مجلة الرسالة/العدد 689/في ركب الوحدة العربية:
مجلة الرسالة/العدد 689/في ركب الوحدة العربية:
الأدب في فلسطين. . .
للأستاذ محمد سليم الرشدان
النثر في شتى ألوانه:
في فصل مضى (من هذا البحث)، وقفت عند ثلاثة من الأدباء، كل منهم يثبت عند حد رسالته ولا يبرحه حتى يعود إليه. وهم يجمعون في هذه الرسالات بين الأدب والتربية والتوجيه. وكلها حين تجتمع وتتسامت مع غيرها (من الألوان)، تتألف منها صورة صادقة من صور الأدب الصحيح.
وفي هذا الفصل أتناول ثلاثة آخرين يختلفون من مناحي رسالاتهم (أيضاً). ولكن هذا الاختلاف (في رأيي) لا يعدو كونه من المتممات التي يشتمل عليها الأدب في شتى ألوانه كما أسلفت. وهؤلاء هم: (باحث سياسي خطيب) و (مؤرخ يصور دقائق المجتمع الذي يعيش فيه) و (عالم يبسط العلم في ثوب الأدب).
فأما الباحث الخطيب - والخطباء ذوو الآثار عندنا قليل - فهو الأستاذ عجاج نويهض ولعلى لا أغالي إذا قلت: إنه (سحبان) هذا الجيل. فقد عرفه الناس خطيباً مدرهاً، ولسناً مفوهاً. وهو إذا صعد منبراً تدفق الأتيِّ (مرتجلاً مبتدعاً)، وحلق إلى رفيع الأجواء مجتذباً معه القلوب والأسماع. فهو - من غير ما جدال - فارس هذه الحلبة وابن بجدتها، ومجلي هذا الميدان وصاحب قصبه.
وهو - إلى جانب ذلك - أديب مطبوع وكاتب سياسي لامع. وقد زامل النهضة العربية منذ شبابها، وكانت تربطه أواصر مودة مع كثيرين من أقطابها. فطالع الناس بمجلته (العرب) أدبية سياسية، رغبة منه في أن يساهم في بناء هذه النهضة مساهمة فعلية بقلمه وتوجيهه. فكانت - على قصر حياتها - منبر دعاة الحركة الفكرية الاستقلالية في العالمين العربي والإسلامي. واستمر ذلك من عام 1932 حتى عام 1934، حين تعرمّ (المستعمر) فكم الأفواه، وأخرس الألسن، وبدأ - من بعد - يصنع الأعاجيب!!
وكان الأستاذ - قبل ذلك - لا يبرح هذا الميدان في مجلات مصر وصحف الشام، ولعله كان أبرزها يوم ذاك (فتى العرب) في دمشق، و (كوكب الشرق) و (مجلة الفتح) المصريتين، وللأستاذ فيها من بديع الآثار ما ينتظم هالة جهاد وفخار.
وقد جمع له الأستاذ (محب الدين الخطيب) في كتابة (المنتقى) بعض محاضراته القيمة. وانك لتشهد أنها (قيمة) - لو قرأت أو سمعت - وليس الخبر كالعيان. . . وللأستاذ - عدا محاضراته وأبحاثه - كتب غزيرة النفع جليلة الأثر، بين مترجم وموضوع، أذكر منها: (حاضر العالم الإسلامي) وهو كتاب وضعه أحد العلماء الأمريكان بعد الحرب الأولى وصف فيه نهضة العالم الإسلامي (السياسية والاجتماعية)، وقد عربه الأستاذ (نويهض) لما رأى من أهميته، وعلق عليه الأمير (شكيب أرسلان) تعليقات مستفيضة جامعة. وقد صدرت طبعته الثانية في أربعة أجزاء وهو إلى أن يكون موسوعة إسلامية، أقرب منه إلى أن يكون كتاباً مقصور الأبواب.
ثم كتاب (النظام السياسي): وهو كتاب يبحث تطورات الأنظمة السياسية في المجتمع منذ أقدم عصورها إلى اليوم.
وله أيضاً (سيرة الأمير جمال الدين - عبد الله التنوخي) أحد أعلام لبنان في القرن التاسع عشر.
