مجلة الرسالة/العدد 68/صفحة من التاريخ

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 68/صفحة من التاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 10 - 1934



ميدان القَبَق

بين السعد والنحس

للأستاذ محمد فريد أبو حديد

صف لي ملاهي قوم من الأقوام أصف لك خلقهم ونصيبهم من الحياة - وإذا أخطأني حظ الإصابة مرة لم يكن الخطأ إلا مؤقتاً، ويكون تطاول الأيام كفيلاً بتحقيق ما أتوقع - وليس ذلك ناشئاً من أن الله قد وهبني ما لم يهب سواي من قدرة على التكهن أو التنبؤ، بل هي مجاري الأقدار تنساق في سبيل لا حيلة في الحيد عنها، ولا وسيلة إلى الانفلات منها. .

وقد علمت أن الرومان أقبلوا على ملاهٍ يقشعر بدن الإنسانية من تصور ما كان يجري فيها من فظائع. . وأيمن الحق ما كان لامرئ أن يتنبأ لشعب الرومان إلا بالانحدار والانحلال مادامت نفوسهم لا تهتز إلا بسفك الدماء، ولا ترتاح إلا إلى مناظر الوحشية. وقد رأيت ما تنم عليه آثار مدنية بومبي من هُوى إلى سحيق الدعارة، وما كان لك أن تتطلع في مستقبل ذلك الشعب إلا إلى نزول وهبوط، إذ إن النفوس لا تلهو إلا بما مرنت عليه واطمأنت إليه وسرى في عاداتها وتغلغل في حياتها. وللحياة القوية مطالب وتكاليف، إذا اعتادت النفوس القيام عليها صارت لذتها في مباشرتها. ودونك من الشعوب القوية ما يوضح ذلك أتم إيضاح، فذلك شعب الإنجليز ترى لذة شبانه وكهوله في ممارسة الرياضة بأنواعها، والجولان في البحر والبر والهواء، يجدون اللذة القصوى في مقارعة الأخطار ومقابلة العقبات. وإذا شئت مثلاً آخر فلا تعوزك المثل؛ فالشعوب القوية ولله الحمد كُثر في كل عصر، ولن ترى شعباً قوياً تنزو به الحياة وتثب به القوة إلا رأيت لذته في مثل مقارعة الخطوب ومنازلة قوى الطبيعة. ولقد كان لنا آباء - رحمهم الله - لم يكونوا من المتخلفين في ميدان الحياة. بل كانوا حماة عصرهم وسادة جيلهم. ولست أتردد في أن أسميهم بالآباء، على أنهم قد لا يكونون لي آباء. كما أنني لا أتردد في أن أسمي الفراعين آبائي، ولعلهم لم يكونوا من آبائي. فإنني لا تجري فيّ دماء الملوك. ولئن كان فيّ شئ منها فقد جهلته. فالملوك الأقدمون منذ خلدوا على صفحات التاريخ قد أصبحوا اليوم آباء لنا في أنهم كانو الحفظة لمُثلنا العليا، والقوّام على آمالنا القومية. فهم آباؤنا في التراث القومي وإن بعدت بيننا علاقات النسب. لا، بل وإن اختلفت ألوان الدماء وتباينت مواطن الشعوب.

في جانب القاهرة المعزية من الشمال الشرقي حي اسمه الآن حي العباسية الشرقية، ومن ورائه من ناحية الجبل مساحة عظيمة مسطحة لا تكاد ترى فيها نشزاً. وقد اختطت في بعض جهات هذا المتسع في أيامنا الحاضرة مدافن حديثة شقت ما بينها الشوارع وأنشئت الحدائق، وهذا السهل يتصل إلى جنوب القاهرة فيما يلي قلعة الجبل لا تكاد ترى في كل هذه المسافة تلاً تعكر سهولة السطح، وهذه المساحة هي بعينها الميدان القديم الذي أنشأه أحد أجدادنا العظام الذين قدمت الإشارة إليهم، وهو الملك العظيم الظاهر بيبرس البندقداري؛ وكان اسم هذا الميدان الفسيح في تسمية العامة: (الميدان الأسود) أو ميدان السباق. وكان في تسمية الخاصة: (ميدان القَبَق).

