مجلة الرسالة/العدد 682/لغات الكتابة. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 682/لغات الكتابة. . .

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 07 - 1946



عظمتها في رصانتها ووقعها الموسيقي

للأستاذ نصيف سركيس

ترهف الآذان لكل صوت شجي، وتنجذب العواطف شطر النغم الموسيقي، وتخضع القلوب مأسور ولألحان الجرس التوقيعي.

وهكذا الطبيعة في جمالها ورونقها، في صخبها وسكوتها. في عبوسها وضحكها، في إشراقها وحلكتها، في تغيراتها البديعة المفاجئة إنما تبعث في النفس الحب والهيام وتشع في الروح الفتوة والكمال.

الطبيعة برعدها القاصف ما هي إلا خطر يهلع له قلوب البعض وتقشعر له أبدان الآخرين.

والطبيعة في تغاريد طيورها وحفيف أشجارها ما هي إلا وحي عطوف يستمد الشاعر منها إلهامه، ويعب الكاتب منها لخيلائه ويراعه.

فإذا كان الكاتب ملهما، وله من الحواس النشطة ما يحمل إلى خبايا اللب من الداخل صورة لطيفة وطابع جميل فهو يعيش في نعماء هذه الحياة يعبر إذا ما كتب عما يخالج نفسه، ويجول في فؤاده من تلك المناظر الطبيعية الخلابة، وأما إذا كان لا يعبأ بما يحوط به من أجواء ولا يحاول أن يستلهم من الطبيعة مادة لقلمه فهو جاف الشعور فاتر الإحساس مبتور القول والخيال.

فالطبيعة تنشد الموسيقى، وأنغامها تهتز لها الأجواء وتترنح لها دوحات الأشجار وترقص لها الطيور. والإنسان بفطرته تستهويه هذه الأنغام، وتملك عليه ناصية رشده، وزمام عواطفه فإذا قرأ رسالة منسقة، منسجمة في مقاطعها ونبراتها، تاه في خيلائها، وأخذ ينشط في تلاوتها وحذقها. وقد لا يهدأ روعه وتخمد ثورة جشعه في بعض الأحايين إلا إذا أعاد قراءة هذا المقال مرة ومرتين. فإذا ما بلغ قصده من قراءاته إلا متكررة يكون عقله الباطن قد اصطفى ما راق لذوقه وعذب لنفسه. فلا يشعر بعد ذلك وهو في خلوته وكتاباته إلا مكررا لبعض ما استساغه، وقويت ذاكرته على استخلاصه.

كل ذلك وهو في نشوة من الفرح والارتياح، وكل ذلك وهو على يقين بأن قبس ذلك النور الذي أشرق على خيلائه وذاكرته إنما هو راجع إلى ذلك الأسلوب الموسيقي العذ فللاتساق والجرس وقع في النفس عظيم، وللجرس في توقيعه وأنغامه ما يجذب لب القارئ ويستهويه. وإذا الاولى، والتي نعمل أساسها في إيثار كاتب على أخر.

هذا ويدلنا علم النفس على أننا نذكر دائما كل حسن وجميل وأنه يعلق بذاكرتنا كل نغم لطيف بخلاف الأقوال المبتذلة التي تلوكها الألسنة بين حين وحين، فانه كثيرا ما يعاف القارئ تلاوتها وتأنف النفس توفير أسباب النشاط لاستيعابها وصونها. فإن غلب على القارئ الامر، وأجبر على النظر إلى مقال من هذا الطراز إنما يخرج منه وقد ألفى نفسه يرغي ويزيد لما لحقه من النكد وسوء الطالع لتصديع النفس بقراءة كلمات مرصوصة نابية، لا تنم حسن ذوق أو فصاحة بيان

هذا ولا يحتاج الكاتب إلى استهداء العبارات السلسة ذات الجرس الموسيقي واستندائها فهي تأتي مع السليقة والمران، تأتي مع القراءة لفحول الكتاب ونوابغ الشعراء، وهي بهذا تأتي محمولة على الطبع غير متكلفة.

وهذا ولا شك يعد أعلى درجات الكلام. فإذا تهيأ للكاتب أن يأتي به في كتابته كلها على هذه الشريطة فانه يكون قد ملك رقاب الكلم يستعبد كرائمها ويستولد عقائمها.

