مجلة الرسالة/العدد 69/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 69/الكتب
هبة الأيام فيما يتعلق بأبي تمام
تأليف الشيخ يوسف البديعي قاضي الموصل (1073هـ)
نشره وعلق عليه الأستاذ محمود مصطفى
أهدي إلى زميلي الأستاذ محمود مصطفى كتاب (هبة الأيام فيما يتعلق بأبي تمام) من تأليف الشيخ يوسف البديعي قاضي الموصل المتوفى سنة 1073هـ، وهو كتاب عثر عليه الأستاذ محمود مصطفى المدرس بكلية اللغة العربية من كليات الجامع الأزهر في محفوظات دار الكتب المصرية، فأعجبه منه جريه على طريقة القدماء في دراسة الأدب من التنقل بالقارئ من خبر مستطرف، إلى معنى مستظرف، وإلى فكاهة بارعة، إلى حكمة رائعة. فمدار الكلام عنده على أبي تمام، ولكنه إذا ذكر قوة حفظه عرض لكثير ممن عرفوه بهذه المنقبة، فروى من أخبارهم ما يروي صدى المتأدب؛ وإذا ذكر مدحه لأحمد بن أبي دؤاد مثلاً عرج على حياة هذا الممدوح، فجلاها للقارئ بما لا يترك في نفسه من حاجة؛ وإذا مر بمعنى له تناوله الشعراء سرد من أقوالهم فيه ما يشبع نهمة النهم من طلاب الأدب. وهكذا جرى في كتابه من أوله إلى أن فرغ منه، وهذا عمل يثير الإعجاب حقيقة من عالم في هذا القرن الحادي عشر من القرون الهجرية، وهو من القرون التي طغت العامية فيها على العربية، وأصبح العلماء لا يحسنون فيها التأليف بالعربية الفصيحة، فكيف بهذا النوع من التأليف في الأدب والموازنة والنقد؟ ومؤرخو الآداب العربية يكادون ينسون الشيخ يوسف البديعي وأدبه في وسط تلك الظلمة القادمة، التي غطت على الأدب العربي في تلك القرون المظلمة.
فكم أحسن الأستاذ محمود مصطفى بلفت الأذهان إلى أدب الشيخ يوسف البديعي، حتى لا تطغي عليه تلك الظلمة، ولا ينسى مؤرخو الآداب عمله في وقت لم يكن لغيره عمل يذكر فيه.
وكم أحسن في تعليقاته على هذا الكتاب إذ تابع مؤلفه في طريقته، فعرف قارئه بالرجال الذين عرض لذكرهم ولم يعرض للتعريف بهم، وشرح ما وقع فيه من أشعار أبي تمام وغيره، ولم يكن المؤلف يعني إلا بشرح القليل منها، لأنه لم يؤلف كتابه لذلك وإنما ألفه لتلك الأغراض السابقة.
وللأستاذ محمود مصطفى في شرحه طريقة تليق بوظيفته الجامعية، فهو يعني فيه بشرح المعاني الأصلية للكلمات وما خرجت إليه من مجاز أو كناية، ثم يستخرج من ذلك معنى البيت وينقده إذا رأى أبا تمام قد خرج به عن الجادة، فتكلف في الصنعة، أو ركب الشطط في مجازاته؛ وقد يجعل من نقده إطراءه إذا جمع موجبات الحسن في شعره، وهي كثيرة فيه، ولم يفته مع هذا أن ينقل من آراء الأقدمين الذين نظروا في شعر أبي تمام من الآمدي والجرجاني وغيرهما، ثم يعقب على ذلك برأيه فيوافقهم تارة فيما رأوه في شعره، ويخالفهم تارة أخرى فيه.
وقد جلونا بهذا كتاب هبة الأيام للقراء، وعرفناهم قيمة عمل الأستاذ محمود مصطفى فيه، وأدينا بذلك حقه علينا كأثر من أحسن الآثار الأدبية، وبقي لنا عليه أشياء أردنا للزمالة إلا نعرض لها، وأراد الأستاذ محمود إلا أن نطلق لقلمنا العنان مقرظين أو ناقدين، وإننا نكتفي عما عندنا بهذين النقدين
فالأستاذ محمود في قول أبي تمام:
وإذا مشت تركت بصدرك ضعف ما ... بحليها من كثرة الوسواس
يرى فيه استخداماً طريفاً حسنا، لأن أمثلته قليلة في العربية، والاستخدام عنده في أن الوسواس يطلق على صوت الحلي، وعلى حديث النفس بما لا خير فيه، وقد أراد المعنى الأول في كلمة الوسواس الظاهرة في البيت، وأراد الثاني في الموصوف المحذوف في قوله (ضعف ما)، ولا شك أن هذا ليس من الاستخدام في شيء، وليرجع الأستاذ إلى تعريف الاستخدام وأمثلته في كتب البلاغة، فسيرى أن هذا لا يشمله تعريفه، ولا يشابه أمثلته. وكذلك نخالف الأستاذ محموداً فيما صنعه في قول أبي تمام:
أزرين باْلمُرْدِ الغطارف بُدَّناً ... غيداً ألفتهمُ زماناً غيدا
إذ يريد أبو تمام أن يفضل الجميلات من النساء على أرباب الجمال من أولئك الغلمان الذين افتنن بهم الشعراء، وتغزلوا بجمالهم في عصره وقبل عصره، فلا يرضي هذا صاحبنا، ويقول إنه لم يؤلف أن يقال إن المرأة الجميلة تزري بالرجل الجميل، مع أن أبا تمام لم يعن في شعره هذا، وإنما عنى أولئك الغلمان الذين غطى التغزل بهم على التغزل بالنساء في ذلك العصر، ثم يختار الأستاذ أن يقال إن مراداً جمع مرداء، وإن غطاريف جمع غطريفة، وإن لم يرد ذلك في اللغة، فيكون خطأ من أبي تمام فيها، ولا أدري كيف نحمله هذا الخطأ، ومعناه على ما تعطيه ألفاظه في حدودها اللغوية واضح لا شيء فيه، ولله العصمة وحده.
عبد المتعال الصعيدي