مجلة الرسالة/العدد 686/الأدب في سير أعلامه:
مجلة الرسالة/العدد 686/الأدب في سير أعلامه:
ملْتُن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 23 -
البرسبيترينز والصدمة الثانية:
يضرب ملتن لقومه مثلا لما يقع من الضر إذا اختنقت حرية الرأي فيستعيد ذكرياته عن رحلته في إيطاليا ويذكر كيف عدة المثقفون هناك سعيداً بمولده في إنجلترا موطن الفلسفة الحرة إذ كانوا يظهرونه على تألمهم وحسرتهم لما تعاني المعرفة عندهم من تعسف وإعنات وقيد؛ ويقول ملتن إن ما يعانيه طلاب المعرفة هناك من قيود هو سبب ما أكتنف مجد أولي الذكاء من الإيطاليين من ضباب، وإلى تلك القيود يعزى مَلَقُ الإيطاليين وادعاءاتهم وهما خلتان بارزتان في أكثر ما يكتبون. . .
ويشير ملتن في فقرة قوية بالغة الأثر في النفوس إلى ضحية من ضحايا الحرية وذلك هو جليليو الذي جاهد طويلاً ليكشف عن الأبصار ما حجب عنها النور من غشاوة، ويزيح عن القلوب ما طمس عليها من خرافة وجهل، فكان جزاءه السجن والمهانة وقد تحطم هيكله الذي آده العبء كما آدته السنون وذهب بصره فأحاطت به الظلمة وهو الذي طالما صبر على أذى قومه وصابرهم ليخرجهم من الظلمات إلى النور.
ولن يزالا ملتن عظيم الثقة في انجلترة، يقدرها حق قدرها ويراها خير أمة منذ قام العالم، فهي أمة ذكية بصيرة حازمة، ذات روح وثابة سريعة إلى ما تريد، لن تتخاذل عن أقصى ما تصل إليه المقدرة البشرية، عريقة في المعرفة على اختلاف فروعها حتى ليمكن القول إن مدرسة فيثاغورس والحكمة الفارسية القديمة إنما استمدتا بدايتهما من انجلترة؛ ولها في الدين وما هو من بابه من المعرفة، باع طويلة وقدم راسخة، فلولا ما كان من مقاومة بعض القساوسة لو كليف ونظرتهم إليه كصاحب بدعة وداعية شقاق لما سمع أحد عن لوثر أو كلفن نفسيهما، ولن تزال انجلترة مبعث كلُّ دعوة إلى الإصلاح ومنار كلُّ نهضة تقوم في القارة، وسيبقى لها فخر إصلاح جيرانها غير منتقص ذلك الفخر أبداً. . . وقد تأذن الله لكنيستها بعصر جديد عظيم سوف تصلح فيه الإصلاح نفسه، وكان أن تجلى الله لعباده وبدأ كما هو شأنه بالإنجليز منهم. . .
ولئن عظم أمله في انجلترة وما يرجى فيها من خير، فإنه يوجس خيفة من التنكر للحرية كما فعل البرسبتيرينز، ولذلك فإنه يراهم شراً أي شر، فما يحجب نور هذا الأمل عن البلاد إلا عنادهم واجتراؤهم على فعل ما كرهوه من قبل مما فعل القساوسة.
ويغلط ملتن لهم القول ويعنف عليهم كما صنع بالقساوسة فيرميهم بالنفاق والجشع، فما يتأتى الإخلاص لقوم يكرهون الحرية ويعترضون لها وما عبادته إلا حرفة احترفوها وتجارة يخشون كسادها ثم يتنبأ في آخر كتيبه بأن سوف يلقي الباطشون من يبطش بهم، ولعله بذلك يستخرج من مجرى الحوادث السياسية أن المستعلين سوف يعملون على سحق سلطة البرسبتيرينز بعد أن يفرغوا من محاربة الملك ولقد جاءت الحوادث بعد ذلك محققة ما لمح به.
وكرهت رجعة البرسبتيرينز كما يزعم إليه كلُّ القائمين على شؤون الدين، ولا عبرة بالمذهب، وقر في نفسه أن حرية الفكر والرأي مستحيلة ما دام هؤلاء قوامون على الناس، وعنده أن تعصب القساوسة إنما يظهر في صور وأشكال جديدة؛ وما دام الأمر كذلك فلا إصلاح يرتجي؛ إذ كيف يتحقق الإصلاح بغير الوصول إلى الحق، ولا سبيل إلى الحق إلا الحرية ويريد بها تحرير العقل من الجهالات والضلالات ليفكر طليقاً ويتدبر فيما جاء به المسيح غير مقيد بقيد مهما كان نوعه أو كان مبلغه من الشدة أو العنف؛ وإذاً فالفكر الحر والرأي هما سبيلا الإصلاح الحق ولا سبيل غيرهما.
