مجلة الرسالة/العدد 690/دعبل الشاعر الشجاع الوفي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 690/دعبل الشاعر الشجاع الوفي

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 09 - 1946



للأستاذ عبد العظيم علي قناوي

يتربص الرجل أن تضع زوجه حملها ليتخير لوليدها احسن الأسماء، فإن كان من التقاة الهداة تيمن باسم من يرى فيه الأسوة الحسنة، والقدوة الطيبة، وان كان من الأثرياء أو السراة دارت بخلده أسماء الأغنياء والأشراف ينتقي منهم من يرى مسماه المثل فيما يستهويه، ولا احسب والدا أو والدة يختاران لوليدهما اسماً قبيحاً أو لقبا مستهجنا لا سيما والأسماء بغير ثمن، إلا إذا جاء ذلك ساعة دعابة أو مرح أو عقب واقعة أو حادث كأبي الشيص وخندف وثعلب وغيرها من الألقاب والكنى والأسماء.

وإذن فلم سمى أبو دعبل ابنه بهذا الاسم؟ ألأنه رأى فيه منة وصلابة؛ حتى انه ليشبه الناقة القوية الضارعة؟ أو لأنه لاحظ المنفعة والفائدة، فللناقة لدى العرب من الفوائد مالها، فهي عماد حياة العربي، كما إن الثور كان قديما رأس مال المصري. لعل أبا دعبل لاحظ الأمرين معا؛ فقد كان دعبل قوي الأسر طويل الجسم، ولا بد أن يكون قد توسم فيه سراوة طبع وصفاء ذهن، أو على الأقل هذا ما يراه كل والد في ولده متى أهل، فكرمه بهذا الاسم. ولقد وصف العرب الناقة ومنحوها من الصفات والنعوت ما أفعمت به أشعارهم، وهذه معلقة طرفة ابن العبد ابرز محاسنها وصف ناقته وصفا دقيقا في نحو ثلاثين بيتا، فلم يترك عضوا إلا أبدع في تصويره؛ فمن ذلك قوله يصف خدها وعينيها ولعلهما اقل أعضائها حسنا:

وخد كقرطاس الشآمي ومشفر ... كسبت اليماني قده لم يحرد

وعينان كالماويتين استكنتا ... بكهفي حجاجي صخرة قلت موردي

وننتقل من سبب تسميته إلى حياته ونشأته الشعرية التي تبين صفتيه اللتين سنتحدث عنهما.

ولد دعبل في العصر الذهبي لدولة بني العباس، فالملك ثابت الأساس موطد الاركان، لا يعرفون لبني أمية شأنا ولا يخافون من بني عليّ نقضاً، فالأولون قبع بعضهم في دورهم يبغون نجاة ويطلبون سلامة وأمناً، وبعضهم هجر جزيرة العرب، ونزح من المشرق إلى المغرب؛ فأسس ملكا وبنى دولة، وأما الآخرون فاكتفوا بتلك الإمامة الوهمية يتوارثونه إماما عن امام، وشب دعبل عن الطوق، واصطنع الشعر يعرضه على شعراء عصره، وكان مسلم بن الوليد أدناهم إلى نفسه؛ فما زال هذا شأنه حتى أمره أستاذه بإذاعة شعره؛ لأنه آنس منه إجادة، ورأى فيه روعة، وكان أبدع ما انشد ما قاله في مدح آل علي وذكر مناقبهم، وتعداد آثارهم، ورثاء قتلاهم، والتحسر على صرعاهم حتى صار بحق شاعرهم الذائد عن حياضهم، والثابت على ولائه لهم، لا يخشى في حبهم لوما ولا يخاف من إعلانه سخطا، بل هو بادي الخلفاء العداء، فالملك لله وحده، وأينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة؛ فماذا يبعث في نفسه الهلع وهو ينصر آل الرسول؟ ولكن أليس الرعديد الخوار قرأ هذه الآية كما قرأها دعبل؟ لقد قرأها ولكن هلعه أنساه إياها، وذكره بقول الله تعالى (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) فهو يتقي الشر ويتحاشى أن يقع فيه، ولكن دعبلا كان يرى في نصرة آل علي يدعو لله ويدفع عن آل رسول الله، فإن فاته زخرف الدنيا؛ لم يفته اجر الآخرة؛ إلى انه يتصف بخلال نبيلة عدا الشجاعة في الحق، والجرأة في الذود عنه شجاعة وجرأة يحسبهما الجبان طيشا وحمقا ويراهما الشهم النبيل رجولة ومنة، ولله قول القائل فإنه ليصور في وصفه دعبلا:

