مجلة الرسالة/العدد 681/الأدب في سير أعلامه:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 681/الأدب في سير أعلامه:

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 07 - 1946



ملتن. . .

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. . .)

للأستاذ محمود الخفيف

الزواج والصدمة الأولى:

وفي فبراير سنة 1644 أعاد ملتن طبع الكتيب ورتبه. فقد عاب الناس طبعته الأولى، وقدم ملتن لطبعته الثانية بمقدمة فزعه فيها إلى البرلمان أن يؤيد آراءه فيصدر بها قانونا مدنيا للطلاق، وإلى مجمع البرسبتيرنز أن ينظر يما يقول نظرة العطف فيسدى إلى المسيحية صنيعا يبقى على الدهر. . . ولا يفوته إذ يلجأ إلى البرلمان أن يشير إلى رسالة انجلترة في هذا العالم، فلئن اعتنقت انجلترة ما يذهب إليه من رأى ذاع هذا الرأي حتى يملأ الدنيا، ويهيب بالنواب قائلا بعد أن يسرد الأمثلة على سبق انجلترة في العلم والدين (لا تدعوا انجلترة تنسى سوابقها في تعليم الأمم كيف تعيش)، ولا يفوته كذلك أن يلجأ إلى الاسبتيرنيز أن يمتدح ما اجتمع في مجلسهم من تقوى وعلم وحصافة.

كانت الفكرة الأساسية في كتيبه (قانون الطلاق ونظامه) هي أن الزواج والحب يجب أن يكون أساسهما التوافق والانسجام العقلي والروحي بين المرأة والرجل، فإذا لم يتحقق هذا التوافق في الشعور والفكر بطل الزواج، وكان الطلاق من حق الرجل متى طلبه.

وللدفاع عن هذه الفكرة الموجزة بسط ملتن القول فنظر في الزواج قديما وحديثا، وأستعرض أراء الأقدمين، وأراء آباء الكنيسة الأولين، وراجع ما جاء في الإنجيل ليأتي بما يؤيد رأيه، ثم عمد إلى المنطق بعد الدليل النقلي فدافع عن رأيه في قوة وإيمان، وأتى بطائفة من الآراء استقر بعضها في نفسه حتى ظهر كجانب من فلسفته في قصيدته الكبرى فيما بعد.

اشتدت ثورة ملتن على الجسد وفتنته وما في سيطرته من شر وضلال؛ ولكنه أكد أن قهره في استطاعة أولى العزم من العقلاء الذين يغلبون الحكمة على العاطفة، وما يسلم ملتن بغلبة الجسد أبداً وتسلطه على العقل والحكمة وهو الذي تسلط جسده مرة في فورة من فوراته على حكمته الوثيقة وعزمه الطويل، وإنما يعبر بهذا الإنكار عن ثورته الكامنة في نفسه على الجسد وقد بقى هذا المعنى في حسه حتى كان حديث غواية آدم في (الفردوس المفقود) وما كان لسحر المرأة من أثر في هذه الغواية.

وساق ملتن هذا المعنى إلى معنى آخر، وذلك أن الشر هو أن تتغلب العاطفة على العقل وأن يضل الوجدان البصيرة، أما العاطفة في ذاتها والوجدان في ذاته فلا ضير منهما، ولا يحق اعتراض سبيلهما إلا أن يطغيا على الحكمة؛ فإن لم يفعلا فليتخذا جمراهما طليقين. . .، وما كانت قصة هبوط آدم من الجنة إلا قصة تسلط العاطفة على العقل.

ويطبق ملتن ذلك على الزواج فيقول إنه إذا لم يتم التوافق العاطفي بين الزوجين، فإن الاتصال الجسدي ضرب من انحطاط البهيمية حتى مع الزواج؛ وعلى ذلك فإن الإحساس بفقدان الميل بين الزوجين أو بالقصور العقلي من أحدهما تلقاء الآخر، أو بتنافر العقلين، تلك العلل التي يكون مردها إلى أسباب في طبيعة النفس لا يمكن تغييرها، إنما هي مبررات للطلاق أوجه من الجمود وأحق، فالطلاق أمر يرد من حيث مشروعيته إلى ضمير الإنسان، ولا وجه عنده لأن يخضع الإنسان لعبودية قانون الكنيسة الذي يجعل الإثم المادي أعظم من الآثم العقلي والروحي وأشد خطرا.

