مجلة الرسالة/العدد 688/من عجائب التصحيف
مجلة الرسالة/العدد 688/من عجائب التصحيف
للأستاذ محمود عزت عرفة
(مهداة إلى الأستاذ علي الطنطاوي، رجاء ألا ينفذ وعيده من
هجر الكتابة وكسر القلم، احتجاجا على ما تمنى به مقالاته
البارعة من مشوهات التصحيف والتحريف).
لو يعلم الأستاذ الجليل علي الطنطاوي أنى لا أكاد أقع على تصحيف واحد في مقالاته، إلا أن ينبه هو عليه بتصحيحه في ذيل مقالة تالية لأخذ منه العجب مآخذه. ذلك آني اقرأ عباراته على صحتها، وأتناولها في الأغلب على وجهها؛ فيسبق لساني إلى كلمة (المضري) مثلا، وهي أمام عيني محرفة إلى كلمة (المصري)، ولا أكاد أتنبه إلى أن (يطير به) تصحفت إلى (يطر به) الخ. وما اشك في إن كثيرا من قراء (الرسالة) يفعلون ذلك دون تكلف أو عناء.
ولست اعرف الأستاذ بمجهول لديه حين أقول إن التصحيف والتحريف والتبديل والتطبيع، هي ضرائر في لغتنا لا مخلص لنا منها، مرجعها إلى تشابه في بعض الحروف لا يجدي معه شكل أو إعجام. وأين نقع نحن من أسلافنا - أرباب الفصاحة وفرسان البيان - وهم قد أتوا من فنون هذا التصحيف بما اضحك منهم الثكالى وجفف دموع الباكيات؟ بل أين من سلم في القدماء والمحدثين من هذه الآفة، أو تهدى إلى وجه الخلاص منها، إلا إن يكون - على حد قول العسكري صاحب كتاب (التصحيف والتحريف) - (ممن افتن في العلوم، ولقي العلماء والرواة والمتقدمين في صناعتهم، المتقنين لما حفظوه، واخذ من أفواه الرجال، ولم يعول على الكتب الصحفية، ولم يؤثر شدة الراحة والتقليد على تعب البحث والتنقيب. . .)؟
هذا كتاب الله الذي أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. . . لم يسلم ممن يعرض له بالتصحيف والتحريف، وهو ما هو سريانا على السنة المسلمين، والتقاطا بقلوبهم، وتمكنا من صدورهم، لولا أن صدق الله في وعده: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد).
فقد ذكروا إن حماد بن الزبرقان، المقرئ الراوية، كان يصحف ألفاظا في القران لو قرئ بها لكان صوابا، لأنه حفظ القران من مصحف ولم يقراه على شيخ، فكان مما يغلط فيه: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها أباه) يريد (إياه). وكان يقرا: (بل الذين كفروا في غرة وشقاق) والصواب (عزة). ويقرا: (لكل امرئ منهم يومئذ شأن يَعنيه) بدل (يُغنيه).
وقرأ عثمان بن آبي شيبة على أصحابه التفسير: (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل)، يعنى قالها كأول البقرة (ألف، لام، ميم). وحدث عنه إسماعيل بن محمد البسري قال: سمعت عثمان بن آبي شيبة يقرأ: (وجعل السقاية في رِجل أخيه) فقلت له: ما هذا؟ قال: تحت الجيم واحد وكان يقرأ: (وما عملتم من (الخوارج) مكلبين)!
وينسب أصحاب حمزة الزيات أليه إنه كان يتعلم القرآن من المصحف، وانه قرا يوما وأبوه يسمع: (ألم، ذلك الكتاب لا زيت فيه)، فزجره أبوه وقال: دع المصحف وتلقن من أفواه الرجال!
وكان محمد بن الحسن العطار المقرئ - المعروف بابن مقسم - يتلو قوله تعالى: (فلما استيأسوا منه خلصوا نجبَاء. . .) بالباء والهمزة في آخره. ويقرا بحروف أخرى تخالف الإجماع ويتمحل لها وجوها بعيدة من اللغة والمعنى. قال احمد الفرضي: رأيت في المنام كأني في المسجد الجامع أصلي مع الناس، وكأن ابن مقسم قد ولى ظهره للقبلة وهو يصلي مستدبرها، فأولت ذلك مخالفته الأئمة فيما اختاره لنفسه من القراءات
هذا طرف مما أثر عن تصحيفات القراء. . . أما (المحدثون) فلهم في ذلك ما يستخرج العجب. قال أبو علي الرازي: كان عندنا شيخ يروي الحديث - من المغفلين - فروى يوما إن النبي ﷺ أحتجم وأعطى الحجام آجرة! يعني أجره
وحدث ابن شهاب قال: أخبرني عبد الله بن ثعلبة أن النبي ﷺ مسح وجهه (من القبح) - قال أحمد أبن حنبل: أخطأ وصحف، إنما هو (زمن الفتح).
وفي الحديث: إن الكافر ليجر لسانه فرسخين يوم القيامة يتوطؤه الناس. حرفه بعظهم فقال: ليجر لسانه في سجين. . . والأول هو الصحيح
وأغرب من هذا ما حكاه القاضي أحمد بن كامل قال. حضرت بعض مشايخ الحديث من المغفلين فقال: عن رسول الله ﷺ، عن جبريل، عن الله، عن رجل قال: فنظرت فقلت: من هذا الذي يصلح أن يكون شيخ الله؟ فإذا هو قد صحفه، وحقه - عز وجل -
وصحف رجل قول النبي ﷺ: عم الرجل صنو أبيه فقال: غم الرجل ضيق أبيه.
