مجلة الرسالة/العدد 68/النقد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 68/النقد

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 10 - 1934


2 - أصدقائي الشعراء

هذا لا يؤدى

بقلم معاوية محمد نور

وعندي أن السر في أن شعر علي محمود طه المهندس قد نال شيئاً من التقدير والثناء مرجعه لإجادة الصنعة والصقل، ولو أن مواده هي الأخرى تافهة بدائية المعنى، غير صادقة، يعوزها الشعور الفردي القوي، والنظر الأصيل الواحد.

ثم لأن العرف الدارج والعقل الشعبي قد تعود أن يقرن الشعر بمظاهر الطبيعة المعروفة. . فيقول الناس عن ليلة مقمرة: أنها ليلة شعرية، أو عن روضة فيحاء: إنها تبعث على النشوة والسرور، وإنهما لكذلك. غير أن الشاعر الذي لا يتعدى في نغمه ووعيه الشعري سوى ترديد ما تواضع عليه الناس وأقروا به، إنما يدل على أن المحاكاة والتقليد والعرف الدارج هي أميز خواص فكره، وأخص ميادين لعبه الفكري.

وعلي محمود طه يكتب عن الطبيعة ويستوحي النهر والبحر والغدير والقمر والأشباح والرياض والشفق، ويفهم أن (الطبيعة) التي يجدر بأن تنظم شعراً هي الطبيعة في أضخم مظاهرها وأعظمها، وأوقعها في الحس، وأشدها رائحة، وأهولها منظراً؛ وهو لا يفهم هذا الفهم ويتجه إليه لأن مزاجه هكذا، ولكن لأن هذه الأشياء قد كثرت في الشعر وأصبحت معروفة معترفاً على أنها تصلح موضوعاً للشعر، ولو لم يحس الأديب تجاهها بأي شعور غريب أو نظر حديث.

وبديهي أن الشاعر المعاصر الذي لا يلتفت في عالم الطبيعة إلا إلى المظاهر التي التفت إليها خلافه من عهد آدم، يدل أولاً على أن تقدمه الذهني وقف هناك، وأن وعيه الفني لم يتطور؛ ففي الطبيعة خلاف البحر الذي يقف عنده القروي، وفي الطبيعة خلاف الشواطئ التي تقف عندها سفن البحارة، أشياء أخرى أدق وربما كانت ألصق بحياتنا وأجدر بالتفات الشاعر. فالحجر الصلد الذي يقف في طريقك، و (الشارع) الذي تصقله مصلحة التنظيم حيث يعمل جماعة المهندسين، والفأر الهارب من سفينة خربة، والذباب الذي يطن على جيفة عفنة، وقطعة الحديد التي أكلها الصدأ، والخشب الذي نأكل عليه، والزرع الذي نلبسه ثياباً، والعصفور الوحيد الذي ينتقل من بيت لآخر، والنمل، والنحل، وصوت الباخرة، وضجيج الترام، وخلافها من المظاهر التي نراها ونسمعها في غدوّنا ورواحنا هي أجزاء حية في الطبيعة، والالتفات إليها في وضع جديد أتى به نظام حياتنا الراهنة وحضارتنا المعاصرة، لأدلّ على فهم الطبيعة من آلاف القصائد عن البحر والشفق والنجوم!.

ويجب ألا يفهم من هذا أننا ننكر على الشاعر أن يعنى بمظاهر الطبيعة الكبرى البدائية الجميلة أو المتوحشة، ولكن هنا يقل الإبداع، ولا يسلم الشاعر من الإسفاف والتفاهة، إلا إذا كان عملاقاً عظيم النظر فريد الشاعرية؛ كما إننا لا ننكر الالتفات إلى (المظاهر الرومانتيكية) التي يولع بها المهندس، ولكن هذا الالتفات وهذه العناية (بالربيعيات) يسهل فيه الغش، وتندر به الإجادة والتفرد؛ وهو أقرب طريق يلجه الأديب القليل الحيلة، المقلد الأسلوب، الذي لا تميزه شارة، ولا يستشف في تكوينه إصالة نظر أو عمق تفكير.

وكثير من شعراء أوربا المعاصرين اقتربوا من الموضوعات الرومانتيكية بأسلوب جديد، فبدلاً من الحديث عن سحرها وخوفها وهولها، تراهم يحاولون تفسيرها والنظر إليها من خلال شعور وعقلية رأت وسمعت وقرأت ما يجعلها تنظر إلى هذا الجمال والهول والخوف من زوايا جديدة ليس فيها ذلك الجهل الناطق. فإن كل شئ لا يعرفه الإنسان يبدو له سراً تحار فيه الأذهان، ولو كان من أبسط البسائط!