ولا يسع من يقرأ هذا الكتيب إلا العطف على الشاعر إذ يعبر عن مقدار ما يحيق بالنفس من عذاب إذا مني المرء بالفشل في زواجه ولم يتح له ما يتطلع إليه من وراء الزواج (من حديث طيب ملؤه السرور بين الرجل والمرأة يريحه وينعش نفسه بعد ما ذاقه من مساوئ العزلة) وما أشد ألمه وأقسى خيبته (إذا كان نصيبه زوجة خرساء لا روح لها فانه يظل أكثر من عزلة من ذي قبل، ويبقى في تحرق وشوق أشد على طاقة المرء من التحرق الجسدي وأدعى منه إلى التفكير فيه والاهتمام به)، ويصف الشاعر هذا التحرق وصفا شعريا بقوله (أن الماء الغزير لن يطفئه لا ولا الفيض يغرقه)، وفي التطلع إلى مثل تلك السعادة الزوجية وإلى مثل ذلك الحب الصحيح (يقضى المرء أيام شبابه وليس فيها ما يلام عليه)، ويجهل بذلك كثيرا مما كان خليقا أن يرشده متى شاء أن يختار زوجة فيدع هذه ويأخذ تلك عن بينة كما يفعل عند الزواج من قضوا صدر شبابهم فيما لا يخلو من اللوم ثم إذا به يجد نفسه (مقيدا قيدا وثيقا إلى من لا تجاوب بينها وبينه ولا تواؤم بين طبعها وطبعه، أو كما يحدث غالبا إلى صورة من الطين تطلع من قبل ليكون شريكها في اجتماع حلو ملؤه الفرح، ويجد في النهاية أن قيده لا انعتاق منه؛ ومثل هذا حتى لو كان أقوى مسيحي فانه لا مناص على أهبة أن ييأس من الفضيلة ويقنط من رحمة الله، وهذا بلا ريب سبب ذلك الفشل، وذلك اليأس الحزين الذي نراه في طائفة كثيرة ممن يتزوجون)، ويصور ملتن بخيال الشاعر مقدار ما يكون بين زوجين في مثل تلك الحالة من خلاف بقوله: (حين تتنافر أفكارهما وروحاهما وتتباعدان كلاهما عن الآخر كبعد ما بين الجنة والجحيم).

ويتساءل ملتن كيف يتسنى الاختلاط الجسدي الوثيق بين زوجين يكره أحدهما الآخر كرهاً شديداً فعالاً، ويود لو يعتزله اعتزالا ثم هو يعيش معه أبداً؟)؛ وينزه ملتن الله عن أن يكون ذلك قصده من الزواج فيقول: (هل فتح الله لنا ذلك الباب الذي يكون منه الخطر والمباغتة، باب الزواج ليغلقه من دوننا كما يغلق باب الموت فلا تراجع ولا أوبة؟)، ويعود إلى تصوير ما يؤول إليه مثل ذلك الزواج الفاشل فيقول (لا بد أن يفضي ما لم تقع معجزة من معجزات الصبر في كلا الجانبين، لا إلى ألم مرير، وحنق شديد فحسب، وهما مما يوبق الإذعان لله، بل إلى استهتار يائس فاجر، إذ يجد المرء نفسه في غير ذنب من جانبه قد جرته نوبة من الخداع إلى فخ من فخاخ الشقاء).

وماذا عسى أن يصنع من مني بمثل هذا الجد العاثر؟. . . أيتسلل إلى سرير جاره كما يتبع عادة في مثل هذه الخيبة؟ أم يدع حياته النافعة تذهب هباء فيما لا يجدى؟ كلا؛ إن الأقرب إلى الرجولة أن يقضى على شقائه بالطلاق، فانه إن بقى على ما هو عليه ولم يستطع أن يحسب جلب على نفسه جديدا من الضر، ولذلك فإن من يعمل على فصم تلك العروة إنما هو ذلك يعلي قدر الحياة الزوجية ولا يقبل أن يشينها.

ويرى من يقرأ كتيبه هذا أن الناحية العاطفية أقوى فيه من ناحية المنطق، ومرد ذلك إلى أن الشاعر إنما يصف ما عانى من ألم نتيجة لما رزئ به من خيبة، فهو يتحدث حديث الخبير، كما أن حديثه هو إلى الشكوى أقرب منه إلى الدرس وفي ذلك سحره وقوته.

