مجلة الرسالة/العدد 679/بمناسبة حال العمال اليوم:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 679/بمناسبة حال العمال اليوم:

مجلة الرسالة - العدد 679
بمناسبة حال العمال اليوم:
ملاحظات: بتاريخ: 08 - 07 - 1946



واجبات الإنسان. . .

للزعيم الإيطالي يوسف مزيني

بقلم الأستاذ عامر عبد الوهاب

نشر مزيني هذا المال عام 1860 موجها كلامه إلى الطبقة العاملة في إيطاليا قال: أود أن أتحدث إليكم عن واجباتكم، وأود أن أتحدث إليكم كما يوحى إلى قلبي عن اقدس ما نعرف من الأشياء: عن الله سبحانه تعالى، وعن الإنسانية والوطن والأسرة. أصغوا إلي إصغاء محبة، كما سأتحدث إليكم حديث مودة. إن كلماتي لهي كلمات اليقين الذي صهرته السنون الطوال التي قضيتها في كمد ونظر ودرس. واعلموا أني ابذل قصارى جهدي في تأدية الواجبات التي سأشرحها لكم وسأستمر في تأديتها إلى آخر رمق من حياتي. قد أخطئ ولكن قلبي متشبع بالحق. قد اخدع نفسي ولكني لن أخدعكم، لذلك أرجو أن تستمعوا إلي كأخ، ولكم أن تحكموا بحرية فيما بينكم إن كنت أتكلم بلسان الحق. واهجروني إذا ما شعرتم أني انطق عن الهوى، ولكن اتبعوني وسيروا على نهج خطتي إذا ما تبين لكم أني رسول صدق مبين. إن الخطأ بلية تستحق الإشفاق، ولكن إذا عرف الإنسان الحق ولم يهتد بهدية في أعماله، فذلك جرم تستنكره السماوات والأرض!

لماذا أتحدث إليكم عن واجباتكم قبل أن أتحدث إليكم عن حقوقكم؟ لماذا وانتم تعيشون في مجتمع ينبغي كله الإجحاف بكم طوعا أو كرها، وفيه يحرم عليكم دواما أن تمارسوا الحقوق التي تخص الإنسان، والذي كتب فيه أن يكون البؤس نصيبكم، وما يعرف بالسعادة من حظ غيركم من الطبقات؟ لماذا أخاطبكم عن التضحية لا عن الغلبة، أخاطبكم عن الفضيلة والتهذيب الخلقي والتربية لا عن الرفاهة المادية؟ هذه مسالة لا بد لي أن اشرحها قبل أن اشرحها قبل أن أتابع حديثي، لأنه هنا يتبين الفارق الحاسم بين نظريتنا وبين النظريات الأخرى التي تشيع الآن في أوربا. هذا فضلا عن أنها مسألة يضطرم بها العقل المتبرم، عقل العامل المتألم!

(نحن فقراء مستعبدون أشقياء، فتحدث إلينا عن أحوال انعم من حالنا، وكذلك تحدث إ عن الحرية والسعادة. نبئنا إن كان مقضيا علينا أن نذوق البلاء إلى الأبد، أو إننا سنسترفه بدورنا. توجه بحديث الواجب إلى سادتنا، إلى الطبقات المتحكمة فينا والتي تعاملنا معاملة الآلات، والتي تحتكر لنفسها الخيرات التي هي حق للجميع. تحدث إلينا عن الحقوق وعن الوسائل التي تؤيد هذه الحقوق، كما تحدث إلينا عن قوتنا انتظر حتى نظفر بمكانة يعترف بها، وحينئذ يجمل بك أن تخاطبنا عن الواجبات والتضحية)

هذا ما يقوله كثير من رجالنا العاملين وهم يتابعون الأساتذة والهيئات التي تساير ميولهم. هم ينسون شيئا واحدا فقط، ذلك أن النظرية التي يثيرونها قد دان بها الناس منذ خمسين عاما دون إحداث أي اثر من الإصلاح المادي في حالة الشعب العامل.

