مجلة الرسالة/العدد 677/أصول الكلمات
مجلة الرسالة/العدد 677/أصول الكلمات
للأستاذ عباس محمود العقاد
قرأت في (الثقافة) الغراء مقالا للكاتب الفاضل الأستاذ محمد فريد أبى حديد بعنوان (القواص المذهب) قال فيه:
(وكانت وظيفة القواص بسيطة جدا تتلخص في أن يقف ذلك الموظف على باب سيده الباشا الكبير، أو الحاكم الجليل لابسا ملابسه الزاهية الموشاة بالقصب الذهبي اللامع. ويحرص على أن يربي شواربه حتى تصير مثل الحبال الطويلة، ثم يبرمها برما شديدا ويشدها بالأذهان حتى تصير مجدولة ترفع طرفيها كالحراب، فيصبح منظره بهذا مهيبا يقع في النفوس موقع الرهبة؛ وصارت هذه الشوارب موضع تفاخر القواصين).
وقد التزم الأستاذ أبو حديد كتابة الكلمة في الأفراد والجمع بالصاد كما رايت، ولعله لاحظ في ذلك لهجتها التي كانت تلفظ بها وحروفها التي كانت تكتب بها في عهد الدواوين التركية، لان وظيفة (القواص) كما وصفها الأستاذ هي الوظيفة التي عرفت بين المصريين وغيرهم من الأمم التي شملتها دولة الخلافة العثمانية في أواخر أيامها. فلم يكم (للقواص) عمل غير الوقوف على الأبواب ولم تزل الكلمة تقترن بأصحاب هذا العمل من الترك والارنؤود والشراكسة حتى حسبت من كلمات اللغة التركية، وكتبها بعضهم في أوربة كما كان ينطقها الترك كفاش ولكن الكلمة على التحقيق عربية من بقايا الدولة العباسية، لان القواسين كانت طائفة من طوائف الجند يحملون الأقواس كما كان اسليافون يحملون الاسياف، والنبالون يحملون النبال، والرماحون يحملون الرماح. ولك يكن عمل القواس في أول عهده مقصورا على الوقوف بالأبواب والأذن لطلاب المثول بين أيدي الأمراء والرؤساء، ولكنه كان يتقدم الأمير في مواكبه أو يخرج بين يديه كلما خرج للصيد أو في محافل العرض العسكري ليحمل له القوس التي يصيد بها أو يستخدمها في الرماية؛ لان الأمير كان يتقلد سيفه ولا يعهد في حمله إلى غيره كما يفعل بالأقواس والرماح.
وكان قادة الجند في أواخر عهد الدولة العباسية من الترك والديلم فاحتفظوا بمراسم الأمارة حتى قامت الدولة العثمانية ونقلت خلفاء المسلمين وأمرائهم من قبلها بعض مراسم الإمارة والحجابة، ومنهامشية القواس بين يدي الأمير ووقفته على بابه وقيامه قواسا بغير قواس بعد أن أغنى عن حامل البندقية والطبنجة، بل بعد أن اصبح القواس نفسه يحمل الطبنجة في حزامه، ولا يعرف ما القوس وما الرماية بالسهام.
وهكذا تعيش الكلمات احيانا، وتفنى الدول والإمارات وما اقترن بها من المعالم والأشياء.
على أن الرجوع بالكلمات إلى أصولها يمضي بنا بعيدا في مجاهل النقل والاستعارة. فإننا نذكر القواس والرماح والسياف ونعلم أن السياف حامل السيف، وان السيف كلمة عربية قديمة من ساف ماله أي هلك كما قال ابن دريد. ولكن بعض الأدباء ينكرون على ابن دريد هذا التعسف في رد الكلمة إلى ساف يسيف ويقولون إنها يونانية الأصل من سيفوس التي حذف منها العرب آخرها كما يفعلون بكثير من أواخر الكلمات وان العرب اخذوا كلمة الحربة من العبرانيين، وهي عندهم من حرب معنى الخرب أو الخراب.
