انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 686/مما زيد على كتابنا (في أصول الأدب):

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 686/مما زيد على كتابنا (في أصول الأدب):

مجلة الرسالة - العدد 686
مما زيد على كتابنا (في أصول الأدب):
ملاحظات: بتاريخ: 26 - 08 - 1946


الجاذبية في القصص

الجاذبية هي الشوق الذي يبعث اللذة ويثير الاهتمام ويحرك الانتباه ويربط السامع أو القارئ بموضوع القصة أو الرواية. ومبعث هذا الشوق اختيار الموضوع المفيد أو الطريف، واصطناع الأسلوب الخالب والصور البراقة والنوادر الممتعة والحوار القصير السديد. وأثر هذه الجاذبية إما أن ينال الذهن أو المخيلة أو الوجدان.

فجاذبية الذهن أن يكون القصص مبعثاً للنور ومصدراً للمعرفة وداعياً إلى التفكير، كالجاذبية التي تحسها وأنت تقرأ تاسيت أو ابن خلدون. ومثل هذه الجاذبية تكفي في القصص التاريخي دون القصص الشعري، لأن الأول أساسه التعليم والإقناع، والثاني أساسه التأثير والإمتاع.

وجاذبية المخيلة تكون بتصوير مناظر الطبيعة للنفس وجلاء ألوانها للعيون، بالوصف الصادق والأسلوب القوي؛ ولكن هذه الجاذبية إذا لم تقترن بأخرى لا تلبث أن تبوخ وتضعف، فإن النفس لا تعلق إلا بما ينيرها أو يثيرها، فإذا لم تهتز للقصص فلا أقل من أن نستفيد منه

أما جاذبية الوجدان، فأن يحرك القصص في نفسك عوامل الألم أو اللذة، ويثير في حسك عواطف الحنان والقلق والدهش والهول والعزاء، ويذيقك لذة الشعور بأنك حساس؛ وهذه أمتع اللذائذ جمعاء. لذلك جاذبية الوجدان أقوى من أختيها، فهي تغني عنهما وهما لا تغنيان عنها. ولو تأملت في هذه الأحاديث (الحواديت) التي سايرت الإنسانية من جيل إلى جيل، وتذكرت فعلها الساحر في قلبك وأنت صغير، وجمال ذكراها في نفسك أنت كبير، لعلمت أن سر حياتها وقوتها ولذتها هو أن جاذبيتها من هذا النوع.

وأحسن القصص وأجوده ما أشتمل على أنواع الجاذبية الثلاثة. وشرط الجاذبية أن تتدرج في أجزاء الموضوع فتبدأ ضعيفة ثم تنمو كلما نما العمل وتعقد الحادث حتى تنتهي مع الحل وقد استراح السامع ونقع نفسه. ومن ثم كان حقاً على الكاتب ألا يبوح في البداية بما سيحدث في النهاية، وإلا أخطئه التوفيق وفاته التشويق وأعوزته الجاذبية. وإذا عرفت أن قوام الجاذبية في القصص هو حسن تدرجها فيه ودقة توزعها في مناحيه ناسب أن نعرض هنا إلى عناصره فنقول:

عناصر القصص الأساسية ثلاثة: العرض، والتعقيد، والحل: فالعرض يقوم بإعداد ذهن القارئ أو السامع إلى موضوع القصة أو الرواية أو الملحمة، فيصف مكان الحادث وزمان، ويُعرّف الأشخاص وأخلاقهم، ويذكر الحوادث التي سبقت القصة إذا كان هناك داع إلى ذلك. وقد يطول أو يقصر على حسب الموضوع، ولكن أخص صفاته أن يكون سريعاً إلى الغرض بريئاً من المقدمات، واضح المنهج، سالماً من الحشو والتكلف، داخلاً في الموضوع، خارجاً منه خروج الزهرة من الساق كما قال شيشرون. أما طريقته فتختلف باختلاف الحادث والظروف: فطوراً يلقي الكاتب بالقارئ في الموضوع دفعة واحدة، ثم يسوق الحوادث الأولى ببراعة ودقة؛ وطوراً يبتدئ منفجراً بعاطفة مكظومة منذ طويل؛ وقد يبتدئ بحكمة بليغة، أو مثل سائر، أو رسم طبوغرافي مشوق، أو وصف تاريخي ممتع. والعبقرية الخالقة لا تُرسم لها الطرق ولا توضع لها القيود.

