مجلة الرسالة/العدد 679/من صميم الحياة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 679/من صميم الحياة

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 07 - 1946



وحي الشيطان. . .!

للأستاذ علي الطنطاوي

(على أرباب الأقلام أن يوقظوا النيام وليس عليهم أن يحيوا

الموتى. .)

علي

وهذه (أيضا) قصة من قصص الحياة، (ألفتها) و (مثلتها) على مسرحها، وهي قصة واقعة أعرف زمانها ومكانها وأشخاصها، ولكني لن أصف شيئاً من ذلك ولا أشير إليه، لأني لا أريد أن أسوء أحدا ولا أن أعرّض به، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما في التعريض بالناس نفع للقراء ولا لي وما أكتب تاريخا إنما أسرد قصة. . .

وقعت هذه القصة في بلد من بلدان هذا الشرق العربي الذي يقف اليوم حائرا في مجمع الطرق، لا يدري أين يسلك ولا إلى أين يتجه، والذي يعيش عيشة تحكى الثوب المرقّع، فيها شيء من الجاهلية وشيء من العصور الإسلامية الأولى، وشيء من عصر الانحطاط، وشيء من فرنسا ومن إنكلترا ومن روسيا ولكنه لا يكاد يأخذ من كل (شيء) إلا أسوأ ما فيه.

وكان مما أخذ أهل ذلك البلد عن أمريكا، أنهم عملوا من بناتهم في المدارس مثل المجندات فيها، وما جندت أمريكا المجندات في هذه الحرب إلا (للترفيه) عن الجنود، فعمّن نريد أن (نرفه) نحن؟!

وانتشرت هذه البدعة في مدارس البنات حتى بلغت هذه المدرسة، وأراد القائمون عليها إعداد هذا اللباس العسكري للطالبات، ولم يكن بدّ من الاستعانة بخياط فبحثوا حتى وجدوا خياطا أخبروهم أنه رجل أمين صاحب خلق متين، وجاؤا به ليقيس أجساد الطالبات، وجعلوا يدخلونهن عليه واحدة بعد واحدة، وهو ماض في عمله، يغض من بصره إلا عما لابد من رؤيته، ويترفق في جسه ومسه، إبقاء على طيب الذكر، وحرصا على صناعته، ولعنة الله عليها من صناعة، أن يخيط الرجل ثياب النساء، ولعن كل من يرضى بها. ولبث كذلك حتى دخلت هذه الفتاة، وكانت بنت ست عشرة كاعبا غرة مكلثمة بيضاء ذات غضاضة وبضاضة وخفر، من رآها رأى ملامح طفلة حلوة فتانة بطهرها وجمالها، في وجه خَوْد عذراء، على جسم راقصة مِفَنَّة، في ثياب عروس. . . . فلما رآها وقام للقياس. . . ومدَّ يده إليها أحس بقلبه يجب وجبانا منكرا، وبأنفاسه تتلاحق حتى كاد يدركه البهر، ولم يكن قد أصابه ذلك من قبل، وقد (طالما) رأى فتيات أجمل منها وأبهى وقمن أمامه بالغلائل ومسهنَّ وقاسهنَّ، فما صنعن به مثل هذا، وما كان تقيا ولا عفيفا، ولا يمتهن هذه المهنة رجل ويخيط للنساء ويبقى عفيفا، ولا تمشي إليه لتخيط عنده عفيفة ولا شريفة ولكنه لم يكن مشهورا بالفجور، ولم يكن ماجنا مستهترا فمن هنا عدَّه أهل هذه الأيام. . . أمينا صاحب خلق متين!

