بخروج بذرة إنسانية، فلا تزال الغايات والنتائج الصالحة منها، بعضها يتحقق وبعضها ينتظر تحقيقه.

وما عهدنا نوعا ما في الطبيعة سلك غير الطريق التي رسمها له الله (أعطى كل شيء خلقه ثم هدى)، فلماذا يستثنى الإنسان ويجعله يسير في غير طريقه التي رسمها له؟ وفيما ذا يكون الاستثناء في الإنسان أثمن شيء في الأرض؟!.

ولم يدر صديقي - وهو الباحث الديني - أن الله تعالى لا يجوز عليه عقلا أن ينعى على الإنسان صفات وطبائع هو الذي قسره عليها وحدها وأخرجه في قوالبها، وصوره من نطفة أمشاج وأخلاطا من قوى ومواد عمياء ليبتليه، فليس الإنسان إذا ملوما ما دام قد طبع على أن يكون فقط كفور أو هلوعا وجزوعا وكنودا وعجولا وقتورا وضعيفا وجدلا. . . الخ.

وما كان القرآن - وهو كلام الله الذي كرم الإنسان الأول ودافع عنه أمام الملائكة وأمرهم بالسجود له وخصه بعلم غيب السماوات والأرض وطرد إبليس من الجنة حينما استكبر عليه - ليناقض نفسه في قضية الإنسان، ويقصد إلى ما فهمه الأستاذ وأمثاله ممن يسوقون دائما هذه الآيات التي ذكرها هو في مقام الاعتراض علي.

إنما القرآن في هذه الآيات يصف طبائع الشر التي في الإنسان كما يصف طبائع الخير فيه، ولم تفد هذه الآيات أن طبيعته مقصورة على الشر وحده، فإذا وقع منه الشر، فهو جدير به لأن في طبيعته جانبا للشر، وإذا وقع منه الخير، فهو جدير به أيضا، لأن في طبيعته جانبا للخير أيضا: (إنّا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا)، (وهديناه النجدين)، (لقد خلقنا الإنسان في احسن تقويم، ثم رددناه اسفل سافلين إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات)، (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها)، (أن ربك واسع المغفرة، هو اعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض، وأذ أن تم أجنة في بطون أمهاتكم، فلا تزكوا أنفسكم هو اعلم بمن اتقى).

فإذا قال القرآن: (أن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الضر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين)، فهو يقرر أن من طبع الإنسان هذه الصفات، لأنه (خلق) عليها، فليقاومها بما يمحوها أو يعدلها كالمداومة على الصلوات والزكاة وأمانة العهد، وغير هذه من صفات الخير التي ذكرت وراء الآيات السابقة.

وإذا قال: (ويدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير، وكان الإنسان عجولا). فهو يقرر كذلك أن من طبيعة الإنسان التي خلقه الله عليها العجلة: (خلق الإنسان من عجل، سأريكم آياتي فلا تستعجلون). ولذلك يجب التريث والصبر والسكينة وعدم اختلاس حق الأيام في إنضاج الثمار حسب قوانين الله التي وضعها

وإذا قال القرآن (وخلق الإنسان ضعيفا). فهو فعلا قد خلق من شيء تافه ضعيف: (الله الذي خلقكم من ضعف، ثم جعل من بعد ضعف قوة)، (أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة، فإذا هو خصيم مبين).

وهكذا سائر الآيات التي ذكرها الأستاذ تنبه إلى ما طبع عليه الإنسان من صفات الشر ليحذرها ولا يستسلم لها، وليقاومها بطباع الخير التي طبع عليها أيضا. ولو لم يورد القرآن تلك الطباع في معرض الذم حينما يستعرض أفعال الاشرار، ما تنبه أكثر الناس إلى أنها طباع شر يجب الحذر من نتائج الاستسلام لها، وكيف يتنبهون إلى أنها شر ما داموا يجدونها في طبيعتهم

والقرآن وهو كتاب تربية، ما كان له أن يغفل الحملة العنيفة على طباع الشر في الإنسان والإنحاء عليها باللوم والإزراء، حتى ينبه الإنسان إلى خطرها في قذفه إلى اسفل سافلين ما لم يعتصم بما في طبعه من طباع الخير، وبما يأتيه من هدى الله.

ولو ربي الأطفال جميعا حق التربية، ولم يهملوا هذا الإهمال الشنيع الغالب الذي نراه في الأمم المتأخرة، لرأينا أن نسبة الخير ترتفع في حياة الناس ونسبة الشر تنخفض، كما وقع ذلك في عهد الدولة الإسلامية الأولى، وكما يقع الآن في دول شمال أوربا كفنلندا والسويد والنرويج والدانمرك.

وهذا يدل على أن الإنسان يتغلب على ما في طبعه من الشر بالتربية وطباع الخير، فليس الشر غالبا إلا بما يظاهره من فساد النظم الاقتصادية وإهمال التربية والتهذيب والتعليم

وبعد، فهذا هذا الفهم الذي فهمه الصديق الطنطاوي، إنما هو من آثار السير في الحدود الموروثة وعدم تغير طرق النظر بتغير العصور، وأرجو أن يتحرر صديقي في فهم القرآن من جميع الموروثات حتى تنكشف له أعاجيب ووجوه جديدة من الرأي الذي يشهد للقرآن بأنه كتاب البشرية في جميع عصورها وأحوالها

وبعد، فإن نوعا يخرج محمدا وأولي العزم من الرسل والحكماء والصديقين والعلماء والرواد المجاهدين جدير بأن يوثق به ويؤمن بقيمته، فإن مقياس قيم الأنواع هو لبابها وجوهرها، وثمر الشجر اقل شيء عددا فيه، والشوك يكون مع الورد، والظلام مع النور، والفساد وسيلة لأدراك الصلاح والحفاوة به.

(ونبلوكم بالشر والخير فتنة)، فالخير أيضا فتنة!

هذي طباع الناس معروضة ... فخالطوا العلم أو فارقوا!

عبد المنعم خلاف

-