لقد جاء المسيح بالهدى والحق إلى هذه الدنيا، وذلك مبين في الإنجيل، ولكن الناس بعيدون عما بين لهم من الهدى لأنهم أخذوا أخطاء المفسرين على أنها الحق المقدس وفي ذلك أبلغ الضرر؛ ولا مخرج لهم إلا أن يناقشوا المسائل التي يحيط بها الشك مناقشة لا قيد فيها حتى يهتدوا إلى الصواب، ولن يستطيعوا أن يفعلوا ذلك إلا أن تتاح لهم الحرية، فكأن الذين يخنقون الحرية إنما يحولون بين الناس وبين ما آتاهم المسيح من الهدى وأي إثم هو أكبر من هذا الإثم؛ وكيف يطمع المصلحون في الإصلاح إلا أن يكفوا أيدي هؤلاء البرسبتيرينز الذين يصدونهم عن سبيله ويزعمون أنهم هم المصلحون. . .
بهذا المنطق القوي أزعج ملتن البرسبتيرينز، فمثل هذا الكلام يكون أشد وقعاً وأعظم أثراً من الهجاء مهما أقذع، ولذلك كانت هذه الحرب أقوى من حربه على القساوسة وإن بدت أقل منها ضجيجاً لأن سلاحه فيها كان أمضى ولأنه يقاتل في سبيل مبدأ تميل إليه بطبعها النفوس. . .
تلك هي خلاصة الأيروباجيتيكا؛ ويزعم بعض النقاد وأحسبهم على حق فيما يزعمون أنه لو لم يكن ملتن صاحب الفردوس المفقود وصاحب كومس والفردوس المستعاد وغيرها من الشعر لذهبت كتاباته النثرية مع الزمن إلا هذا الكتيب الذي جعله للدفاع عن مبدأ من أجل المبادئ في حياة بني الدنيا منذ أقدم عصورها ألا وهو حرية العقل لا في تفكيره فحسب فإن ذلك طوع كلُّ فرد ذكي بل في إعلان ما يرى من رأي.
ويحبب هذا الكتيب إلى النفوس فضلاً عما يدافع عنه من مبدأ فيه، ما ساقه ملتن من أمثلة وما لجأ إليه من الإشارات والتلميحات كما يفعل في شعره، وكان التاريخ هنا هو الكنز الذي استخراج منه أصدافه ولآلئه، وحسبك أن يلمح إلى سقراط واستشهاده وإلى جليليو وما لاقى من كوارث وإلى أفلاطون وبيكون وإرزس وسبنسر الذي وصفه بقوله (شاعرنا الحكيم الوقور)، وأضربهم ممن اهتدوا بنور العقل في ظلمات الجهل فكانوا على طريق الإنسانية مصابيح تنطوي القرون ونورهم أبلج وكلما اشتدت الظلمة ازدادوا ظهوراً ككواكب السماء ونوراً. . . وحسبك أن يشير إلى أثينا وأن يمتدح فيها النشاط العقلي وأن يشيد بما كان يعلم آباء المسيحة الأولون من علوم الأقدمين؛ إلى كثير من أمثال ذلك مما يسوقه براهين على فضل العقل، ففي العقل وحده الخلاص من نير الجهل مع شرف القصد والإخلاص في استجلاء الحق لا في الخضوع لكل منقول والتسليم به في غير تدبر فيه. . .
وهو فيما يسوقه من هذه الأمثلة إنما يعرض بالبرسبتيرينز الذين أنكروا منه ما اهتدى إليه بعقله في أمر الطلاق والذين هالهم منه تأويل ما أول من عبارات الإنجيل لتتمشى مع ما ذهب إليه من رأى أو الذين رموه بالفسوق لأنه طلب تحكيم الضمير والاستعانة بالعقل فيما يلتبس فيه الأمر من أحكام الإنجيل ولا يتفق في ظاهره مع طبائع الأشياء.
والحق ملتن خليق بأن يثير إعجاب الناس به جيلاً بعد جيل، فقد كان لشخصه من الجلال ولروحه من القوة ولنفسه من العزة ما لا يتوفر مثله إلا للأفذاذ القليلين على فترات من الزمن؛ ولا نجد فيما تحث عنه المؤرخون خيراً من حديث مكولي عن خلقه فلنأت به على سرده. قال مكولي (وبقي بعد ذلك أن نتحدث عن المعين الذي استمد منه خلق ملتن العام عظمته وروعته الخاصة به، فلئن كان قد أتعب نفسه ليقضي على ملك حانث أو سلطة كهنوتية ظالمة، فإنما فعل ذلك مشتركاً مع غيره من الناس.