وصحفوا: لا يرث حميل إلا ببينة (والحميل الدعي في نسبه) فقالوا: لا يرث جميل إلا بثينة!
ومن الأحاديث المصحفة قوله عليه الصلوات: أتحبون أن تكونوا كالحمر الضالة؟ قالوا: هي (الصالة) بالصاد المهملة - يقال للحمار الوحشي الحاد الصوت، صال وصلصال، كأنه يريد الصحيحة الأجساد الشديدة الأصوات لقوتها ونشاطها.
وللأدباء والنحاة وعلماء اللغة تصحيفات كثيرة تتبع بعضهم بعضا فاكثروا التتبع حتى افتضحوا جميعا. ولا تكاد تخلو مجموعة لغوية من فصل يعقد لهذا النوع المتعنت من النقد. ونحن نبدأ في هذا المقام بذكر السقطة التي أخذوها على الجاحظ (يرحمه الله)، لأنه كان ممن لا ينفك يتتبع سقطات الرجال، بل ليتزيد عليهم من القول بما يدعهم مضغة الأفواه وأضحوكة المحافل. . . قال العسكري في كتابه: سمعت من يحكي عن ابن دريد - ولم أسمع هذه الحكاية منه - إنه قال: وجدت للجاحظ في كتاب البيان والتبيين تصحيفا شنيعا في الموضع الذي يقول فيه: حدثني محمد بن سلام قال: سمعت يونس يقول: ما جاءنا عن أحد من روائع الكلام ما جاءنا عن النبي ﷺ قال أبو بكر: وإنما هو عن البتي (بضم الباء وكسر التاء مشددة) أي عن عثمان البتي وكان فصيحا؛ فأما النبي ﷺ، فلا شك عند المسلم والذمي انه كان افصح الناس. فهذا تصحيف آبي عثمان الجاحظ!
وجلس اللحياني (أبو الحسن علي بن المبارك) يملي نوادره يوما فقال: مثقل استعان بذقنه. فقام أليه يعقوب بن السكيت وهو حدث فقال: يا أبا الحسن، إنما العرب تقول: مثقل استعان بدفيه، يريدون الجمل إذا نهض بالحمل استعان بجنبيه. فقطع اللحياني الإملاء، فلما كان في المجلس الثاني أملى فقال: تقول العرب: هو جاري مكاشري (بشين معجمة)، فقام يعقوب فقال: أعزك الله، ما معنى مكاشري؟ إنما هو مكاسري، كسر بيتي إلى كسر بيته. فقطع اللحياني الإملاء بعد ذلك. . .
وحدث أبو العيناء قال: كتبت إلى صديق لي: جعلت فداك من السوء كله! فلقيني بعد ذلك فقال لي: إنما استفيد أبدا منك - لأعدمت ذاك - وقد كتبت إلى: جعلت فداك من الشوكلة. فما الشوكلة؟ قال: فعجبت وضحكت ثم قلت: نلتقي بعد هذا وتقع الفائدة!
وحدث عون بن محمد عن أبيه قال: حضرت الأحمر وهو يملي بابا في النحو ويقول: تقول العرب أوصيتك أباك، يريدون بابيك، وأوصيتك بابيك، وأوصيتك جارك، يريدون بجارك، وأنشد:
عجبتُ من (دهماء) إذ تشكونا ... ومن آبي (دهماء) إذ يوصينا
جيرانَنا. . . كأننا جافونا!
فقال له رجل: أنت تقيس الباب على باطل، إنما هو: خيرا بها كأننا جافونا. قال: فغضب وقام!
وقرأ رجل يوما على عبد الله بن المفجع:
ولما نزلنا منزلا طلَّه الندى ... أنيقاً وبستاناً من النور (خالياً)
بالخاء المعجمة - فحرك المفجع رأسه وقال: يا سيد أمه، فعلى أي شيء كنتم تشربون؟؟ على الخسف؟!
ولأجل هذه الشناعة في التصحيف كانوا يتحاشونه، ويتداعون إلى ذمه في أشعارهم. قال ابن عساكر صاحب تاريخ دمشق:
وإنك لن ترى للعلم شيئاً ... يحققه كأفواه الرجال
فلا تأخذه من صحف فترمَى ... من التصحيف بالداء العضالِ
ولم يهج شاعر أبا حاتم السجستاني بأشد مما قال فيه:
إذا أسند القومُ أخبارهم ... فإسنادْه الصّحف والهاجس
ومن طرائف أبي نؤاس قوله في أبان اللاحقي:
صحَّفتْ أمك إذ سمَّ ... تك في المهد (أبانا)
قد علمنا ما أرادتْ! ... لم تُرِد إلا (أتانا) وتهكم بأحد المبخلين فقال:
رأى (الصيف) مكتوباً فظن بأنه ... لتصحيفه (ضيف) فقام يواثبه
وهجا سيف الدين بن المشد عوادا فقال:
عوادُنا قد طُمست عينُه ... فصار التصحيف (قوَّادا)
ما عاد إلا لقياداته ... لأجل ذا سُمِّي (عوادا)!
قال صاحب مطالع البدور: قلت: وان كان حصل له عمى فأحسن!!
(البقية في العدد القادم)
محمود عزت عرفة