ولئن أبت عليه كبرياؤه أن يشير إلى ذلك، فإن من يقرأ عباراته وليس يعلم قضية زواجه خليق أن يحس تلقاء ما تزخر به من حياة وحرارة أنها متنفس نفس متألمة، وشكاة قلب معذب. وكذلك ينم عنه في كتيبه هذا تلمسه العلل لمثل ما وقع فيه من خطأ، فكل امرئ عرضة لأن تخدعه المظاهر فتجره إلى ما لا يحب (وإن أكثر الناس عقلا وأقواهم تمكنا من أزمة نفوسهم هم أقل الناس تجربة في مثل هذه الأمور وأجدرهم ألا يعرفوا أن ما تقع عليه أعينهم في عذراء من صمت خجول إنما يخفى وراءه ذلك الجمود وذلك الكسل الطبيعي الذي لا يصلح قط لحوار) وتكاد تلخص هذه العبارة قصة زواج ملتن بماري يوول فانه كما ذكرنا لم يك يعرفها من قبل ورأى في صمتها وقد مال إليها عذراء فحسب. . .

ومما يتعلل به ملتن من طرف خفي إشارته إلى عقيدة القدر المحتوم فهو يؤمن بها اليوم وإن أنكرها غدا؛ فلن يفر المرء مما قدر عليه وينطبق ذلك الزواج بالضرورة كما ينطبق على غيره.

ويجد ملتن في هذه القضية فرصة لتجديد طعنه على القساوسة فيقول إن ما يدعيه البابا ورجال الدين من اختصاص في أمور الزواج إنما يقوم على الاغتصاب، فإن الزواج والطلاق من اختصاص رب الأسرة كما قضى بذلك الله، وكما تقضى طبيعة الأشياء وكما ارتضى المسيح، ولكن بابوات روما اغتصبوا ذلك الاختصاص (وقد رأوا ما يصيبون من مغانم ومن سلطة تفوق سلطة الأمراء أنفسهم من وراء قضائهم في هذه الأمور وإبرامها) وينتهي ملتن إلى قاعدة سوف تنمو في ذهنه وتسع مداها في فكره ومؤداها أن لا قانون يتقيد به الرجل الحكيم.

ويبين ملتن مبلغ ما يسديه المشرعون من خير إلى الإنسانية إذا أخذوا بآرائه في الطلاق. فيقول: (إنهم بذلك يرفعون كثيرين ممن لا حول لهم من المسيحيين من أعماق الأسى والحزن حيث لا قبل لهم قط بأداء أية خدمة لله ولا لأحد من عباده، ويخلصون كثيرين من نفوذ الطوائف المظلمة المضطربة، وينقذون كثيرين من الإباحية البهيمية الجامحة وكثيرين من الشقاء الموئس ويعيدون الإنسان إلى كرامته الصحيحة وإلى حقه الطبيعي؛ ويعودون بالزواج من وضعه الحالي كفخ من الفخاخ ومسألة من مسائل الحظ يأتي منها الخطر إلى حالته المرجوة إذ يكون المرفأ الأمين والملجأ الاجتماعي السعيد.

وفي يوليو سنة 1644 نشر ملتن مقالاً مطولاً جعل عنوانه (رأي مارثن بنسر في الطلاق)؛ ورد بهذا المقال على مخالفي آرائه التي تضمنها كتيبه (قانون الطلاق ونظامه)؛ وقد أخذ هذا الكتيب يثير عليه سخط البرسبتيرينز حتى أنهم شدوا عليه النكير في كنائسهم، ووضع مجمع وستنسر اسم كتيبه في قائمة الكتب التي لا يصح أن تقرأ واعتبر مؤلفه من الخوارج أو (المستقلين)؛ وطلبوا إلى نقابة الطابعين أن ينظروا في أمره ليلقى جزاء طبعه كتيبه بغير تصريح مخالفا بذلك قانون الطبع؛ ولكن التجاءهم إلى قانون الطبع ورغبتهم في مصادرة كتيبه لم يجدهم شيئا فقد أوشكت أن تقع مقاليد السلطة في انجلترة في يد كرمويل وأحس الناس أن فجر الحرية يوشك أن ينهل على البلاد نوره.

وستتسع مسافة الخلف بينه وبين البرسبتيرنز فيكون هذا الخلف هو الصدمة الثانية لنفسه بعد الصدمة الأولى وهي فشله في زواجه؛ ويرى بعض المؤرخين أن غضب البرسبتيرنز عليه، ونعتهم إياه بنعوت سوف نذكرها في حينها كان آلم وقعاً في نفسه من هجران زوجته إياه. . .

(يتبع)

الخفيف