وأحسَّ بالفتور في أعصابه، ولكنه تماسك وتحامل على نفسه حتى أتمَّ القياس، وتكلم فعجب في نفسه أن وجد صوته يتهدج ويخرج مبحوحاً مخنوقاً، وما عهده كذلك. . . وخاف أن يفتضح فاستأذن في الانصراف، وخرج وفي نفسه عواطف متضاربة، فهو يرجو العودة إليها ويريد الفرار منها، وهو قد سعد بلقائها ولكنه يتمنى إن لم يكن عرفها. ولما وصل إلى دكانه لم يستطع أن يبقى فيه، وأحس كأنه افتقد شيئاً، وأنه يحيا في فراغ مخيف، وكان له، (وتلك من لعنات هذه الصناعة) عاملات وكان يأنس بهن ويلهو، فأعرض اليوم عنهن ولم ينظر إليهن، ووجد تراخياً في بدنه وشيئاً مثل الدوار في رأسه، فترك الدكان وذهب إلى أقرب قهوة إليه، فألقى بنفسه على كرسي فيها وأغمض عينيه وراح يحلم يقظان، ولم يكن يتخيل الفتاة بلحمها ودمها وجوارحها، وإنما كان يرى لها صورة غامضة عجيبة فيها كل ما كان يحلم به من ألوان السعادة وصور الجمال، ولم يكن يفكر في (وصالها) إنما كان في فكره التقديس لها والرغبة فيها والخوف منها والغيرة عليها من عيون الرجال بل من عين الشمس التي تراها!

وهذا هو الحب العذري، من النظرة الأولى، وإن أنكره العلماء وأقاموا الأدلة على إبطاله. لقد عشقها وهو لا يعرف اسمها، ولا دارها، ولا مطمع له في الوصول إليها.

ومرت الأيام ولا أصف لك كيف مرت عليه، وعاد إلى المدرسة ومعه الثياب ليجربها على صاحباتها، ودخلت البنات عليه، وخلعن أمامه ولبسن، وتحركن وحركن. . . وتكلمن وسمعن. . . ولكنه لم يسمع ولم يره، وكان ينظر إليهن كما ينظر النائم إلى خيالات تجوز به وهو غارق في لجج الكرى، وكان فكره معلقا بتلك وحدها، وكان يتمنى لرغبته فيها أن تمر الدقائق مسرعة حتى يراها، ويرجو لخوفه منها أن يبطئ الزمان حتى يتهيأ للقائها. . . وكان كلما دخلت واحدة اضطرب وخفق قلبه يحسبها هي. . . حتى جاءت. . .

وكان لطول ما فكر فيها وخلع عليها خياله من سمات الجمال وأحاطها به من التقديس والإكبار , لا يراها فتاة جميلة كالفتيات بل ملكا هبط من سمائه، أو حوراء من حور الجنان نزلت إلى الأرض، وكان يقدس كل شعرة منها، وكان يخشى أن يمسّ طرف ثوبها، لأنها كانت عنده كالزهرة التي يذبلها اللمس، فكان يخاف عليها ويرعاها من بعيد، ويحسّ الرغبة بأن يمرغ وجهه بتراب قدميها، وأن يقبل حذاءها. . . حماقة من حماقات العشاق. . .

ولم تكن البنت قد سفرت من قبل، أو خالطت الرجال، فهي لا تزال مستحيية، فتهيبت أن تجرب الثوب ووقفت. . . فأعانها المدرس وأنزل بيده جواربها، وخلع عنها ثوبها، وبقيت بـ (الشلحة)، فلما أبصرها الخياط كذلك، ورأى المدرس وهو يعينها على نزع الثوب عنها، اهتز كأنما مشى فيه تيار كهربائي، واجتمع في قلبه دمه كله، فخفق حتى كاد يخرج من صدره، وشحب وجهه حتى صار بلون قشرة الليمون، ثم دارت به الدنيا، ولم يعد يشعر بشيء. . .

لقد أغمى عليه فحملوه إلى دكانه، ولم يعد إلى المدرسة أبدا.

وهام الرجل بها، وزهد في كل امرأة من أجلها، ولم يبقى له في الحياة مطمح سواها، فرحمه جماعة من جيرانه، وذهبوا يطبونها له من أبيها، وأخذوه معهم، فلما عرف ما جاءوا له، أباه عليهم وردهم، فخرج الشاب وقد ضاقت به الدنيا، ولم يجد سبيلا يسلكه إلا سبيل الفجور. . . فأوغل فيه، وسخر ماله وشبابه لإفساد الفتيات، فأفسد منهن العشرات، وهنّ يتهاوين عليه كما تتهاوى الفراشات في النار. ومرت الأيام وسمع إن البنت قد خطبت، وعقد العقد، وزفت إلى بعلها.

هنالك أيس الرجل فانقلب شيطانا، واستحال ذلك الحب في نفسه بغضاً، وكذلك يكون البغض الشديد من علامات الحب الشديد، وأقسم ليدمرن حياتها وحياة أهلها، ولو دفع ثمن ذلك ماله كله وحياته، واستوحى الشيطان الأكبر، ورفاق السوء. . .