فالقروي الذي يزور القاهرة لأول مرة ويشاهد (المصعد الكهربائي) لا يمكنه إلا أن يذكر الله والأسرار، وتتملكه الحيرة والعجب، فإذا حاول مثل هذا الرجل أن ينظم قصيدة عن (المصعد) فقد تروق لأمثاله الذين لا يعرفون الميكانيكيات (وقوانين الطبيعيات). ولكن القارئ المتحضر لا يستطيع قراءة قصيدة تنسب إلى هذا المصعد أهوال الجن وعمل الشياطين!

فالثقافة ووعي العصر الذي نعيش فيه لابد منهما لأي فنان يكتب ليقرأه الجيل الذي يعيش بينه، وذلك لأن الشاعر المصري المعاصر لا يعيش في (شبره) أو (ديوان حكومي)، ولكنه قبل ذلك إنسان حي يعيش في كل العالم، ويحس ببعض ما يدفع بالنفوس الآدمية إلى مناجاة النفس مثلاً في روسيا، أو الحركة والعمل في أسبانيا واليابان. والذي يستطيع أن يرى في شارع عماد الدين مثلاً وجوهاً وأجساماً وثياباً وآلات كاملة الصنعة مصقولة المظهر، يخبر مظهرها عن السكون والاطمئنان، غير إنها تفتح عوالم داخلية مروعة. وبالاختصار فإن الفنان الذي - لم يحس بقبس أو لمحة أو ناحية من (تيار وعي) كامل يمكنه من رؤية التشابه في أشياء، ومظاهر بادية الاختلاف، أو بالعناصر والقوى والفكر التي تذهب جميعاً لإخراج فكرة أو مظهر عادي مما نراه في حياتنا اليومية؛ ليس لديه تلك الملكة الشاعرة التي تستطيع أن تبني القصور من الرماد والهواء، أو تحلل السيارة الجيدة الصنع، الجميلة المظهر إلى عناصر حلم وغفوة إنسان وعصب حيوان، أو فقرات مادة سنجابية وجرح عامل فقير، ليس له ذلك الإحساس النافذ القدير على التكوين والتحليل، الذي يجبر القارئ على الإنصات له والاستماع لنغمه الشعري.

وإني لأعجب كيف يعجب أي قارئ له حظ من الثقافة ودقة الحس بكلام مثل هذا:

رب ليل مر أمضيناه ضماً وعناقا

وأدرنا من حديث الحب خمراً نتساقى

في طريق ضرب الزهر حواليه نطاقا

وتجلى البدر فيه، وصفا الجو وراقا

فإذا كان هنالك حب وضم وعناق، وزهر وبدر وجو رائق، فالإنسان العادي ليس به حاجة ليحس بنشوة آدمية حسية من غير أن ينظم له هذا الكلام شعراً. وإن أي أفريقي في أدغال أفريقيا، حينما يصفو الجو، وينمو الزهر، ويشرق البدر، ويحب امرأة يستطيع أن يقول هذا الكلام.

وعند علي محمود طه أيضاً شعور غير محمود بأنه شاعر، ذلك لأنه قد ضم كل الشعريات وأحصاها في ديوانه. فقصيدة ميلاد شاعر مثلاً كلها تمجيد لهذا الرجل الذي يحسب نفسه شاعراً، لأن لفظة الشعر والشاعر والزهور والألحان تكثر في كلامه.

والرجل الذي يستطيع أن يكتب - بعد معرفتنا الحاضرة وشعورنا المحدود الذي أتاحه لنا العلم والبحث العصري مثل هذه الأبيات الآتية، إنما أحسده لبساطته التي لا تحسد.

وتجلى الصدى الهتوف الساحر ... في محيط من الأشعة غامر

وسكون يبث في الكون روعاً ... وقفت عنده الليالي الدوائر (كذا) واستكان الوجود والتف الدهر ... وأصغت إلى صداه المقادر (كذا)

وقد يتورط محمود طه في غرامه (بالشعريات) برسمه صوراً مضحكة إذا لم تكن مستحيلة كقوله:

ماؤه ذوب خمرة وسنا شم ... س وريا ورد وألحان طائر

وعنده إذا لم يجعل هذا الماء ذوب خمر وسنا شمس وريا ورد وألحان طائر في آن واحد فهو ليس بشاعر. وأي منطق يستطيع أن يفهم شيئاً يكون سنا شمس محرقة، وريا ورد، ثم يكون في نفس الوقت صوت طائر؟!. اللهم إن هذا إلا خلط قبيح لا نرضاه لصديقنا الشاعر.

