مجلة الرسالة/العدد 681/الحسرة الأولي. . .

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 681/الحسرة الأولي. . .

مجلة الرسالة - العدد 681
الحسرة الأولي. . .
ملاحظات: بتاريخ: 22 - 07 - 1946



لشاعر الحب لامرتين

(قال لامرتين: (في أحد أيام 1830، بينما كنت داخلا كنيسة

في باريز، إذ بصرت هناك بتابوت فتاة انطفأ سراج حياتها

ولما تزل صبية، قد حمل على الأيدي وأسدلت عليه ملاءة

بيضاء، فذكرني هذا التابوت بموت وهاجت الذكرى شجني،

فطفقت أبكي وأنشج نشيجاً محزناً، ثم عدت إلى غرفتي

ونشرت بين يدي مذكراتي عن تلك الحادثة، ونفست هذه

المقطوعة - التي ستقرؤها الآن - وكتبتها في دفتري، والقلب

واجف، والدمع واكف، وسميتها الحسرة الأولى وها هي

ذي):

هناك على سيف المحيط المصطفق،

حيث يقذف بحر (سورانت) بأمواجه الزرقاء،

فتتكسر تحت قدمي شجرة البرتقال،

وثم صخرة صغيرة، ضيقة الحجم، متساوية الطول والعرض كانت قريبة من الطريق اللاحب، تحت الصباح العتق بشذى الأزهار فكانت للغريب الهائم منتدىً ومزازا.

وأزهار الخيري الباسمة قد سترت تحت أغصانها اسماً منقوشا على هذه الصخرة، نعم! قد سترت اسماً لم يردده الصدى قط فلم يك معروفا عند أحد! ولكن المسافر الذي أنهكه السير، يجلس هناك أحيانا ليستريح، ثم يزيح الحشائش عن الصخرة، فيقرؤ عمرها وتاريخ وفاتها، ويقول وعيناه تشرقان بالدمع أسفاً وحزنا: لقد عاشت ست عشرة عاما! ولعمري إنها سن مبكرة إلى الموت،)

ولكن! ليت شعري! لم أحمل نفسي على استذكار تلك الذكريات الغابرة؟

فلندع الهواء يحف، والنسيم يرف، والموج يصطخب، وتعالي هنا أيتها الخواطر المضطربة، والعواطف الملتهبة!

عودي إلي قليلا، لعلى أرغب في التأمل والعزاء، ولا أجهش في الحزن والبكاء!

إن القارئ ليقول: (لم تعش وا أسفاه إلا ستة عشر عاماً)!

- أجل! لقد عاشت كذلك! ولكن هذا العمر القليل، لم يسطع قط فوق جبين أزهى من جبينها، ولم تتأمل قط عين - حبيبة إلى كعينها - إذ تنظر إلى سناء الشاطئ الملتهب، وجلال الخضم المضطرب!

لقد أبصرتها أنا كذلك، حتى أن وجداني قد طبع شخصها الحي في نفسي، تلك النفس التي تحتفظ بكل شئ، فلا تموت صورة فيها ولا تمحى

نعم لم تزل حية في نفسي! فكأن عينيها الساجيتين ترمقان عيني بنظراتهما، وكأننا كنا سوية نلقى بأحاديثنا الأولى في اليم، وشعرها المغمودن الفاحم يستسلم إلى أنفاس النسيم ويسترسل معها، فتداعبه تارة، وتستخف به أخرى،

ثم يلقى هذا الحاجب الهائم ظله الكثيف، على وجهها اللطيف. وإذ كانت ترهف أذنيها، لتسمع أنشودة الصياد الذي يتخبط في ظلام الليل،

ولتنصت إلى أنفاس النسيم العبقة، حيث تنثر نضارتها وزهوها،

ولقد أرتني القمر المبتهج وهو يصعد في السماء، كأنه زهرة جميلة في الليل، ترقب فجرها الجميل، وإلى الزبد الفضي المتلألئ، كنا ننظر سوية، فتلفت إلي، وبحنان تقول:

(أخبرني، لماذا أرى كل شيء يضيء في هذا الفضاء، فيتشعشع في نفسي يمثل هذا السناء؟

إن هذه الحقول اللازوردية، وقد ملئت بالنيران المتوهجة، وان هذه الرمال الذهبية، وقد تكسرت فوقها أواذي المحيط، وان هذه الجبال الشماء إذ تضارع بعليائها إذن الجوزاء، وهذه الخلجان المكللة بتلك الغابات الصماء، وهذه الأضواء التي تنبعث من ضفة الدماء، وتلك الأنغام التي تقذف بها الأمواج، إن كل ذلك لا يثير نفسي، ولا يهيج حسى، بلذة مبهمة، أو سرور لا عهد لي بمثله!

ليت شعري! كيف لا أحلم بمثل هذا اليوم، وكيف لا أبتهج بهذه المناظر؟ هل صعد إلى قلبي ذلك الكوكب الدري، فأنار ظلامه، وبدد أوهامه؟

وأنت أيها القمر اللاءلاء، سل الليالي الحلوة الظلماء، وقل لها: هل تضارع ليالي بلادك - إن غبت عنك - هذه الليالي في البهاء؟)

- وإذ ترمق بنظرتها الوديعة أمها الرؤوم، حيث كانت على كثب منا. ثم تتطرح على نفسها من السقم، وتلقى بجبينها فوق ركبتي أمها، فيعقد الكرى الهنيء، أهداب عيونها الوطف.

ولكن، ليت شعري؟ كيف أحمل نفسي على استذكار هذى الذكريات الغابرة؟

فلندع الهواء يحف، والنسيم يرف، والموج يصطخب،

وتعال هنا، أيتها الخواطر المضطربة، والأفكار الملتهبة!

عودي إلى قليلا، لعلي أرغب في التأمل والعزاء، ولا أجهش في الحزن والبكاء!

لله ما أصفى أديم عينها الساجية! وما أحلى حمرة شفتها المغترة! ولشد ما ترد عينها نظري خاسئا وهو حسير!

إن بحيرة (نيمي لجميلة المنظر، لا تستخف بأديمها نسمة، ولا تعبث بسطها تأمة، ولكنها رائقة السطح، لازوردية الماء، تشبه بزرقتها أديم السماء!

كنت تستطيع أن ترى أفكارها الساهمة، من خلال نفسها الحالمة، قبل أن تتعرف إلى شخصها،

فجفناها الفاتران، لم يغمضا قط على عينيها الوديعتين، فيحجبا عنا نظراتها البريئة، وجبينها المشرق، ولم تغضنه تباريح الهموم، ولم تضغطه آلام أو شجون، فالكل يطفر مرحاً في نفسها وحسها:

أما هذه الابتسامة العذبة الفتية، فلقد ماتت على فمها البارد. وكانت من قبل تغمر شفتيها المفترتين،

كأنها قوس قزح، صافي اللون، مبشر بيوم صحو جميل!

إن من القسامة البارعة، والجهارة الرائعة، أن يكون هذا الوجه الفاتن مرئيا من كل عين، لا يحجبه ظل، ولا تخفيه ظلمة.

فلقد كان هذا القاع اللطيف ساطعا، لا تمر بسمائه سحابة. مضيئا في كل نفس، حبيبا إلى كل قلب!

وخطاها الحائرة المترددة، كانت تسترسل هائمة أو تعدو راكضة، كأنها موج مستبد، هدهده النهار واستخف به،

وصوتها الرنان العذب، كان صدىً صافياً وترجيعاً نقياً لنفسها الوليدة، وطالما كان موسيقى حلوة لتلك النفس التي يغنى فيها كل شئ

فيشرح الصدر، ويهيج النفس، حتى يصعد إلى طبقات الأثير حيث يذوب ويتلاشى.