قل للجبان إذا تأخر سرجه ... هل أنت من شرك المنية ناجي

كانت حياة دعبل أصدق مثل على أن الآجال موقوتة لا تستأخر ولا تستقدم، فإنه عادى أولي البطش والطول، وبادي البغضاء ذوي القوة والحول عداوة لدودة لا تعرف هوادة، يذمهم ويقذع في ذمه، ويهجوهم ويفحش في هجوه، غير عابئ بما قد يصيبه فأرض الله واسعة وإذا قلته دار أقلته ديار، وحسبه أن يجد من يقاسمه زاده ويشاطره رأيه، روى عنه انه قال: (لي خمسون سنة احمل خشبتي على ظهري أدور على من يصلبني عليها فلا أجد من يفعل ذلك).

والسر في شجاعته انه كان أول أمره وبدء نشأته من قطاع الطريق وولغة دماء البشر، ويميل إلى إشهار الشر، ورفع يد البغي في وجوه من يحاولون مساءته، قال له أبو خالد الخزاعي: ويحك! قد هجوت الخلفاء والوزراء والقواد، ووترت الناس جميعا، فأنت دهرك كله طريد شريد، هارب خائف، فلو كففت عن هذا، وصرفت هذا الشر عن نفسك؟ فقال له: ويحك! إني تأملت ما تقول، فوجدت أكثر الناس لا ينتفع بهم إلا على رهبة، ولا يبالي بالشاعر وان كان مجيدا إذا لم يخف شره، ولمن يتقيك عرضه أكثر ممن يرغب إليك في تشريفه، وعيوب الناس أكثر من محاسنهم، وليس كل من شرفته شرف، ولا كل من وصفته بالجود والمجد والشجاعة، ولم يكن ذلك فيه انتفع بقوله، فإذا رآك قد أوجعت عرض غيره وفضحته اتقاك على نفسه وخاف من مثل ما جرى على الآخر، ويحك يا أبا خالد! إن الهجاء المفرع أخذ بضبع الشاعر من المديح المضرع. وقال أبو خالد. فضحكت من قوله وقلت: والله هذا مقال من لا يموت حتف أنفه!).

بهذه النفسية الحانقة على البشر كان يعيش، وبهذا المنظار الأسود الذي يرى به الناس صعاليك أوغادا كان يرى كثرة مباشريه ومعاصريه، فكيف يموت حتف انفه؟

لقد تحققت كهانة صاحبه، فقد مات مقتولا بعد أن طارده الخلفاء والوزراء، وانتهت حياته على يد اتباع مالك بن طوق أمير عرب الشام في قرية من القرى الأهواز اغتالوه بها، وانتقموا لعداته وهم كثرة منه.