إن كل ما حدث في الخمسين عاما الماضية في سبيل الخير والفلاح ضد الحكومات المطلقة والأرستقراطية الوارثة، إنما حدث باسم حقوق الإنسان، باسم الحرية كوسيلة، وباسم الصالح العام كغاية الوجود، فكل أحداث الثورة الفرنسية، بل وجميع الثورات التي تبعتها وقلدتها كانت نتائج (إعلان حقوق الإنسان). وان جميع مؤلفات الفلاسفة الذين مهدوا لها كانت تقوم على نظرية الحرية وعلى قاعدة تعريف كل فرد ماله من الحقوق.

إن جميع المدارس (المذاهب) الثورية نادت بان الإنسان قد خلق للسعادة، وبان له الحق في أن يسعى لها بكل ما يملك من الوسائل، وان لا حق لغيره في أن يصده عن هذا المسعى، كما أن له الحق في أن يزيل كل ما يصادف من العوائق في هذا الطريق. ولقد زالت العوائق وتحققت الحرية ودامت سنين في بلاد كثيرة ولا تزال كائنة في البعض، فهل تحسنت حال الشعب؟ وهل حققت الملايين التي تعيش بكدحها اليومي اتفه نصيب من الهناءة التي رجوها والتي وعدوا بها؟

كلا، فحالة الشعب لم تتحسن، بل لقد زادت ولا تزال تزيد سوءا في كل بلد تقريبا، وعلى الأخص هنا (في إيطاليا)، حيث أسجل أسعار حاجيات المعيشة التي أخذت في الارتفاع، وأجور الطبقة العاملة التي هبطت في كثير من فروع الصناعة، بينما السكان آخذون في الازدياد.

ولقد اشتدت حال العمال زعزعة واضطرابا في كل بلد تقريبا كما ازدادت أزمات العمل التي قضت بالعطل والخمول على آلاف من العمال، وان الزيادة السنوية في تعداد المهاجرين من قطر إلى قطر، ومن أوربا إلى النواحي الأخرى فمن العالم، والزيادة المستمرة في عدد الجمعيات الخيرية، والزيادة في مخصصات الفقراء ومساعدات المعوزين، كل أولئك كلف في إثبات ما نقول، والشاهدان الأخيران يدلان كذلك على أن العناية العامة آخذة في التيقظ لآلام الشعب، ولكن عجزهم عن تخفيف هذه الآلام إلى أي حد محسوس يدل على استمرار مروع في شيوع الفاقة بين الطبقات التي يجهدون في معاونتها

ومع ذلك فالواقع أنه حدث في الخمسين عاما المنصرمة أن زادت ينابيع الثروة العامة، وكثرت خيرات الحياة، وتضاعف الإنتاج، واشتد نشاط التجارة، واتسعت دائرتها وسط الأزمات المتلاحقة التي لا مفر منها إذا انعدم النظام. كما أن المواصلات أصبحت مأمونة وسريعة في كل مكان تقريبا، وهبطت أسعار السلع بسبب انخفاض أجور النقل.

ومن جهة أخرى، فنحن نرى الآن كيف أن فكرة الحقوق المتأصلة في الطبيعة الإنسانية أضحت مقبولة على العموم

نعم مقبولة، ولكن لفظا وخداعا، حتى عند أولئك الذين يسعون في اجتنابها فعلا. فلماذا لم تتحسن حال الشعب؟ ولماذا نرى استهلاك المنتجات بدلا من أن يكون مقسطا على السواء بين جميع أعضاء المجتمع الأوربي نراه محصورا في أيدي فئة قليلة تكّون أرستقراطية جديدة؟ ولماذا نرى الانتعاش الذي أصاب التجارة والصناعة لم يود إلى يسر الأكثرية، بل إلى ترف الأقلية؟