ولكن ليت شعري! لم أحمل نفسي على استذكار هذى الذكريات الغابرة؟ فلندع الهواء يحف، والنسيم يرف، والموج يصطخب،

وتعالي هنا أيتها الخواطر المضطربة، والعواطف الملتهبة!

عودي إلى قليلا. لعلي أرغب في التأمل والعزاء، ولا أجهش في الحزن والبكاء!

كما ينطبع نور الصباح على العين، كذلك انطبعت صورتي في قلبها؛

ولكناه لم ترن بعينها أبداً ذاك اليوم.

وفي الساعة التي أحبت فيها، رأت العالم كله فيضا من الحب والحساسة! ولقد امتزجت معها في حياتها الخاصة، وتطلعت من نفسها إلى ذلك الذي استفله الطرب، فأخذ يمر أمام عينيها،

وإلى تلك السعادة الزائلة، والأمل المقيم في السماوات العلى!

لم تفكر قط في مرور الزمن، أو ضياع الوقت،

فساعة واحدة كانت تشتف وجودها، وتضيق بها ذرعا،

وحياتها قبل أن يجمعني الدهر بها، لا تحتاج إلى ذكرى.

إن مساء أحد تلك الأيام الجميلة كل حظي من الدنيا ونصيبي من الحياة!

لشد ما كانت تركن إلى الطبيعة الضاحكة، إذ تبسم الينا، وتفتر عن ثغرها الضحوك أمام ناظرنا،

ولشد ما كانت تسكن إلى الصلاة الهادئة، والدعاء البريء، وما أكثر ما كانت تأخذ طريقها إلى المذبح المقدس، حيث تنثر فوقه الأزهار الفواحة بالارج، وقلبها يطير فرحا، عكس ما يكون باكيا متقبضا؛ إذ تجتذبني لألحق بها إلى هيكلها، فأقفو أثرها، كأنني غلام وضيع، أو طفل مطيع، وصوتها الخافت يناديني ويقول:

(لنصل معا يا أخي، فإنني لا أفهم للصلاة معنى بدونك! ولا أستطيع أن أخبت لك إذا لم تكن حاضرا بقربي!)

ولكن ليت شعري؟ لم أحمل نفسي على استذكار تلك الذكريات الغابرة. فلندع الهواء يحف. . . الخ!

هلا نظرتم يا صحابتي إلى الماء النمير، يتدفق في حوضه. كأنه ينبوع لا يفور؟ هلا أبصرتموه وقد عقد نطاقاً مستديراً، كما تفعل البحيرة بشاطئها الضيق الصغير؟ هلا نظرتم إلى زرقته الصافية، وهو ذمة الهواء الساري وفي كنف الشعاع الملتهب، الذي جفف ماءه، وأضوى معينه؟ وإذ ذاك يقذف الإوز بنفسه في جوفه، ليعوم فوق أديمه الرجراج، وهو يغمس عنقه بين ثناياه المتموجة؛ فيزين تلك المرآة السائلة، دون أ، يكدرها، أو يمسها بسوء ويهدهد نفسه وسط الماء، الذي يعكس النجوم المتألقة في كبد السماء.

ثم يضرب الماء المصطفق بجناحيه المبللتين، ليأخذ سمته، مسفا نحو نبع آخر، فيمحو بطيرانه صفحة السماء المنعكسة، في جوف الماء الصقيل؛ وتسقط منه ريشة، تكدر صفاءه، وتنزع عنه رواءه، كأن نسرا كاسرا، وهو عدو جنسه الألد، قد بعثر رفاته الممزقة، ورمى بها إلى كل موجة، فذهبت بها أباديد،

وإذا باللازورد الساطع، للبحيرة المرحة، يغدو موجة قاتمة، تصعد فوقها الرمال الميثاء! وأنا شبيه بذلك الطائر يا صحابتي!

ولقد ذوى كل ما في نفسها، عندما بعدت عنها وشط بي النوى، فخبا ذلك الشعاع المضيء في نفسها، وصعدت جذوتها الهامدة الأخيرة سريعة نحو السماء، كيما تعود أبدا بعد ذلك!

