مجلة الرسالة/العدد 683/من تاريخ الإسلامي:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 683/من تاريخ الإسلامي:

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 08 - 1946



حكاية الهميان.!

للأستاذ علي الطنطاوي

(كتبت بطلب من (محطة الشرق الأدنى) لتذاع أول رمضان

سنة 1365)

كان أذان الفجر يصعد من مآذن الحرم في مكة في أول يوم من رمضان سنة أربعين ومائتين للهجرة، فيهبط على تلك الذرى المباركات من قعينقاع وأبى قبيس، فينساب مع نسيم السحر رخياً ناعشاً، يسحب ذيوله على تلك الصخور التي كانت محطة بريد السماء، ومنزل الوحي، ومنبع رحمة الله للعاملين، حتى يمسح ستور الكعبة، فيتنزل على من في الحرم تنزل النفحات الإلهية على قلوب عباد الله المخلصين. . .

وكانت صفوف المؤمنين قائمة للصلاة تدور بالكعبة من جهاتها كلها، صفوف في الحرم ترى الكعبة وتنعم بالقرب منها، وصفوف لا تراها ولكنها تتوجه إليها، وتبصرها بقلوبها، وتقوم وراء الجبال الشم والبحار، في المدن والقرى، والصحارى والسهول، والأودية والقمم، في القصور والأكواخ، والسجون والمغائر، في القفار المشتعلة حراً، والبطاح المغطاة بالثلج. . تتسلسل وتتعاقب لا تنقطع ما امتدت الأرض وكان فيها مسلمون.

وأم أهل مكة الحرم، ولم يبق في داره إلا شيخ في السادسة والثمانين، وإن محطم ما عليه إلا قميص مشدود بحبل، وقاموا للصلاة ما يستطيعون الوقوف مما حشوا به بطونهم من طيبات الطعام، من كل حلو وحامض، وحار وبارد، وسائل وجامد، ووقف يصلي وما يستطيع القيام من الجوع، فقد امسك للصوم بلا سحور، ونام ليلته البارحة بلا عشاء، وأمضى أمسه من قلبها بلا غداء. . . فلما قضى صلاته قعد في محرابه منكسراً حزيناً، وما كان يفكر في نفسه فلقد طال عهده بالفقر حتى ألفه، وهون إيمانه عليه الدنيا حتى نسى نعيمها وازدراها، ولكنه كان يفكر في هذه البطون الجائعة من حوله، وهو كاسبها ومعيلها، وهذه المناكب العارية. . . ولو كان في مكانه رجل آخر قاسى الذي قاساه، ورأى الأغنياء يبذرون المال تبذيراً، ويضيعون الألوف في الباطل على حين يحتاج هو إلى الدانق ف يجده. . . لثار على الدنيا، وذم الزمن، وحقد على الناس، ولكنه كان رجلا مؤمناً موقناً إن الله هو الذي قسم الأرزاق فأعطى - لحكمة يعرفها - ومنع، وإن الناس لا يملكون عطاء ولا منعاً، وإن ما كان لك سوف يأتيك على ضعفك، وما كان لغيرك لن تناله بقوتك، رفعت الأقلام وجفت الصحف.

فقال: أه. الحمد لله على كل حال!

وقام فنزع القميص، ونادى: يا لبابة. فجاءت امرأة ملتحفة بخرقة قذرة، فدفع إليها بالقميص وأخذ الخرقة فالتف بها. . . فقالت المرأة: يا أبا غياث، هذا ثالث يوم لم نذق فيه طعاماً، وهذا يوم صيام وحر. . . فإذا صبرت وصبرت أنا فإن البنات والعجوز لا يقدرن على الصبر، وقد هدهن الجوع، فاستعن بالله، واخرج فالتمس لنا شيئاً فلعل الله يفتح عليك بدوانق أو كسيرات ندخرها لفطورنا.

قال: أفعل إن شاء الله.