إن الجواب يتضح لأولئك الذين ينعمون النظر قليلا في الأشياء. فالناس نتاج التربية. وهم في سلوكهم يصدرون عن مبدأ التربية الذي طبعوا عليه؛ فالرجال الذين ألهبوا نيران الثورات حتى اليوم إنما أثاروها بوحي فكرة حقوق الفرد. وها قد حققت هذه الثورات أمنية الحرية: الحرية الشخصية، وحرية التعليم، وحرية الاعتقاد، وحرية التجارة،؛ بل الحربة في كل شيء ولكل إنسان ولكن ما فائدة إعلان الحقوق لمن لا يملك وسيلة لاستخدامها؟ وماذا تعني حرية التعليم لأولئك الذين لا يجدون وقتا أو واسطة للانتفاع بها؟ أو حرية التجارة لمن لا يملك شيئا يتاجر به، لا راس المال ولا النسيئة (الائتمان)؟ بل لقد حدث في جميع البلاد التي أعلنت فيها هذه المبادئ إن المجتمع كان يتكون من فئة كانت تملك الأرض وتحوز النسيئة وراس المال ومن جماهير غفيرة لا تملك غير أيديها، وكان عليها أن تزاول الأعمال الأزمة للطبقة السالفة على أية شرائط حتى يتسنى لها أن تعيش كما كان عليها أن تصرف اليوم كله في الكدح الآلي المطرد الممل. فهل كانت الحرية بالنسبة لهؤلاء الذين قضى عليهم أن يكافحوا الجوع سوى خدعة غادرة وسخرية لاذعة؟ أما لو كان القصد من الحرية شيئا خلاف ذلك، لكان إذن يتعين على الطبقات المترفة أن توافق على تقليل ساعات العمل وزيادة الأجر وتعمل على نشر التعليم المجاني المتماثل للجماهير، كما تسعى في جعل أدوات العمل في متناول الجميع، وان تقدم مكافآت مالية للعمال الذين تثبت كفايتهم ونبل غايتهم.

ولكن لماذا يتعين عليهم أن يقوموا بذلك؟ ألم تكن الرفاهية الغرض الأسمى من الحياة؟ ألم تكن الخيرات المادية مرغوبة قبل كل شيء آخر؟ لماذا ينتقصون من حظهم هم لأجل نفع غيرهم؟ أليس على كل إنسان أن يساعد نفسه قدر ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وإذا ما كفل المجتمع حرية استخدام الحقوق الإنسان لكل من توفرت فيه القدرة على ذلك؛ فيكون حينئذ قد أدى كل ما يطلب منه. أما إذا كان هناك أوربا فرد يعجز بحكم ظروفه القهرية علن استخدام أوربا حق من هذه الحقوق فما عليه إلا أن ينسى حساب نفسه ولا يلوم سواه.

لقد كان من الطبيعي أن يصرحوا بذلك، وفعلا فقد صرحوا به. وهذا الاتجاه العقلي الذي ساد الطبقات المميزة بالثراء والذي تحكم في نظرها إلى الفقراء سرعان ما اصبح الوجهة التي انتهجها كل فرد نحو الآخر. فعنى كل إنسان بحقوقه هو وبترقية حاله دون السعي في إعانة غيره. وإذا اصطدمت حقوقه بحقوق سواه تكون حرب، لا حرب الدماء؛ بل حرب الذهب والخداع. حرب أدنى شهامة ورجولة من الأبد، ولكنها تعدلها في الدمار، ويالها من حرب وحشية لا يألو فيها من وفرت وسائله، وبزت قوته في سحق الضعيف أو الأخرق سحقا لا هوادة فيه. وفي حومة هذا القتال المستعر أشربت قلوب الناس الأنانية، والشره في استلاب خيرات الحياة لذواتها دون غيرها وهكذا كانت حرية الاعتقاد معولا يهدم صرح الإيمان كما كانت حرية التعليم سببا في بث الفوضى الخلقية. أليس من شان الناس إذا فقدوا رابطة مشتركة، وانعدمت من بينهم وحدة العقيدة الدينية، ووحدة الغرض، وصارت الهناءة بغيتهم الفريدة،؛ أليس من شأنهم حينئذ أن يسعى كل منهم في سبيله الخاص دون النظر إلى فيما إذا كان في ذلك عدوان على إخوانه. إخوانه اسما وأعدائه فعلا؟ هذه هي الحال التي صرنا إليها اليوم بفضل (نظرية الحقوق).