أما القبق فهو آلة من آلات التمرين الحربي، وهو عبارة عن قرص كبير من الخشب يوضع فوق سارية عالية، ويوضع وراءه هدف يرمي إليه الجنود سهامهم؛ وكان الرمي بالقسي والسهام من أكبر وسائل الرياضة عند أهل ذلك العصر من سني القرن الثالث عشر الميلادي أو القرن السابع الهجري.

وكانت مصر حينئذ قلب الشرق الإسلامي وكنانته. إذ كانت بلاد ما بين النهرين قد أكلتها نيران التتار، وأصبحت دامية صريعة تئن تحت سنابك خيل أحفاد جنكيز خان. وكانت بلاد الشام لا تزال تعاني بقايا الفتح الأوربي الذي اعتراها في مدة الحروب الصليبية، وكانت أوربا لا تزال في أول أدوار النهضة بعد أمد العصور الوسطى، ولا تزال على عقليتها القديمة التي دفعتها إلى الحروب الصليبية تحاول ما استطاعت أن تبطش بدول الإسلام.

فكان على دولة مصر أن تحفظ مدنية الإسلام، وتراث العلم والنور من موجة التتار المخربة المدمرة من جانب الشرق، وأن تدفع عادية أوربا المحنقة الثائرة من جانب الغرب. ولهذا كان لا مفر من أن تكون مصر على رباط دائم، وفؤاد يقظ حديد.

وكان بيبرس ممثل الدفاع في القرن الثالث عشر الميلادي؛ حمل الراية مدة حكمه الطويل فكان بطلاً موفقاً مجدوداً.

لم تكن أعوامه تخرج عن عام غزو في بلدة من بلاد الشام، أو عام موكب انتصار عقب فتح من الفتوح. وما كانت مواسم مصر على يديه إلا تلك المواسم النابضة بالحماسة، الجياشة بمعاني الرجولة والحياة القوية.

وكان ميدان القبق مشهد أكبر للمواسم وأحبها إلى الناس، سواء في ذلك العامة والخاصة. وها نحن أولاء نصف واحداً من تلك المواسم البيبرسية التي سادها السعد والتوفيق؛ فكان مبعث سرور للآلاف من الناس وآية مجد وجلال للدولة ورجالها.

كان ذلك في يوم شديد الحر في شهر رمضان؛ وكانت العادة أن ترش أرض الميدان الأسود بالماء قبل أن يبدأ فيه الاحتفال؛ فرأى السلطان الجليل (بيبرس) إن رش هذا الميدان الفسيح في مثل هذا اليوم القائظ وفي شهر الصيام فيه تكليف شاق على الناس. وأشفق أن ينالهم من ذلك أذى، فأمر أن يكف الناس عن الرش وأن يتحمل جنوده مشقة الاحتفال في القيظ بغير ترطيب الأرض بالماء.

وأبى الله أن يجزى مثل هذا العطف بغير جزائه. فكان من دلائل سعد السلطان ويمن أيامه أن ساقت الرياح غمامة في ذلك اليوم على غير عادة في مثل ذلك الوقت، فأمطرت الميدان حتى رطبت أرضه، ثم أقلعت. وما أتى وقت الاحتفال حتى رأى بيبرس وفرسانه ميداناً دهساً غير ملبد ولا زلق.

دخل السلطان العظيم على رأس قواته وجنوده، فكلف كبارهم بإظهار ما عندهم من البراعة في الرماية. ووقف الناس ألوفاً حولهم يعجبون بما يرون، وتثب قلوبهم سروراً بما يعجبون به، إذ رأوا حماتهم جديرين بما أولوهم من زعامة في الدفاع المجيد.

ثم ركب السلطان في قمة الصف، واصطف وراءه القواد والجنود بحسب المراتب المرسومة، وحمل كما يحمل إذ يكون في ميدان الحرب وحمل وراءه أتباعه كباراً وصغاراً، كأنما هم رجل واحد، ولهم إرادة واحدة. فإذا كر السلطان كانت الألوف وراءه كجزء منه، وإذا لف كانت الألوف من خلفه كأنما هي قطعة واحدة - وتعالت عند ذلك أصوات الإعجاب والحماسة، واختلطت بزفرات الدعاء والولاء، فلقد كان بيبرس العظيم مليكاً على الناس مسيطراً على الأفئدة.

وانتهى اليوم على ما ابتدأ به من السعد، ووزعت الهبات والصلات، وتتابعت العطايا والهدايا، ونال الناس من بر ذلك اليوم ما لم يفت طبقة من الطبقات، فقد قرت أعين الأمراء بالتكريم، وأثلجت صدور الفقراء بالعطاء.