وانتظر حتى علت الشمس وكان الضحى، فخرج يجول في أزقة مكة وطرقها، وكان الناس قد انصرفوا إلى دورهم ليقيلوا فلم يلق في تطوافه أحداً. واشتد الحر، وتخاذلت ساقاه، وزاغ بصره، وأحس بجوفه يلتهب التهاباً من العطش، وكان قد صار في أسفل مكة فألقى بنفسه في ظل جدار. وكان من أكبر أمانيه أن يدركه الأجل فيموت مؤمناً، فيتخلص من هذا الشقاء وينال سعادة الأبد. وجعل ينكت التراب بيده، وهو سادر في أمانيه، فلمس يده شئ مستطيل لين، فسحبها ونظر فإذا هو بذنب حية مختبئة خلال التراب، فتعوذ بالله، ثم عاودته رغبته في الموت، وتمنى لو تلدغه فتريحه، ثم ذكر إنه لا ينبغي للمؤمن أن يطلب الموت، وإنما ينبغي له أن يقول: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وأمتني إن كان الموت خيراً لي. فقالها واستغفر الله. وعاد يرقب الحية فإذا هي ساكنة، فعجب منها ولمسها برجله، فلم تتحرك فبحث عنها وحفر، فإذا الذي رآه حزام وليس بحية، فشده فجاء في يده (هميان) فيه الذهب، عرفه من رنينه وثقله، فأحس كأن جوعه وعطشه قد ذهبا، وكأن القوة قد صبت في أعصابه، والشباب قد عاد إليه. . . وتصور إنه سيحمل إلى نسائه الشبع والدعة والراحة، ويملا أيديهن مما كن يتخيلنه ولا يعرفنه من نعيم الحياة ورغد العيش، وجعل يفكر فيما يشتريه لهن، وكيف يتلقين هذه النعمة التي ساقها الله إليهن حتى كاد يخالط في عقله. ثم تنبه في نفسه دينه، وعلا صوت أمانته يقول له: إن هذا المال ليس لك. إنما هي لقطة لا بد لك من التعرف بها سنة فإذا لم تجد صاحبها حلت لك. وتصور السنة وطولها وهو الذي يبحث عن عشاء يومه. . . وهل يبقى حياً سنة أخرى؟ وهل تبقى أسرته في الحياة؟ وماذا ينفعه أن يكون الذهب له بعد ما مات من الجوع. ومات معه من يرثه؟. . . وأحس كأن قواه قد خارت، وود لو أعاد الهيمان إلى مكانه، ولم يكن قد ابتلى بهذه البلية. . . ولكنه كان رجلا فقيهاً يعلم أن اللقطة أن مست فلا بد من التعرف بها، وان هو أرجعها إلى مكانها وفقدت كان المسئول عند الله عنها، أما إذا لم يمسها فلا شيء عليه منها. . .

وجعلت الأفكار تصطدم في رأسه وتتراكض وتصطرع وحتى شعر أن عظم صدغيه سيتكسر من قرع الأفكار المتراكضة في رأسه، وطفق يسمع صوتاً يهتف به ان: خذها فهي رزق ساقه الله إليك. ادفع بها الموت عن بناتك اللاتي اطاف بهن الموت. اشبع بها هذه الأكباد الغرثى. اكس هذه الأجساد العارية، ثم إذا أيسرت رددتها إلى صاحبها، أو دفعتها إليه ناقصة دنانير لن يضره على غناه نقصها. ثم يسمع هاتف دينه يقول له: اصبر يا رجل ولا تخن أمانتك، ولا تعص ربك. وعقد العزم على الصبر، واستعان بالله، وذهب إلى داره يخبأ الهميان حتى يجئ صاحبه. . . أو يحكم الله فيه. .

ودخل الدار متلصصاً، فرأته امرأته فقالت:

ما جاء بك يا أبا غياث؟

قال: لا شيء. واحب أن يكتمها خبر الهميان، وما كان يكتمها من قبل أمراً.

قالت: بلى والله؛ إن معك شيئاً، فما هو؟

فخاف أن تراه فيستطار لبها. . . فقص عليها القصة، وكانت امرأة تقية دينة، ولكنها أضعف منه إرادة، وأوهن عزماً، فقالت:

افتحه، وخذ منه دنانير اشتر لنا بها شيئاً، فإننا مضطرون والمضطر يأكل الميتة. . .

قال: لا والله، ولئن مسسته أو خبرت خبره أحداً فأنت طالق.