وفي دعبل صفة أخرى غير الشجاعة، تلك هي الوفاء الصادق الذي لا يعرف فيه مينا، والإخلاص الراسخ لا يشوبه خداع أو ختل، وفاء لآل علي على ضعفهم، ونصرهم بشعره طوال حياته على غير خلق الشعراء، وليعذرنا سادتنا شعراء عصرنا الذين تستولي عليهم عواطفهم، وتتملكهم أهواؤهم، فمن اجزل لهم صلته حمدوه ومدحوه، ومن قبض دونهم يده نبذوه وذموه، وله في ذكرهم والإشادة بهم والتنبيه على شأنهم ووجوب إعظامهم قصائد رائعة وأبيات خالدة تدل على أن نظمه فيها كان صادرا عن شعور حار ووجدان متدفق وعاطفة حافزة، بل تدل على أنه كان رجل عقيدة ورأي وإيمان ومذهب، لا تأخذ منه زعازع أو أعاصير، ولا يبلبل إيمانه مآسي ومحن، ومن قصائده الباقية على الدهر قصيدته التي وهب له من اجلها على بن موسى الرضا عشرة آلاف درهم، وخلع عليه بردة من ثيابه أريد على بيعيها بثلاثين ألف درهم، فأبى أن يساوم فيها، فقطع الراغبون فيها عليه طريقه ليأخذوها قسرا فقال لهم: (إنها تراد لله عز وجل وهي محرمة عليكم). فدفعوا له فيها المبلغ السالف، فحلف إلا يبيعها أو يعطوه بعضها ليكون في كفنه فأعطوه كما واحدا، فكان بين أكفانه، وأول القصيدة هو:

مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات لآل رسول الله بالخيف من منى ... وبالركن والتعريف والجمرات

ديار علي والحسين وجعفر ... وحمزة والسجاد زي الثفنات

ديار عفاها كل جون مباكر ... ولم تعف للأيام والسنوات

ومنها:

ألم تر أني من ثلاثين حجة ... أروح وأغدو دائم الحسرات

أرى فيئهم في غيرهم متقسما ... وأيديهم من فيئهم صفرات

فآل رسول الله نحف جسومهم ... وآل زياد حفل القصرات

بنات زياد في القصور مصونة ... وبنت رسول الله في الفلوات

إذا وتروا مدوا إلى أهل وترهم ... أكفاً عن الأوتار منقبضات

فلولا الذي أرجوه في اليوم أو غد ... لقطع قلبي إثرهم حسرات

خروج إمام لا محالة خارج ... يقوم على اسم الله والحرمات

وهي قصيدة طويلة تسيل عيون أبياتها بالعبرات، وتصطخب أمواج بحرها بالحسرات، فإذا كفكف من دمعه وهدأ من روعه، فلأنه ينتظر أن يستأمن الدهر فيؤمنه، ويستكشف المحن فتنكشف، فهو ينشد:

فيا نفس طيبي، ثم يا نفس ابشري ... فغير بعيد كل ما هو آت

فإن قرب الرحمن من تلك مدتي ... وآخر من عمري لطول حياتي

شفيت ولم اترك لنفسي رزية ... ورويت منهم منصلي وقناتي

أحاول نقل الشمس من مستقرها ... واسمع أحجارا من الصلدات

ولقد رثي الحسين رضي الله عنه رثاء يدمي العيون ويفتت الأكباد حتى لكأنه حضر مصرعه، وشاهد

موقعه، فمن ذلك قوله:

رأس ابن بنت محمد ووصيه ... يا للرجال - على قناة ترفع

والمسلمون بمنظر ومسمع ... لا جازع من ذا ولا متخشع

أيقظت أجفانا وكنت لها كرى ... وأنمت عينا لم تكن بك تهجع

كحلت بمنظرك العيون عماية ... واصم نعيك كل أذن تسمع ما روضة إلا تمنت أنها ... لك مظجع ولخط قبرك موضع

هذه الأمثلة تدل على أن الرجل كان لا يخشى في رأيه لوما، ولا يرهب أحدا؛ فإنه ليهجو في سبيل مدحه آل علي بن العباس بشر القول ومقذع الهجاء. وأرى أن المأمون لم يكن ليقسو عليه لأنه عرف فيه خلتي الشجاعة والوفاء فأجله أعظمه، وكان كثيرا ما يستنشده شعره.

عبد العظيم علي قناوي