ولكن مجد لمعركة التي خاض غمارها من أجل ذلك الضرب من الحرية الذي هو أعظم ضروبها قيمة، وإن كان أقلها حظاً يومئذ من إدراك الناس، وأعني به حرية العقل البشري كان بأجمعه مجده وحده. . .
لقد رفع الألوف من معاصريه وعشرات الألوف منهم أصواتهم ساخطين على ضرائب السفن وعلى محكمة غرفة النجم، ولكن لم يفطن إلا قليل منهم إلى ما يعد شره أعظم من ذلك هولاً ألا وهو الرق العقلي والخلقي، ولا إلى ما عسى أن يعود من خير على الإنسانية من وراء حرية النشر، ومن وراء الحكم الشخصي على الأشياء يجري به الرأي غير مقيد بقيد؛ هذه هي الأغراض التي رأى ملتن أنها بحق أعظم الأغراض خطراً، وكان تواقاً إلى أن يرى الناس يفكرون لأنفسهم كما أنهم يشرعون الضرائب لأنفسهم، وأن يتحرروا من سلطان الهوى، كما قد تحرروا من سلطان (شارل)، وكان يعلم أن الذين اعتلوا صنوف الإصلاح هذه ونفوسهم تنطوي على أحسن المقاصد، وقنعوا بإسقاط الملك وإلقاء الملكيين الطاغيين في السجن، إنما سلكوا مسلك الأخوين الغافلين في قصيدته اللذين ألهاهما فرط حرصهما على تفريق الساحر وقبيله فأهملا وسائل تحرير أسيره، لقد فكروا في هزيمته فقط في حين كان ينبغي أن يفكرا في حل ما عقد من طلاسم السحر: (لقد أخطأتما، فإنه كان ينبغي أن تختطفا عصاه وتشدا وثاقه، وذلك أننا وقد فاتنا أن نقلب العصا رأساً إلى عقب ونقرأ في اتجاه عكسي كلمات الساحر ذات القوة التي تفكك الأوصال، لن نستطيع أن نطلق سراح هذه السيدة التي تجلس هنا مغلولة بأغلال شديدة، فهي في مكانها ثابتة لا تتحرك).
وكان العمل على أن تقلب العصا، وأن تقرأ كلمات السحر في عكس اتجاهها، وأن تفكك القيود التي تشد الشعب الأبله إلى مقعد السحر، كل أولئك كان ما يسعى إليه ملتن من غرض نبيل، وإلى هذا الغرض وجه مسلكه فيما يتصل بالناس كله، فمن أجله انضم إلى البرسبتيرينز ومن أجله اعتزلهم، ولقد خاض معركتهم المحفوفة بالمخاطر، ولكنه نأى بجانبه عنهم مشمئزاً ساعة انتصارهم الوقح، ورأى أنهم كانوا كمن هزموهم لحرية الرأي أعداء، ومن ثم فقد انضم إلى المستقلين ودعا كرمول أن يحطم ما نسب إلى الدين من عل وأن يخلص الضمير الحر من مخلبي الذئب البرسبتيري؛ وهاجم ملتن وهذا الغرض النبيل نصب عينيه قانون الطبع والرقابة في مقال رفيع الطراز يجدر بكل سياسي أن يلبسه كشعار فوق يده وكذؤابة بين عينيه؛ وكانت لا توجه هجماته بوجه عام إلى المساوئ الخاصة بقدر ما كانت توجه إلى تلك الأخطاء المتأصلة التي تكاد تبني على أسسها جميع الأخطاء ألا وهي العبارة الخانعة لذوي المكانة من الناس، والخوف الذي هو ليس من العقل في شيء من كلُّ تجديد.
ولكي يزلزل أسس هذه النوازع المذلة زلزالاً أشد وأوفى بالغرض، كان يختار ملتن نفسه دائماً مما يبذل من الخدمات الأدبية ادعاها إلى الشجاعة والجرأة ولم يكن يأتي قط في المؤخرة بعد أن تنقص الأيدي من الجهود الخارجية وتنفذ الجنود من الثغرة، وإنما كان يدفع بنفسه المقدمة إلى ما تتخاذل دونه الآمال.
ففي بداية ما حدث من أوجه التغير، أخذ يكتب بكل ما في وسعه من نشاط وفصاحة لا يجاريه أحد فيهما منددا بالقساوسة، فلما بدا له أن آراءه قد تم لها الغلبة تجاوزها موضوعات أخرى، وترك القساوسة إلى طائفة كبيرة العدد من الكتاب أسرعت بعده إلى التهجم على تلك الفئة التي تهوى. . .
