مجلة الرسالة/العدد 686/صور من العصر العباسي:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 686/صور من العصر العباسي:

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 08 - 1946



الخلفاء العباسيون والتجسس

للأستاذ صلاح الدين المنجد

- 2 -

وثمة خليفة آخر أولع ببث العيون، وتسقط الأخبار، حتى على وزرائه وخاصته، وهو المعتضد. وقد أورد التنوخي قصة تدل على مبلغ شغف هذا الخليفة بالتجسس، ومهارة المتجسسين في ذلك العصر. فقد كان القاسم وزيره يحب الشرب واللعب، ويخاف أن يتصل بالخليفة خبره فيستنقصه وينسبه إلى الصبوة والتهتك والتشاغل في اللذات عن الأعمال. وكان لا يشرب إلا على أخفى وأستر ما يكون. فخلا يوماً مع جوار مغنيات، والبسن من ثيابهن المصبغات، وأحضر فواكه كثيرة وشرب ولعب من نصف النهار إلى نصف الليلة الأخرى، ونام بقية الليلة، وبكر إلى المعتضد للخدمة على رسمه، فما أنكر شيئاً. وبكر في اليوم الثاني، فحين وقعت عين المعتضد عليه قال له: يا قاسم، ما كان عليك لو دعوتنا إلى خلوتك وألبستنا معك من ثيابك المصبغات؟ فقبّل الأرض وروى عن الصدق، وأظهر الشكر على هذا التبسط، وخرج وقد كاد يتلف غماً لوقوف المعتضد على هذا القدر من أمره، وكيف لا تخفي عليه مواقفه. فجاء إلى داره كئيباً، وكان له في داره صاحب خبر يُقال له خالد يرفع له أمورها، فأحضره وعرّفه بما جرى بينه وبين المعتضد، وقال له: إن بحثتَ لي عمن أخرج هذا الخبر زرتُ في رزقك وأجزتك كذا، وإن لم تعرفه نفيتُك إلى عُمان، وحلف له على الأمرين. فخرج صاحب خبره من حضرته متحيراً كئيباً لا يدري ما يعمل، وأخذ يفكر ويحتال ويجتهد. قال صاحب الخبر: فلما كان من الغد بكرتُ إلى دار القاسم زيادة تبكير على ما جرى به رسمي لفرط سهري وقلقي تلك الليلة ومحبتي للبحث، فجئتُ ولمُ يُفتح ولم يفتح باب دار القاسم بعد. فجلست. فإذا برجل يزحف في ثياب المكدين ومعه مخلاة كما يكون مع المكدين. فلما جاء إلى الباب جلس حتى فُتح، فسابقني إلى الدخول، فأولع به البوابون وقالوا: أي شيء خبرك يا فلان؟ وصفعوه فمازحهم وطايبهم وشتمهم وشتموه، وجلس في الدهليز فقال: الوزير يركب اليوم؟ قالوا: نعم. . . الساعة يركب. قال: وأي وقت نام البارحة؟ قالوا: وقتَ كذا. فلما رأيتُه يسأل عن هذا خّمدتُ أنه صاحب خبر، فأصغيتُ إليه، ولم أرهم يحفلون بأمره. وهو لم يدع بواباً ممن وصل إلى الوزير وممن لم يصل إلا سأله عنه، وكان يبدأه بأحاديث أخر على سبيل الفضول، ثم زحف فدخل إلى جنب أصحاب الستور، فأخذ معهم في مثل ذلك، وأخذوا معه في مثله. ثم زحف فدخل إلى دار العامة. فقلتُ لأصحاب الستور: من هذا؟ قالوا: رجل زمنٌ فقير أبله طيب النفس، يدخل الدار، ويتطايب، فيَهب له الغلمان والمتصرفون. فتبعته إلى أن دخل المطبخ فسأل عما أكل الوزير، ومنْ كان معه على المائدة، وفي أي شيء أفاضوا، والطباخ وغلمان صاحب المائدة كلُّ واحد يخبره بشيء، ثم خرج يزحف حتى دخل حجره الشراب، فلم يزل يبحث عن كلُّ شيء، ثم خرج إلى خزانة الكسوة، فكانت حالته وصورته هذه. ثم جاء إلى مجلس الكتاب في الديوان، فأقبل يسمع ما يجري، ويسأل الصبي بعد الصبي، والحدث بعد الحدث. عن الشيء بعد الشيء، ويخلط الجد بالمزاح والتطايب بكلامه والأخبار تنجر إليه، وتتساقط عليه، والقطع تجيئه وهو يملأ تلك المخلاة، فلما فرغ من هذا أقبل راجعاً. فلما بلغ الباب تبعتُه، فرجع حتى جاء إلى موضع من الخلد فدخل إليه، فوقفت أنتظره، فإذا هو بعد ساعة قد خرج بثياب حِسانٍ ماشياً. . . فتبعتُه حتى جاء إلى دارٍ قرب دار الخادم الموكل بحفظ دار ابن طاهر فدخلها، فسألت عنها، فقالوا: هذه دار فلان الهاشمي، رجل متجمل. فرصدته إلى وقت المغرب، فجاء خادم من دار أبن طاهر فدق الباب، فكلمه من خوخة له، فصاح به، ورمى إليه برقعة لطيفة، فأخذها الخادم وانصرف. فبكرت من سحر إلى الدار التي في الخلد، ومعي غلمان، فإذا أنا بالرجل قد جاء بزيه الذي دخل به داره، فكبسته في الموضع، فإذا هو قد نزع تلك الثياب ولبس ثياب المكدين التي رأيتها عليه أولاً، فحملته وغطيت وجهه وكتمتُ أمره حتى أدخله دار القاسم ودخلت إليه وقصصت عليه الخبر. فاستدعاه وقال: لتصدقني عن أمرك أو لا ترى ضوء الدنيا ولا تخرج من هذه الحجرة. قال: تؤمنني؟ قال: أنت آمن. فنهض وقال:

(أنا فلان بن فلان الهاشمي، رجل متجمل، وأنا أتخبر عليك للمعتضد منذ كذا. . . ويجري علّى المعتضد خمسين ديناراً في الشهر، أخرج كلُّ يوم بالزي الذي لا ينكر جيراني، فأدخل داراً في الخلد بيدي منها بيت بأجرة، فيظن أهلها أني منهم، ولا ينكرونني لزيي، فأخرج هناك بهذه الثياب وأتزامن من الموضع، وألبس لحية فوق لحيتي مخالف للوني، حتى لا يعرفني من يلقاني في الطريق، وأمشي زحفاً إلى دارك، فأعمل جميع ما عرفت، وأقتفي أخبارك من غلمانك، وهم لا يعرفون غرضي، وُيخرجون لي بالاسترسال ما لو بذل لهم فيه من الأموال الكثير لم يُظهروه، ثم أخرج إلى موضع من الخلد فأغير ثيابي، وأعطى ما اجتمع معي في المخلاة للمكدين، وألبس ثيابي الحسان، وأعود إلى منزلي، فإذا كان المساء جاءني خادم من خدم ابن طاهر مندوب لهذا، فأرمي إليه برقعة فيه خبر ذلك اليوم ولا أفتح له باباً، فإذا كان آخر الشهر جاءني فأعطيته الرقعة ويعطيني الجائزة. . .!)

قال صاحب الخبر: فحبسه القاسم أياماً فحسبه أهله أنه مات، فأقاموا عليه المآتم، فدخل القاسم على المعتضد فقال له: إبراهيم الهاشمي التزامي، بحياتي أطلْقه وأحسن إليه. . وأنت آمن من بعدها من أن أنصب عليك صاحب خبر

فتركه القاسم، وانقطعت أخباره عن المعتضد

فهذه قصة رائعة طريفة تدلك على مبلغ حب المعتضد تسقط الأخبار، ومبلغ مهارة أهل ذلك العصر في الحيلة والبراعة في التجسس، وهي قصة لا تحتاج إلى تعليق، فما قرأت في بابها في كتبنا القديمة أشوق منها ولا أحلى

ومن هذه القصة، ومن الأخبار التي سردتها لك في العدد الماضي - من قبل - ترى ما كان للتجسس من شأن عند الخلفاء العباسيين. أما عناية الوزراء بالتجسس وتحسس الأخبار، فسأبينه في مقال آت.

جديتا (لبنان)

صلاح الدين المنجد