وأما أسلوبه: فهو يتحرر من كل قيد ويسترسل وراء المعاني، ويراعي فيه أن يتحسس مواطن التأثير في نفس القارئ أو السامع فيستدرجها إلى اليقظة، ثم يدفعها بعد ذلك حيث يشاء. واليك ما يقوله في كلمة عنوانها (الاستقلال العربي):
(الاستقلال: شق طريقه الشهداء الأبرار، فسكنت أجسامهم الأرضين، وأرواحهم الطاهرة أعلى عليين. عُلِّقوا على الأعواد، وجالدوا المستعمر أبسل جلاد. فاستشهدوا بين شمال الحجاز وبطاح العراق، وتطيّب ثرى ميسلون وارض فلسطين وسهول حوران بطيب أجلادهم وعظامهم.
نعم: الاستقلال العربي! الذي لذكره تهتاج النفوس العربية في كل مكان، وتهفوا قلوبهم إليه، وتحنوا ضلوعهم عليه. الأمة العربية قد استيقظت، فليشهد العالم! ولن ينكص العرب عن هذا السبيل حتى يستردوا حقهم المغصوب، ويستعيدوا ملكهم المسلوب. ويمتلكوا بيدهم زمام أمرهم وبلادهم خالصة لهم.
وأمم كثيرة قبلنا كانت متفرقة مقهورة، فكتب الله لها أن تجتمع حزمتها ثانية، وان تعز بعد ذل، وتعلو بعد هبوط. ولكن كانت (التضحية) هي القائد، وكان (الفدى) هو الدليل.)
وأما المؤرخ (الذي يصور دقائق مجتمعه الذي يعيش فيه) فهو الأستاذ عارف العارف - وقد بدأ حياته الأدبية، يوم كان أسيرا في (سيبريا) أثناء الحرب الكونية الأولى. إذ أصدر هناك جريدة اسماها (ناقة الله) كان يحررها بنفسه. وقد اطلعت على بعض أعدادها التي مازال يحتفظ بها فألفيتها غاية في الطرافة.
ثم ألف كتاباً عنوانه (رؤياي) أثناء عودته (فاراً) من منفاه، عن طريق الصين فالهند، استجابة لداعي الثورة العربية الكبرى، بعد أن أضرم نارها يوم ذاك المجاهد الأكبر (الحسين ابن علي)، الذي قضى شهيد تلك الدعوة المباركة، ليرقد بعيدا عن مسقط رأسه عند مهوى الأفئدة، ومؤتم القلوب والأبصار، عند المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله. وكذلك قضى (الأخيار المصطفون) من أبنائه (علّى وفيصل وغازي)، وإنك - كائناً من كنت لتعلم من (أولئك)!!
ولقد ضمن الأستاذ (العارف) كتابه (رؤياي) ما كان يساور خاطره الفتى - إذ ذاك - من أحلام ذهبية مشرقة، وآمال باسمات عذاب. وحسبك من ذلك تعلم نبوءته ب (الجامعة العربية). ولم تكن هنالك للعرب دولة. بل لم تكن قامت لهم - بعد - قائمة. فأبصرها - فيما أبصر - ينتظم عقدها من كافة أقطار العروبة، بما في ذلك: عمان والبحرين وحضرموت وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش. كما أبصر لهذه الجامعة هيئة تنفيذية أسماها (اللجنة العربية العليا)، وهي تقوم على إمضاء ما تقره تلك الجامعة مما فيه صالح العرب قاطبة، يعززها جيش لجب مدرب، وأساطيل كثيفة، تمخر عباب الماء وتغمر عنان السماء. . .
ويمضى في (رؤياه) على هذه الوتيرة، يعدد ما يشاهده من مفاخر هذه الأمة، ويستعرض ما تكون قد وصلت إليه في ميادين التقدم والرفعة والمجد. فنرجو الله أن يحقق تلك الرؤيا كاملة غير منقوصة، بعد أن تحقق جانب منها. وما ذلك على الله بعزيز.
وللأستاذ (العارف) كتاب (القضاء بين البدو) وهو أول كتاب من نوعه، ترجم إلى عدة لغات، وفيه تصوير بارع لحياة البادية وتقاليدها وعاداتها ونظمها، وما يتقيد به البدوي في أفراحه وأتراحه وسلمه وحربه: ثم يشرح بعد ذلك الكثير مكن أقوالهم وحكمهم وشعرهم، وما يسير بينهم مسير الأمثال.