وليس ثمة من عمل أشد خطراً من الاضطلاع بحمل مشعل الحقيقة إلى المجاهل الموبوءة التي لم يضئ فيها نور قط ولكن ملتن كان يختار لنفسه دائماً أن يقتحم ذلك الضباب الصاخب، وكان يسره ذلك الاختيار كما كان يسره أن يركب الأخطار في ذلك الاكتشاف الذي يبعث الرعب؛ ويجب على أشد الناس إنكاراً لآرائه أن يحيطوا بالتوقير ما لاقاه في سبيل استمساكه بها من عنت وشدة، ولقد ترك لغيره في الجملة العمل على شرح الجوانب المقبولة من عقيدته الدينية والسياسية والدفاع عنها؛ أما هو فقد جعل من نصيبه أن يؤيد العقائد التي سخروا منها لأنهم زعموا أنها متناقضة، فقد ذاد عن حق إباحة الطلاق وأيد إعدام الملك وهاجم نظام التعليم السائد في أيامه وإن عمل الخير الذي يشع النور ليشبه في آلهة الخرافة عمل إله الضوء والخصب)
والحق أن الدفاع عن الحرية كان هدفه في معظم ما كتب، فقد دافع عن الحرية الدينية بحربه على القساوسة وعن حرية النشر بحملته على الرقابة، وعن حرية الضمير بالطعن على البرسبتيرينز وعن حرية الأسرة بإنكار ما ينطوي عليه قانون الزواج من استبداد أو عن الحرية المدنية كما سنفصله في حينه بإعلانه السخط على طغيان التاج. . .
ولكن بعض النقاد يردون ذلك إلى دوافع شخصية محاولين بذلك أن يبخسوه أعماله، فيقولون إنه هاجم القساوسة لأنهم أبعدوه عن الكنيسة، ويدافع عن حق إباحة الطلاق لما صادف في زواجه من خيبة، ويغضب على البرسبتيرينز وينعتهم بضيق العقل لأنهم لم يقروه على ما ذهب إليه في أمر الطلاق ويدعو إلى حرية النشر لأنهم أرادوا أن يخنقوا كتبه. . .
وليس في وسعنا أن ننكر تلك الدوافع الشخصية التي يشير إليها هؤلاء النقاد، فإن شدة شعور ملتن بذاته من أبرز مقومات شخصيته منذ نشأته وأكثر تصرفاته إنما تتم بدافع من ذلك الشعور، ما في ذلك ريب، ولكنا لا نفهم كيف ينتقص ذلك من قدره وكيف يعد عليه ولا يعد له؟
هذا رجل يرى حياته وحياة غيره بالضرورة محفوفة بقيود من القانون والعرف، فيأبى على القيد ويثور لا يريد أن يهدأ حتى يقضي على ما استرق الناس من عباداتهم ومما جرى به العرف بينهم ومما وضعت القوانين من الأغلال في أعناقهم، فماذا يدل عليه ذلك إن لم يدل على شخصية قوية ونفس أبية وضمير حر؟
وهل جاهد ما جاهد في غير عدو؟ ألم يكن على حق فيما أنكر من عيوب عصره؟ إن كانت تلك العيوب قائمة حقاً فلا يمكن أن يقال إن أهواءه ومطالب نفسه هي التي سيطرت على فكره؛ فلا يبقى إلا أن دوافع شخصية حركته وهذا إنما يدل على أنه أحس قبل أن يحس غيره بضرورة الإصلاح، وأن الوضع الاجتماعي في كماله المنشود إنما يقاس مبلغ كماله بمقدار ما فيه مما يشاكل كمال نفسه وتلك تتخاذل دونها الغايات.
وهل كان يستطيع أن يغمض العين غير مساوئ عصره لو لم تحركه دوافع شخصية إلى استنكارها؟ ذلك ما لا يستطيع أحد أن يقوله، ولا هو مما يجوز في عقل عاقل إلا على أوزاع الناس والهمج منهم، ولقد كان ذلك الشاعر القوي الروح العظيم الثقافة مطبوعا على حب الحرية وعلى الجهر بما يؤمن أنه الحق، ومن أجل ذلك كانت نفسه ثورة متصلة الحلقات منذ أن عصى أباه وهو صغير إذ أراد يسلكه في سلك الدين بإلحاقه بالكنيسة وأبى إلا أن يهب للشعر نفسه، ومنذ أن كان يتأبى على قيود عرفية في الجامعة وينكر على الجامدين فيها جمودهم، إلى أن جاهر الإيطاليين بمخالفته إياهم في فطرتهم الدينية على الرغم مما حذِّر به وليسوا قومه، إلى أن أذن القساوسة في وطنه بحرب منه، كلُّ أولئك لأن نفسه تأبى إقرار الباطل ولا ترضى بغير الحق. . .
ولا يسع كلُّ منصف إلا القول بأن ما يشير إليه بعض الناس من دوافع شخصية إنما هو دليل على سلامة عنصره ونبل نفسه وسمو روحه.
(يتبع)
الخفيف