وليس أدل على فهم شاعرنا لطبيعة الشعر من قوله في رثاء شاعر:

وهو شعر صورت ألوانه ... بهجة الفجر وأحزان الشفق

ونشيد مثلت ألحانه ... همسات النجم في إذن الغسق.

وفي قصيدة (الله والشاعر) بساطة مؤلمة في أن يأمر أديب الأرض بأن:

مدى لعينيه الرحاب الفساح ... ورقرق الأضواء في جفنه

وأمسكي يا أرض عصف الرياح ... والراعد المغضب في أذنه

فهذا كلام لا يشرف أي طالب في مدرسة ثانوية، فضلاً عن شاعر عصري. والقصيدة ملآى بهذه الأشياء التي تواضع البسطاء على إنها الطبيعة التي لا طبيعة غيرها.

مر بنهر دافق سلسبيل ... تهفو القمارى حول شاديه

في ضفتيه باسقات النخيل ... ترعى الشياه تحتها غانيه

فإذا كان هذا النهر ملحاً مثلاً، وكانت هنالك ضفادع على حوافيه، وأحجار تدمي الأقدام بدلاً من النخيل، فليس هنالك طبيعة تجدر بالشاعر والشعر!:

حتى إذا شارف ظل الشجر ... في روضة غناء ريا الأديم

قد ضحكت للنور فيها الزهر ... وصفقت أوراقها للنسيم

فهذا الشاعر لا يكفيه أن تكون هنالك روضة غناء ريا الأديم ولكن لابد أن يضحك الزهر ويصفق النسيم لأول مرة!

أما المسائل الفكرية التي أثارها الشاعر في حواره مع الله فهي أول ما يقرأ الطالب في العلوم الدينية في باب القضاء والقدر. إن مسألة الإثم والشر لا يعالجها فنان عارف بمثل هذه البساطة

. وفي قصيدة (قيثارتي) مثل قوي لهذه النزعة نحو (الشعريات) التي حاولنا إيضاحها، وهذه هي أواخر الأبيات من غير تحوير ولا مبالغة، ولو أنها أشبه بالمبالغة والتحوير:

الغور والآكام. الشعر والإلهام. مودتي وذمامي - قديم هيامي. قلبي الدامي. دمعي إلهامي. حبيسة الأنغام.

إن مثل هذا الشعر ليوحي إلى القارئ الدقيق الحس كراهة الآكام والزهور والبحار والأنغام وما إليها لهذه النغمة المبتذلة الكثيرة التكرار، التي لا تحس معها بواقعة حال صحيحة، أو شعور نضر مباشر!

وإنما أتينا بهذه الاستشهادات لندل القارئ على إننا لا نتعسف، وإلا فإن الديوان كله يصح أن يستشهد به، فما يخرج من ألفاظه ومعانيه عن هذه الألفاظ والأمثلة والمعاني.

وقد كنا نظن أن أصدقاءنا من الجيل الجديد الذين يشتغلون بالشعر، يفهمون الشعر على حقيقته، وأنه ليس ألفاظاً ومبالغات عن عالم الطبيعة والزهر والحب وما إليه من الألفاظ والأخيلة التي يسهل على أي يد تحرك القلم أن تأتي بها.

أصدقائي الشعراء، أقولها لكم مخلصاً: إن هذا عبث قبيح بالكبار. وأقبح ما فيه أن يأتي من جيل جديد له دعوى كبيرة نسمع عنها في الصحف، وهو على هذا التخلف المعيب في فهم الفنون والحياة. ولو أننا رأينا الاتجاه صحيحاً، وأن الطريق الذي تسلكونه مهماً كانت النظرة زائغة والنغم غير منسجم لتساهلنا، وكانت معالجتنا للموضوع غير هذه، غير أن الطريق من أوله خاطئ، وأن الفهم من أساسه غير صحيح، وأن هذا الطريق لا يؤدي أبداً، وأن الشيء الذي نسميه شعراً هو خلاف هذا في جملته وتفصيله، فمن شاء منكم فليرجع إلى نفسه يحاسبها، وينظر من جديد، ويقرأ ما يقول خلافه من الشعراء الفحول، وخاصة المعاصرين في أوربا ليرى في أي طريق تسير الأقدام، وأي عوالم يكتشف الفنان المعاصر، وأي المسائل يبحث النقاد، وأي (وعي فني) يجدر بالفنان الحي الذي يعيش في عالم الأحياء الشاعرين.

معاوية نور