وتركها مغيظة محنقة وخرج يبحث عن صاحبه، لعله يأخذ منه شيئاً حلالا يدفع به الضر عن عياله.

ومشى الحرم، وكان فيه شاب طبري طالب علم.

قال الشاب الطبري: (فرأيت خراسانيا ينادي، معاشر حاج من وجد هميانا فيه ألف دينار فرده على، أضعف الله له الثواب. فقام إليه شيخ من أهل مكة كبير من موالي جعفر بن محمد، فقال: يا خراساني، بلدنا فقير أهله، شديد حاله، أيامه معدودة، ومواسمه منتظرة، ولعله يقع في يد رجل مؤمن يرغب فيما تبذله له حلالا، فيأخذه ويرده عليك. قال الخراساني: يا أبا. وكم يريد؟ قال: العشر، مائة دينار. قال: يا أبا. لا نفعل ولكن نحيله على الله تعالى. وافترقا).

قال الطبري: (فوقع لي أن الشيخ هو الواجد للهميان فاتبعته، فكان كما ظننت، فنزل إلى دار مسفلة زرية الباب والمدخل، فسمعته يقول: يا لبابة! قالت: لبيك أبا غياث. قال: وجدت صاحب الهميان ينادي عليه مطلقا. فقلت له: قيده بأن تجعل لواجده شيئاً، فقال: كم؟ قلت؛ عشره. قال لا نفعل، ولكنا نحيله على الله عز وجل، فأيش نعمل؟ لا بد لي من رده. فقالت له: نقاسي الفقر معك منذ خمسين سنة، ولك أربع بنات وأختان وأنا وأمي وأنت تاسع القوم).

يا أبا غياث إن الله اكرم من أن يعاقب رجلاً يحيي هذه الأنفس، انك لم تسرقه ولم تغصبه، ولكن الله هو الذي وضعه بين يديك، فلا ترفض نعمة أنعم الله بها عليك، إن الله يسألك عن هؤلاء النسوة. . .

وتصور الشيخ بناته جائعات عاريات، والعجوز المسكينة أم لبابة وقد جف جلدها على عظمها فصارت كأنها الحبطة الجوفاء تتردد فيها الأنفاس، ففاضت نفسه رقة عليهن فسال دمعه على شيبته، ورأت المرأة ذلك فازداد طمعها فيه. . . ثم رأته يعبس وتبدو عليه الصرامة. . . لقد ود لو استعان بشيء من هذه الدنانير. . . ولكنه ذكر إنه صبر خمسين سنة فما كان ليضيع ذلك كله في لذة اليوم، وذكر إنه على شفير القبر وأنه سيلقى الله فما كان ليلقاه خائناً أمانته، أما عياله فلهم الله، والله أرأف بهم وأشفق عليهم، وشد من عزمه، وصاح بها:

(لست أفعل، ولا أحرق حشاشتي بعد ست وثمانين سنة).

قال الطبري: (ثم سكت وسكتت المرأة. وانصرفت أنا).

وأذن المغرب، وقعد الشيخ ونساؤه على كسيرات وتمرات التقطها لهم. . . وقعد الناس من حولهم على الموائد الحافلات بشهي الطعام، تفوح من بيوتهم روائح الشواء والحلواء يأكلونها ويستمتعون بها، وينسون أن رمضان شهر الإنسانية والإيثار، وان الله ما فرض علينا الصيام للجوع والعطش والعذاب. . . ولكن ليذكرنا هذا الجوع الاختياري الموقوت أن في الدنيا من يجوع جوعاً إجبارياً لا حد له ينتهي عنده، وليكون لنا من أعصابنا وجوارحنا مذكر بالإحسان. فمن يقعد إلى مائدته الحافلة بالطعام، وجاره يتلوى من الجوع، لا يفكر فيه ولا يشاركه طعامه فما صام ولا عرف الصيام، وان جاع نهاره كله وعطش. . .

إن العادة تضعف الحس، وان ألف النعم يذهب لذتها، فأوجب الله الصيام علينا لنذوق مرارة الفقر فنعرف حلاوة الوجدان، ولنشتهي في النهار اللقمة من الخبز الطري، والجرعة من الماء البارد، فنعلم أن هذه اللقمة الطرية وهذه الجرعة الباردة نعمة من النعم فلا ندع الإحسان مهما كان قليلاً، ولا نزهد في صدقة نقدر عليها. ولقد كان لإبراهيم الحربي رغيف كل يوم ليس له سواه، فكان يترك منه كل يوم لقمة حتى إذا كان يوم الجمعة أكل هذه اللقم وتصدق بالرغيف. . .