لم يكن في أملها ولا في مرجوها أن تنتظر ثانية أملا يعدها، ولم تكن لتذوى أملها بالريب، أو لتطغى على ألمها بالحياة

لقد تجرعت كأس الألم دهاقا فغرق قلبها بأول دمعة حرى سقطت من عينها!

ما أشبهها بذلك العصفور الصغير! إنهما ليتفقان في الدعة والهناء، وان قل عنها ذاك في الحسن والبهاء!

أتراه عند المساء وقد غشى جناحه عنقه لينام نوما هادئا لذيذا؟ وكذلك هي: فقد رقدت مثله، يغشاها يأس قاتل، وضنى مبرح، إلا أن رقادها كان مبكرا. فلم يكن لليلها صباح، ولا لنومها يقظة!

ولكن ليت شعري؟ لم أحمل نفسي. . . الخ. . .

خمسة عشر عاما قضتها تحت التراب، وما رثى مصيرها أحد، ولا بكت ملجأها عين،

فسرعان ما غسى النسيان - وهو ثاني كفن للموتى - تلك الطريق التي تؤدى بنا إلى شاطئ الحياة؛

لم يزر أحد وا أسفاه هذه الصخرة التي طمسها الدهر ودرسها، لم يفتكر بها أحد، ولم يندبها باك! إلا مخيلتي فقد قضت لبانتها من حق الذكرى وحق الدعاء!

إذا ما قضيت موجة أيامي الأخيرة، فأحسست بدنو أجلي،

رأيتني أستذكر قلبي جميع من فقدهم فنسيهم، ثم أرسل عيني نحو تلك الأطلال الخاشعة والآثار الدارسة، فأذرف الدمع،

وأسكب العبرات، حزناً على تلك النجوم النيرة، التي خبا ضوءها المشتعل، وانطفأ سراج حياتها من سمائي المتعذرة!

ولقد كانت هي أول الشهب الآفلة، من نهار بهي جميل؛

فضوءها اللألاء لا يزال ينير ظلام قلبي، ويضرم ما بقى حذوة حبي!

ولكن ليت شعري؟ لم أحمل نفسي. . . . . . الخ. . . . . .

كل حظها من الحياة شجيرة شائكة ذات خضرة باهتة فحطمتها رياح البحر الشديدة، وهشمتها أشعة الشمس المحرقة. ورغم هذا بقيت ضاربة بجذورها تحت تلك الصخرة، دون أن تخلع عليها ظلها، كأنها حسرة مضنية، تأصلت جذورها في القلب. وغبار الثرى كسا أوراقها طبقة بيضاء، فاستقلت على الارض، وانعطفت أفنانها، فجذمتها أسنان الماعز الحادة.

ثم تتفتح زهرة ناصعة في فصل الربيع، كأنها رضاب الثلج، فتفجر هذه الشجير يوما أو بعض يومين، ولا تلبث الريح بعد ذاك أن تطوقها، وتنثر ورقها، قبل أن ينتشر عرفها الشذي؛ وعصفور صغير، شجي اللحن، حزين النفس، يقع على غصن الشجيرة المنعطف فيغرد تغريدا شجيا، هو إلى الحزن والبكاء، أقرب منه إلى الترجيع والغناء!

إيه أيتها الزهرة، التي طالما أذوتها الحياة،

رددي القول معي: (ألا توجد هناك أرض، نعود فيها إلى الحياة ثانية، فتزدهر فيها أنفسنا ونعيش فيها عيش السعداء الناعمين؟

هيا اصعدي إذن! اصعدي أيتها الروح الذاوية، وتذكري مضى الساعات الخالية. ان ذكرياتك المحزنة لتساعدني أن أنفث زفرة الحزن الباقية!

أذهبي معها، أيتها النفس حيث تذهب وتمضي! ودعيني لوحدي أيتها الأفكار المضطربة.

لقد طفح قلبي بالذكرى

فدعيني أنوح وأبكى

(حماه: سوريا)

أديب لجمي