والألفاظ تجري من السمع مجرى الأشخاص من البصر. فالألفاظ الجزلة تتخيل في السمع كأشخاص عليها مهابة ووقار، والألفاظ الرقيقة تتخيل الأشخاص ذوي دماثة ولين أخلاق ولطافة، وما مثال الكاتب الذي لا يشعر بوقع أنغام العبارات الشجية في أعماق قلبه وبجرسها الموسيقي في صميم فؤاده إلا كمن يسوي بين صورة زنجية سوداء مظلمة السواد شوهاء الخلق ذات عين محمرة وشفة غليظة كأنها كلوة، وبين صورة فتاة هيفاء فاتنة الجمال ذات وجه مشرب بالحمرة، وخد أسيل وطرف كحيل، وثغر فاتن، وقد مياس.

فإذا كان بإنسان من سقم النظر أن يسوي بين هذه الصورة وهذه. فلا يبعد أن يكون به من سقم الفكر أن يسوي بين الألفاظ الممجوجة العادية والألفاظ المنتقاة الموسيقية، ولا فرق بين النظر والسمع في هذا المقام. فإن هذا حاسة وهذا حاسة، وقياس حاسة على حاسة مناسب.

يقول (أبركروسي) ولابد للأديب أن يعرف كيف يجمع في فنه كل ما احتوته الألفاظ من قوة التعبير والتصوير، وكل ما من شأنه أن يساعد على التوصل بحيث يستثير الخيال، ويصرفه كيفما شاء. ويجب أن تكون الألفاظ قوية التعبير لكي تستطيع الإبانة عن تجارب المؤلف المراد توصيلها وتفهيمها، كذلك يجب أن تكون الألفاظ صالحة لان تحكي تلك التجارب وتصورها بصور واضحة.

أما التشبث بأهداب اللف والدوران، والقول بأن السهل الممتنع هو أسمى أنواع الكتابة؛ ولكن هل كل مبتذل. . . . سهل ممتنع وهل كل أسلوب دارج أقرب إلى لغة التخاطب منه إلى لغة الكتابة هو بيت القصيد؟

نعم إن الجمال سهل معجب، ولكنه سهل على من؟! وبعد ماذا؟! على الذين يقدرونه ويحبونه، وبعد الخبرة والممارسة والتذوق والتهذيب، فليس معنى السهولة في جمال الفنون أنه رخيص مباح لكل من يرمقه بجانب عينه، ولا أنه غني عن التأمل والتفكير. ولكن معناه أنه سهل لمن يستعد له استعداده ويبذل فيه ثمنه. وكذلك الثمرة الشهية سهلة سائغة لمن يشتريها ويغرسها، ولكن ليس معنى ذلك أنها تمطر من السماء وتطرح على التراب أو تنمو كما ينمو نبات السحر.

ولو كان الغرض من اشتراط السهولة في الجمال أن يكون سهلا على كل من يطلبه وبلا تفاوت في الدرجات والمواهب لما كان في الكتابات رسالة واحدة جميلة، أو حقيقة بأن توصف بالجمال، فإن كتابات شكسبير سهلة على بعض القراء، ولكنه من الألغاز والمعميات على أناس آخرين، وان هؤلاء الآخرين قد يطيب لهم أساليب بيرون، ولكنه إذ أقرئ على من دونهم من الفطنة والشعور عابوه واستثقلوه أو كابدوا في فهمه الصعوبة التي تنفي صفة الجمال، وهكذا إلى أن تهبط إلى طبقة تستصعب شعر هؤلاء جميعا، ولا تجد السهولة الجميلة إلا في الأزجال الغثة والأناشيد الوضعية، وما في منزلتها من الأساليب المبتذلة الركيكة. فإذا جعلنا السهولة ميزانا لنا في الفنون، واتخذنا الشيوع عنوانا على السهول، فقد نتمادى في ذلك حتى يصبح لثغر الأطفال في عرفنا نماذج البلاغة العليا، ثم تنحدر البلاغة سفلا حتى تنتهي إلى فحول الشعراء وأئمة الكتاب والفصحاء.