وهبط عليه (وحي الشيطان)!

فاستعان بمن يعرف من الفتيات من رفيقات البنت، وأغراهن بالمال وبالمتع أن يأتينه بها إلى داره مرة واحدة، وحلف لهن بالأيمان المؤكدة أنه لا يمسّ جسدها.

واحتلن عليها وزعمن لها أن رفيقة لهن مريضة فهن يحببن أن يزرنها معها، ورضيت وضربت لهن موعداً، فأخبرن به الرجل فأعد عدة الانتقام.

ولما وصلن إلى الدار تأخرن عنها حتى صارت من داخل، ثم رجعن واغلق هو الباب دونهن وبقيت وحدها، ونظرت فإذا الدار خالية ففزعت وركضت نحو الباب، فاعترضها الرجل وأخرج مسدسا ضخما، وهددها بأنه قاتلها به إن لم تخلع ثيابها كلها، وحلف لها أنها إن فعلت لا يمسها بيده، ولا يدنو منها، ويدعها تمضي بسلام، ونظرت الفتاة فإذا هو على صورة الوحش الهائج، أو الشيطان الغضبان، فارتاعت وجعلت ترجع حتى التصقت بالجدار، وهو يسلط عليها بريق عينيه وفوهة مسدسه، فلم تجد مناصاً من الامتثال.

فألقت خمارها عن رأسها، ثم نزعت معطفها بيد ترتجف من الرعب، ووقفت، فاستحثها، فانفجرت تبكي وتنشج، وتتوسل إليه:

- أرجوك، أنا في عرضك، أبوس رجليك. . . ارحمني استرني، ماذا عملت لك، إني امرأة شريفة ولي زوج. . .

فزأر في وجهها:

- بس!

وأوهمها أنه سيطلق المسدس، ثم رماه وراءه واستلّ سكينا طويلة أدناها منها حتى وجدت حدها على عنقها، وقال:

- اخلعي!

فخلعت الثوب، فقال:

- اخلعي كل شيء!

فعادت إلى توسلها وبكائها، وعاد إلى قسوته وتهديده.

فرمت (الشلحة)، والقميص، وبقيت بذلك (الكلسون) الذي يشبه خرقة بين رجليها، وصدرة الثديين، فصرخ بها حتى نزعتها، ووقفت أمامه كما ولدت أمها. . .

ومرت لحظة، ثم أعرض عنها، وقال لها: البسي واذهبي.

وصدق وعده فلم يمسسها.

فلما خرجت رفع ستارة، وقال للمصور:

هل أخذت الصورة!

قال: نعم، أخذت لها ثلاث صور!

خرجت وما تصدق أنها نجت، فلما بلغت دارها سقطت مريضة. . . وكانت هذه الواقعة كابوسا على صدرها، ما تفارقها ذكراها، في يقظتها ولا في كراها، وهجرت رفيقاتها جميعا رفيقات السوء، واتخذت لها ملاءة ساترة. . . ولكنها أخطأت فلم تنبئ بما جرى لها زوجها، ولم تصدقه خبرها.

ثم كان الفصل الأخير من الرواية:

وصل الخبيث حبله بحبل الزوج، وتزلف إليه حتى جمعته به سهرة، فأحضر معه طائفة من أصحابه الفساق، وكان قد بيت معهم أمرا، فلما احتدم الحديث وحميت السهرة، وزالت الكلفة وجاءت الألفة، أدار الخبيث الحديث حتى وجهه وجهة الحب والغرام، وانطلق يقص قصة لفقها، فلما انتهى منها، أخرج الصورة وقال:

وهذه صورة صاحبتي فيها، انظروا إلى جسمها وجمالها!

ودفعها إليهم فتناقلتها الأيدي، وكلما رآها واحد من أصحابه قال:

وأنا أعرف هذه الفتاة ومعي صورة أخرى لها.

حتى وصلت إلى يد الزوج، فنظر فيها، فأحس كأن لطمة انحطت على وجهه، فأظلمت منها عيناه ولم يعد يبصر ما حوله.

لقد كانت صورة زوجته!

ودمّر بيتان، وعوقب بريئان، وبقى المجرم الأول بلا عقاب، وهو القرد الذي جاءنا تقليده بهذه البدعة المخزية، بنظام (المرشدات)!

علي الطنطاوي