وله أيضاً (تاريخ بئر السبع) و (تاريخ غزة) و (تاريخ عسقلان) وجميعها مطبوع. ثم (تاريخ بيت المقدس) وهو تاريخ ضخم ما يزال إلى اليوم مخطوطاً. وفي سائر هذه الكتب يؤرخ لتلك المدن منذ أقدم الأزمنة إلى يوم الناس هذا، تاريخاً جامعاً شاملاً، لا تفوته فيه سانحة ولا بارحة.
واليك مثلا مما يكتبه، وهو جزء من كلمة يقدم بها كتابه (تاريخ غزة) فيقول:
(الوحدة العربية: تلك هي أمنيتي التي أحملها بين أضلعي، وسرت على هداها في أعمالي، منذ تعلمت وعرفت معنى (حب الوطن). وإنه ليسرني أن أرى هذه الأمنية التي كانت تعد في يوم من الأيام ضرباً من الخيال، أو حلما من الأحلام، أخذت في هذه الأيام تطل من وراء سحاب.
(وإني لا أشك قط في أنها ستصبح عما قليل حقيقة واقعة لا ريب فيها. وإن غداً لناظره قريب. . . وإنا إذا سرنا بقدم ثابتة إلى الأمام، اهتدينا إلى ضالتنا المنشودة في أقصر ما يكون من الوقت، وإلا فإن دون الوصول إليها خرط القتاد. . .).
وأما العالم الذي (يبسط العلم في ثوب الأدب) فهو الأستاذ قدري حافظ طوقان، عالم فلسطين الرياضي، وليس عندما من يضارعه في هذا الميدان. وبالرغم من عمله الذي يستنزف معظم فراغه (في إدارة كلية النجاح بنابلس)، فإنه أكثر من عندنا تأليفاً، وأوفرهم إنتاجا. فبينما تراه يتفرغ لتأليف كتاب من كتبه، تسمعه (أو تقرأ عنه) يحاضر في مختلف أنحاء فلسطين، وفي مواضيع علمية وأدبية وفلسفية وسياسية (أحياناً). وانك لو تتبعته في جولاته الكثيرة بين يافا وعكا والناصرة وحيفا وغزة بل وبئر السبع، لحسبته من (أهل الخطوة) الذين يتحدث عنهم جماعة (الصوفية)، وهو لهم - أي للصوفية - صديق وفي. ويشهد لي بذلك من سمعه في (نادى الناصرة)، وهو يجادلني جدالا عنيفاً في إحدى مشاكلهم المعقدة.
وكتبه بين مطبوع ومخطوط ورهن الترتيب والإعداد كثيرة. أذكر منها الكتب التالية: (الكون العجيب) وهو العدد الحادي عشر من سلسلة (أقرأ). ثم كتابه (نواح مجيدة من الثقافة الإسلامية) أصدره المقتطف عام 1936 وقد اشترك في إعداده مؤلفون آخرون ليكون هدية لقرائه. ثم كتابه (تراث العرب العلمي) وقد أصدره المقتطف أيضاً عام 1941 هدية إلى قرائه كذلك. ثم كتابه الجديد (بين العلم والأدب) وهو مجموعة مقالات ومحاضرات وإذاعات علمية وأدبية. ومن كتبه المخطوطة (الأسلوب العلمي عند العرب) وقد ألقى جانب منه في سلسلة محاضرات (ابن الهيثم) التذكارية في الجامعة المصرية. ثم كتابه (العقل في الإسلام) وفيه تحليل ومحاكمة واستقراء لكثير مما وصلت إليه الأبحاث الفلسفية في ظلال الدولة العربية الإسلامية على أيدي فلاسفة المسلمين.
وأما أسلوبه فهو لا يخرج عن حد قوله في كتابه الأخير حين يتحدث عن (الصفر) فيقول: قد يدهش القارئ إذا قلنا إن حساب التمام والتفاضل لا يستغني في بحوثه عن استعمال الصفر، بل إن الصفر عامل مهم جدا في تسهيل حل كثير من مسائلة العويصة. وعلى كل حال يمكن القول بأن (الصفر) ضروري ولازم في البحوث الرياضية الحديثة والعالمية. إذ جعل كثير من الأوضاع والمعادلات قابلة للحل غير ملتوية المسالك).
(له تكملة)
محمد سليم الرشدان
(ماجستير في الآداب اللغات السامية)