وما كان مثل عصر (بيبرس) ليذهب بغير أثره، فقد أصبح الناس جميعاً ولا همة لهم إلا في تقديس أبطال الفرسان، ولا مسرة إلا ما تبعثه مناظر الكر والفر، وأصبح بفضل هذا الروح في مصر جيش من أبطال مازالوا مضرب الأمثال في النظام والشجاعة والمهارة، وأصبح الشعب وذهنه منصرف إلى ناحية حياة الرجولة والدفاع والنضال، لا يقبل على لهو إقباله على شهود أيام الاحتفال. قال المقريزي في وصف ذلك: (وصارت تلك الأمكنة لا تسع الناس وما بقى لأحد شغل إلا لعب الرمح ورمي النشاب).

غير إن ذلك الميدان لم يشهد السعد وحده، بل شهد بعض ساعات من النحس بعد أن تغير الزمان وتبدل الحال. ولم يكن في الإمكان أن يجود الزمان بالأفذاذ يتبع بعضهم بعضاً بغير انقطاع. وإلا فلم سمي الأفذاذ أفذاذاً؟

فحكم مصر في أواخر القرن الثالث عشر المسيحي سلطان آخر يمتاز عن بيبرس بأنه من سلالة ملكية، إذ كان أبوه سلطاناً قبله غير أنه لم يكن في مثل قوة بيبرس ولا في مثل توفيقه وسعده، وذلك هو السلطان الأشرف خليل بن قلاوون.

أراد يوماً أن يحتفل احتفالاً مجيداً كمن سبقه من السلاطين العظام، واختار ميدان القبق لذلك الاحتفال، وأراد أن يجعل ذلك الاحتفال على ما شاء له الملك الضخم والغنى الواسع وبيت العز الجليل. وكانت الخاتون الجليلة زوجة السلطان على وشك أن تضع ولداً. وكان أكبر أمل الملك العظيم أن تلد له غلاماً يكون وارثاً لملك جده وأبيه، وسبق السلطان الأقدار إلى إعداد العدة لاستقبال المولود السعيد المنتظر، وكان يرجى أن يكون يوم ذلك الاحتفال هو يوم الوضع الموعود.

ومهد الميدان ورشت جوانبه، وجهزت أدواته وآلاته، وزينت طرقه وحواشيه، وأقبل السلطان في موكبه الفخم وركابه المهيب. وابتدأ الاحتفال يباهي الأيام الماضية بجلاله وضخامته، غير شئ واحد كان غير ماثل فيه، وهو جلال بيبرس العظيم وتعلق قلوب الشعب والجنود به. وجرى كل شئ على سننه المعتاد غير أمر واحد، وهو سعد السلطان بيبرس العظيم وتوفيقه. فما هي إلا جولة حتى أغبر الجو وأظلمت السماء، وثارت عاصفة هوجاء يكاد الواقف فيها لا يرى جاره أو يستبين ما حوله. فتحول اليوم من احتفال وعيد إلى فوضى واختلال، وهدم في ساعة ما قضى السلطان في إعداده أياماً طوالاً وبذل في سبيله أموالاً طائلة. ثم وضعت الخاتون طفلها أنثى، ولم يتحقق أمل السلطان في وارث يحفظ الملك عقبه في بيته.

وهكذا تجري الأقدار في مسالكها الغامضة، وإنما يرى الناس منها الآثار التي تدهش لها الألباب وتعشى منها الأبصار، بغير أن يستطيعوا رؤية ما وراء ذلك من تدبير القضاء، فكان ذلك اليوم آخر ما شهده ميدان القبق من جليل الاحتفال. حقاً لقد عاد إليه بعض الملوك حيناً وأرجعوا إليه الحلبة، غير إن الروح لم يعد إليه، والروح سر عجيب لم تستطع البشرية أن تسمو إليه، فإنه يحل فلا تعرف أنه حل إلا من آثاره، ثم يذهب فلا تدرك ذلك إلا من آثار ذهابه، ولكنه غامض غموض المغيب المحجوب. ومن أعجب ما فيه أن السعد إنما يقبل مع إقباله، والنحس إنما يحل عند إدباره، وإنه إذا كان أدبر يوماً فلا جرم أنه يدبر لكي يعود في يوم آخر، ولو بعد حين.

محمد فريد أبو حديد