يقينا إن الحقوق كائنة؛ ولك حيث تصطدم حقوق فرد بحقوق آخر، كيف نستطيع أن نأمل التوفيق والتسوية بينهما من غير الاستناد إلى شيء أسمى من جميع الحقوق؟ وحيث تتعارض حقوق فرد أو أفراد كثيرين وحقوق الوطن فإلى أية محكمة ندعي؟ إذا كان الحق في الرفاهية في أقصى حدودها يتقسط كل شخص حي فمن ذا يفض النزاع بين العامل وصاحب العمل؟ وإذا كان الحق في الحياة هو أول واقدس حق لكل إنسان، فمن ذا يطلب تضحية هذه الحياة لمنفعة بقية الناس؟ أستطلبونها باسم الوطن أم باسم المجتمع أم باسم فريق من إخوانكم؟ ما الوطن في نظر من أتحدث عنهم سوى البقعة التي نظمن فيها حقوقنا الذاتية كل الظمآن. وما المجتمع سوى مجموعة من الناس الذين اتفقوا على استخدام قوة الكل لتأييد كل فرد؟

وهل بعد أن علمت الفرد مدة خمسين عاما إن المجتمع إلينا يقوم على غرض تأمينه على ممارسة حقوقه، هل بعد ذلك تطلب إليه أن يضحي بها جميعا في سبيل المجتمع وان يستسلم إذا دعت الضرورة إلى الكدح المتواصل أو السجن أو النفي باسم إصلاح المجتمع؟ وهل بعد أن بشرته في كل مكان بان غرض الحياة هو الخير والهناءة، هل بعد ذلك تأمن أن ينصرف عن هذا الخير بل وعن الحياة نفسها ليحرر وطنه من الأجنبي أو أن يجهد في إسعاد طبقة لا تربطه بها صلة؟ وكيف بعد أن تحدثت إليه أعواما عن الفوائد والمصالح المادية تستطيع أن تحرم عليه وقد ألفى الثروة والجاه في متناول يديه أن يمد تينك اليدين ليأخذ حظه منهما حتى ولو كان في ذلك ضرر لإخوانه؟

أيها العمال الإيطاليون. ليس ذلك من خواطر فكري المجردة عن حقائق الواقع بل هو تاريخ عصرنا نحن. ذلك التاريخ الذي تسيل على صفحاته دماء الشعب. سلوا جميع الرجال الذين حولوا ثورة سنة 1830 إلى مجرد تغيير طائفة من الأشخاص بأخرى. بل وان شئتم مثالا فأنهم اتخذوا من جثث إخوانكم الفرنسيين الذين راحوا ضحية قتال (الثلاثة أيام) مدارج يرتقون عليها إلى عرش العظمة والسلطان. إن جميع مبادئهم إلى ما قبل عام 1830 كانت تقوم على تلك النظرية العتيقة نظرية حقوق الإنتاج لا على عقيدة الإيمان بواجباته. إنكم تدعونهم خونة مارقين، ولكنهم في الحقيقة لم يكونوا إلا مصدقين لنظريتهم مستمسكين بها. فجاهدوا اخلص الجهاد ضد حكومة شارل العاشر لأن تلك الحكومة كانت شديدة العداء للطبقات التي نشئوا منها حتى انتهكت حقوقهم وبالغت في حرمانهم منها، وحاربوا باسم الرفاهية التي لم ينعموا منها بالقدر الذي ظنوا أنه يجب أن ينعموا به. فعذب البعض بسبب حرية الفكر. ووجد آخرون من ذوي العقول الجبارة أنهم منسيون مبعدون من الوظائف التي يشغلها ناس دونهم كفاية. ثم زادتهم مظالم الشعب حرقة وغضبا، فشرعوا يكتبون في جرعة وإيمان عن الحقوق التي تلزم لكل إنسان. بيد أنهم لما آمنوا على حقوقهم السياسية والفكرية، وانفتح أمامهم سبيل الوظائف، وتحققت لهم الرفاهية التي سعوا من اجلها حينئذ نسوا الشعب. نسوا إن الملايين التي تقل عنهم ثقافة وطموحا. كانت تجاهد لتقرر حقوقا أخرى، وتحقق هناءة من نوع آخر، واخلدوا إلى الطمأنينة، ولم يعودوا يهتمون بأحد غير أنفسهم. لماذا تدعونهم خونة. أليس الأجدر أن تدعوا نظريتهم نظرية غادرة؟

(البقية في العدد القادم)

عامر عبد الوهاب