كان الشيخ يفكر في هذا، فيألم لما صارت إليه حال المسلمين، ثم يذكر أن الله هو ملهم الخير، ومصرف الأرزاق، فيحمده حمد رجل مؤمن راض. . . وأمضى ليلته الرابعة بلا طعام، لأنه ترك التمرات والكسيرات للعجوز والبنات يتبلغن بها. . .

قال الطبري: (فلما كان من الغد سمعت الخرساني يقول: معاشر الحاج ووفد الله من حاضر وباد، من وجد همياناً فيه ألف دينار ورده أضعف الله له الثواب. فقام الشيخ إليه، فقال: يا خرساني قد قلت لك بالأمس ونصحتك، وبلدنا والله فقير قليل الزرع والضرع، وقد قلت لك أن تدفع إلى واجده مائة دينار فلعله يقع في يد رجل مؤمن يخاف الله عز وجل، فامتنعت فاجعل له عشرة دنانير منها فيرده عليك ويكون له في العشرة ستر وصيانة.

فقال له الخراساني: يابا. لا نفعل ولكن نحيله على الله عز وجل. ثم افترقا.

فلما كان اليوم الذي بعده سمعت الخراساني ينادي ذلك النداء بعينه، فقام إليه الشيخ. فقال، يا خراساني: قلت لك أول أمس العشر منه، وقلت لك أمس عشر العشر عشرة دنانير فلم تقبل، فأعطه ديناراً واحداً عشر عشر العشر، يشتري بنصف دينار قربة يسقي عليها المقيمين بمكة بالأجرة وبالنصف الآخر شاة يتخذها لعياله.

قال: يابا. لا نفعل ولكن نحيله على الله عز وجل.

فرأى الشيخ أن لا حيلة له فيه، وانقطع آخر خيط من حبال آماله، وتوهم حالة بناته وأختيه وزوجته وأمها. . . وان هذا الخراساني منعهم ديناراً واحداً من ألف يدفعون به الجوع والعرى والموت الكامن وراءهما، ورأى الألف كلها بيده فحدثته نفسه بأن يمسكها، أو يدفعها إليه ناقصة ديناراً، ولكنه ذكر الله والحساب فاستعاذ بالله من هذا الخاطر، وهل يشتري الشقاء الدائم باللذة العاجلة، وهو يعلم إن لذات الدنيا كلها لا تنسي كربة واحدة من كرب يوم الحشر، وشقاءها كله تذهبه نفحة واحدة من نفحات الجنة؟ لا والله، ولقد روي في الحديث أن (من ترك شيئاً لله عوضه الله خيرا منه)، فترك له الهميان، وقال للخراساني:

تعال خذ هيمانك. . .

فقال له: امش بين يدي. . .

قال الطبري: (فمشيا وتبعهما، حتى بلعا الدار. فدخل الشيخ فما لبث أن خرج، وقال: ادخل يا خراساني، فدخل ودخلت، فنبش الشيخ تحت درجة له فاخرج الهميان اسود من خرق غلاظ، وقال: هذا هميانك؟ فنظر إليه، وقال: هذا همياني.

ثم حل رأسه من شد وثيق ثم صب المال في حجره وقلبه مراراً، ثم قال: هذه دنانيرنا).

وكانت لبابة والبنات ينظرن من شق الباب إلى الذهب الذي نسين لونه وشكله، وحسبنه قد فقد من الأرض، كما ينظر الجائع إلى قدور المطعم. . . يتمنى لقمة منها يشد بها صلبه. . .

(وأعاد الرجل الذهب إلى الهميان وشده، ووضعه على كتفه وقلب خلقاته فوقه وخرج). ولم ينظر في وجه الشيخ، ولم يلق في إذنه كلمة شكر. . . وأحست لبابة كأنه قد اختطف وحيدها، وكأن شعبة انخلعت من قبلها، فطارت وراءه، وشده البنات، ولبثن مفتوحات الأشداق دهشة وذهولا. . . فلما ابتعد وأيسن منه سقطن على وجوههن من الجوع والضعف واليأس. . .