فلا صحة إذا فيمن يقول بأننا نعمل على تقديس القديم واستساغة ألفاظ العهد الغابر ذات الجرس الموسيقي، والذي لا يتمشى مع روح العصر ومستلزماته، فما هذا إلا محض افتراء وقدح معيب توصم به لغة البلاد الراقية النفسية. فالكتابات المبتذلة العادية والتي اجمل عليها حملتي الشعراء لا يمكن أن تجد دفاعا عنها في هذا المضمار بعد أن بينت تفاوت الأذهان والعقليات في الحكم على ما يدعى من الكتابات بأنها سهلة فصيحة أو سهلة ممتنعة

وهكذا فالكلام يحسن بعذوبته وجزالته ورصانته مع سلاسته ونصاعته. وإذا اشتمل على الرونق والطلاوة، وسلم من حيث التآلف، وبعد عن سماجة التركيب، وورد على الفهم الثاقب فقبله ولم يرده، وعلى السمع المعيب فاستوعبه ولم يمجه. والنفس تقبل اللطيف وتنبو عن الغليظ وتقلق من الجاسي البشع. وجميع جوارح البدن وحواسه تسكن إلى ما يوافقه وينفر عما يضاده ويخالفه، والفهم يأنس من الكلام رقيقة وعذبة، وينقبض عن الوخم ويتأخر عن الجافي الغليظ ولا يقبل الكلام المبتذل

وليس هذا هو الشأن في إيراد المعاني. ولكن المعاني يعرفها الجاهل والعالم والكاتب الحصيف ذا الخيال الرائع والكاتب الناحل من كل ذوق وبراعة. وإنما الشأن هو في جودة اللفظ وصفائه وحسنه وبهائه وكثرة طلاوته ومائه مع صحة السبك والتركيب وليس يطلب من المعنى إلا أن يكون صوابا ولا يقنع من اللفظ بذلك.

ومن الدليل على أن مدار البلاغة تحسين اللفظ أن الخطب الرائعة والكتابات الراقية ما عملت لإفهام المعاني فقط وإنما يدل حسن الكلام وإحكام صنعته ورونق ألفاظه وغريب مبانيه على فضل كاتبه وفهم منشئيه.

وقد قال عبد الكريم الموصلي في كتابه (المثل السائر):

(إن خواطر الناس وان كانت متفاوتة في الجودة والرداءة فإن بعضها لا يكون عاليا على بعض أو منحطا عنه إلا بشيء يسير وكثيرا ما تتساوى القرائح والأفكار في الإتيان بالعاني حتى إن بعض الناس قد يأتي بمعنى موضوع بلفظ ثم يأتي الأخر بعده بذلك المعنى واللفظ بعينها من غير علم منه بما جاء به الأول).

لاشك أن حسن التأليف يزيد المعنى وضوحا وشرحا فإذا كان المعنى سلبيا ورصف الكلام رديا لم يوجد له قبول ولم تظهر عليه طلاوة. وإذا كان المعنى وسطا ورصف الكلام جيدا كان أحسن وقعا وأطيب مستمعا. فهو بنزلة العقد إذا جعل كل خرزة منه إلى ما يليق بها كان رائعا في المرأى وأن يكن مرتفعا جليلا وان اختل نظمه فضمت الحبة منه إلى ما لا يليق بها اقتحمته العين وان كان فائقا ثمينا. وحسن الرصف أن توضع الألفاظ في مواضعها ويحلى جيدها برنين الجرس الموسيقي وما يحمله ذلك وقع جميل إلى حبات القلوب.

لا بأس بعد هذا من أن أكرر القول بأن لكل مقام مقالا وليست وظيفة الكلمات في الأدب كوظيفتها في العلوم. هي في الثانية وسيلة لتفهم الأسرار العلمية فهي شيء كمالي بالنسبة للفكرة ولكنها في الأولى جزء لا يتجزأ من النص الأدبي. فالأدب يستعمل اللغة استعمالا كاملا ويستغل كل قيمتها من جمال وتأثير ومعنى، ولا يستطيع أن يسقط الألفاظ من حسابه كما يفعل العلم أحيانا، واللفظ في الأدب لا يكون مجرد تصوير للفكرة وتأدية للمعنى، فأن الرنين الذي يصحب العبارة أو الفقرة يساعد على الابتداع ويخلق في ذهن المستمع جوا لا تقل قيمته الفنية عن إفادة المعنى.

فإذا أحطنا علما بمزايا تلك اللغة الرصينة، وأيقنا أن زمامها مسلم لنا، فنعدوا بها ونكبحها كيفما شئنا وكلما دعت الحال إلى ذلك. وإذا سلمنا بوقعها في النفس وإيثار العاطفة الإنسانية لها دون غيرها فلا يكون بدعا بعد ذلك إذا ما وقفنا بها قدما وجعلنا منها نورا للهدى وينبوعا للكمال فهي التي لا يفتر لها لا أشعار ولا ينضب لها معين.

نصيف سركيس