والتعقيد هو جسم القصة، أو الموضع الذي تشتد عنده الجاذبية، وتشتبك الحادثة، وتمتزج الوقائع والأشخاص والظروف، حتى يُشكل على القارئ الأمر ويعمى عليه الخبر فلا يعرف منه مخرجاً ولا يدري له نتيجة. فخاصته كما رأيت تقوية الجاذبية وتنميتها؛ ولا يتسنى ذلك للكتاب إلا إذا أسدل على النهاية حجاباً شفافاً، ووقف القارئ بين الرجاء والخوف، وجانب التطويل الذي يعوق سير العمل، واحتفظ للنهاية بسرور المفاجأة أو دهشة الفجيعة

والحل هو الجزء الأخير الذي يبرد فيه الشوق وتحل العقدة وتظهر النتيجة. ولا بد أن يكون كل ما سبقه مهيّئاً له وصائراً إليه، دون أن يعلنه أو يدل عليه. فإن القارئ إذا حزره قل شوقه إليه وأنقطع اهتمامه به. والشرط الأساسي لإجادة الحل ألا تزيد عليه، لأن السامع إذا علم ما كان يجهله، وأدرك ما كان يشغله، قرت نفسه وخمد نشاطه، فلا يريد أن يعلم شيئاً

ومن أحسن المُثل على دقة التعقيد وبراعة الحل قطعة من كتاب (الشهداء) لشاتوبريان سيد كتاب فرنسا يصف بها مقتل الشهيد (أودور)، وقد حمل نفسه على أن يتجرع الغصة الأخيرة من عذابه الأليم دون أن يرتد عن دينه، ولا أن يتزحزح عن يقينه، حتى نمى إليه أن امرأته (سيمودوسيه) على وشك أن يحكم عليها القضاء بالعيش في مواخير الفجور إذا هو لم يقدم القربان إلى الآلهة. كان حبه لزوجه فوق حبه لحياته، فهل يكون حبه لربه فوق حبه لزوجه؟ ذلك ما لا ندريه

(أغمى على أودور. وأسرع الناس إليه، والتف الجند من حوله، واستولوا على الكتاب، وطلب الشعب أن يقرأ عليهم. فقرأه أحد النواب بصوت جهير. وظل الأساقفة سكوتاً والهين، والمجلس يعج بالضجيج والحركة. عاد أودور إلى رشده، فرأى الجند بين يديه يصيحون به: (هلم يا رفيقنا، قرب القربان، وهذه أعلامنا تقوم مقام الهيكل)، ثم قدموا إليه قدحاً مملوءاً بالنبيذ ليريقه. فثارت في قلب أودور عواصف الفتنة، وتجاذبت رأيه عوامل الوساوس: كيف تصير (سيمودوسيه) إلى مواخير الفسق؟ وكيف تصبح بين ذراعي (هيبروقليس)؟ نفج الشهيد صدره، وأنكسرت آلة عذابه، فسال دمه غزيراً، فضج الشعب وجثا إشفاقاً عليه ورحمة له، وأخذ يهيب به مع الجنود: (قرب القربان! قرب القربان!) هنالك قال أودور بصوت خافت متهافت: أين الأعلام؟ فقرع الجنود تروسهم علامة الفلج والظفر، وبادروا إلى أعلامهم فحملوها إليه. فنهض أودور يسنده حارس، وتقدم حتى وقف أمام البنود؛ وقد خشعت الأصوات وشمل السكون، ثم تناول القدح فستر الأساقفة رءوسهم بفضل مسوحهم، وصاح القساوسة صيحة الجزع. ولكن أودور رمى بالقدح، وألقي بالأعلام، والتفت إلى الشهداء وقال: أشهد أني مسيحي!!)

فأنت ترى أن جاذبية قوية استولت عليك وأنت تقرأ هذه القطعة؛ لأن عزم أودور ظل مجهولاً حتى نهاية الأمر. فلما طلب الأعلام بصوت خافت وقع في نفسك بعض ما وقع في نفوس الشهداء والقسيسين من الضيق والحزن. حتى إذا أهاب به القساوسة إلى الواجب وألقى بالقدح وقال: (أشهد أني مسيحي) تفرَّجتَ من الهم وتنفَّستَ تنفس الراحة!

أحمد حسن الزيات