وسمع الشيخ حركة، فنظر فإذا الخراساني قد رجع. . . فرفع إليه رأسه ينظر ماذا يريد، وكان أولى به أن يعرض عنه، وان يبغضه، وقد منعه ديناراً واحداً يحيي لو جاد به عليه هذه الأنفس المشرفة على الموت، ولكن الشيخ كان رجلا سمحا لا يتسع قلبه البغضاء، فقام إليه وسأله عما رجع به، فقال الخراساني:

(يا شيخ، مات أبي وترك ثلاثة آلاف دينار، فقال، اخرج ثلثها ففرقه في أحق الناس عندك له، وبع رحلي واجعله نفقة لحجك، ففعلت ذلك، وأخرجت ثلثها ألف دينار، وشددته في هذا الهميان، وما رأيت منذ خرجت من خراسان إلى الآن جلا أحق به منك، فخذه بارك الله لك فيه.

ووضعه وولى).

قال الطبري: (وكنت قد ذهبت فما راعني إلا الشيخ يسرع خلفي يدعوني، فرجعت إليه فقال لي: لقد رأيتك تتبعنا من أول يوم، وعلمت انك عرفت خبرنا، وقد سمعت أحمد بن يونس اليربوعي يقول: سمعت مالكا يقول: سمعت نافعاً يقول: عن عبد الله بن عمر أن النبي قال لعمر ولعلي رضي الله عنهما: إذا أتاكم الله بهدية بلا مسألة ولا استشراف نفس فاقبلاها، ولا ترداها فترداها على الله؛ فهي هدية من الله والهدية لمن حضر. فسر معي.

فسرت معه. فقال لي: إنك لمبارك، وما رأيت هذا المال قط، ولا أملته قط، أترى هذا القميص؟ إني والله لأقوم سحرا فأصلى الغداة فيه، ثم انزعه فتصلى فيه زوجتي وأمها وبناتي وأختاي واحدة بعد واحدة، ثم البسه وأمضى اكتسب إلى ما بين الظهر والعصر، ثم أعود بما فتح الله به علي من اقط وتمر وكسيرات كعك فنتداول الصلاة فيه. . .

حتى إذا وصلنا إلى الدار نادى: يا لبابة يا كيتنه يا فلانة وفلانة، حتى جئن جميعاً فأقعدهن عن يمينه، وأقعدني عن شماله؛ وحل الهميان وقال: ابسطوا حجوركم، فبسطت حجري، وما كان لواحدة منهن قميص له حجر تبسطه فمددن أيديهن، وأقبل يعد ديناراً ديناراً، حتى إذا بلغ العاشر قال، وهذا لك، حتى فرغ الهميان فنال كل واحدة منهن مائة دينار، ونالني مائة)

ولما أذن المغرب، وحف نساء الشيخ بمائدة كموائد الناس، عليها الطيبات من الطعام، قال لامرأته: أرأيت يا لبابة؟ يا لبابة إن الله لا يضيع أجر الصابرين، إن الله هو أرحم الراحمين يا لبابة، لقد منعنا أنفسنا ديناراً حراماً، فجاءنا الله بألف حلال. وأكل الشيخ لقيمات، ثم قام ليخرج، فقالت له امرأته:

إلى أين يا أبا غياث؟

قال: افتش، فلعل في الناس فقيراً صائماً، ولا يجد ما يفطر عليه، فنشركه في طعامنا. .

ذيل القصة:

قال الشيخ الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري:

(وقد نفعني الله بهذه الدنانير فتقوت بها، وكتبت العلم سنين، وعدت إلى مكة بعد ست عشرة سنة فوجدت البنات ملكات تحت ملوك، وعلمت أن الشيخ توفي بعد ما فارقته بشهور، فكنت انزل على أزواجهن وأولادهن فاروي لهن القصة، ويكرموني غاية الإكرام.

وسألت عنهم بعد ذلك بأربعين سنة فعلمت إنه لم يبق منهم أحد، رحمة الله عليهم جميعاً).

علي الطنطاوي