قلت: لا ضير على العرب أن تنقص من لغتهم كلمة بمعنى السيف فقد تغنيهم عنها مئات الكلمات، ولا ضير أن يفقدوا (خربة) واحدة فعندهم الصحراء بل الصحارى التي لا يقدر عليها أحد غير أبناء يعرب وقحطان.
إلا إن الكلمة التي لا يفرط بها العرب ولو كان لهم من اصل معناها ألوف الكلمات هي كلمة (العقل) التي ظن الأب انستاس الكرملي إنها متحولة من اللاتينية فقال في مجلته لغة العرب: (. . . ذكر صاحب تاج العروس سبب تسمية العقل بهذا الاسم وسر اشتقاقه أو اصل اشتقاقه من مادة عقل فقال ما هذا حرفه: واشتقاقه من العقل هو منع لمنعه صاحبه مما لا يليق، أو من المعقل وهو الملجأ لالتجاء صاحبه إليه، كذا في تحرير لابن الهمام. وقال بعض آهل الاشتقاق: العقل اصل معناه المنع ومنه العقال للبعير سمى به لأنه يمنع عما يليق. قال:
قد عقلنا والعقل أي وثاق - وصبرنا والصبر مر المذاق
وقد راجعنا كتب كثيرة في هذا المعنى فرأينا أصحابها لا يخرجون عن القول بأحد هذه الآراء. ونحن لا نرى هذا الرأي، والذي عندنا أن اصل معنى العقل هو العين لأنه عين النفس وباصرتها. ثم مات المعنى المادي وبقى المعنى المجازي، يشهد على ذلك أن اللاتين يسمون العيون والعقل باسم واحد، وهو عقل. .).
كذلك قال الأب انستاس. وقد عقب عليه الأستاذ روكسي ابن زائد العزيزي معلم العربية بكلية ترسانته بالقدس في مجلة الأديب البيروتية فقال: (فلو قلنا أن العرب قالوا: عين القلب. ثم نحتوا من الكلمتين كلمة واحدة - عقل - لما أبعدناعن الصواب. ولو سايرنا ما ذهبتم إليه وقلنا أن العقل من عق لكان مقبولا، لان العقه هي البرقة المستطيلة في السماء، وهل العقل إلا وميض النفس وعين القلب؟).
ثم راح يقول: (ويقال عق بالسهم إذا رمى به نحو السماء وذلك السهم العقيقة. . . قال الجوهري:
عقوا بسهم ثم قالوا صالحوا - يا ليتني في القوام إذ مسحوا اللحى
وذلك السهم يسمى العقيقة وهو سهم الاعتذار، وكانوا يفعلونه في الجاهلية، فان رجع السهم ملطخا بالدم لم يرضوا ألا بالنقود؛ وان رجع نقيا مسحوا لحاهم وصالحوا على الدية).
قلنا: والعقل براء من كل هذه الفروض والتخمينات في حرفه ومعناه؛ إذ ينبغي قبل أن نفرض النقل من اللاتينية أن نفرض استخدام الكلمة في لغتها الأصلية بهذا المعنى، ونفرض خلو اللغة العربية مما يقابلها، ونفرض خلو اللغة العربية مما يقابلها، ونفرض الوسيلة التي يتم بها النقل من طريق السماع أو الكتابة، ونستبعد - عقلا - أن ينشأ معنى العقل من معنى العقال، وهو غير بعيد. . . بل هو اقرب شيء إلى ذهن العربي الذي يوازن أبداً بين حالتي الانطلاق وحالة الاعتقال،
الانطلاق وحالة الاعتقال، ويتحدث عن كبح الشهوات وكظم الغيظ، ويستعير الحجر في مادة أخرى من الحجر وهو المنع والتقييد. وصدق المتنبي حيث قال:
وبعض العقل عقال
والحجر كما لا يخفي هو العقل، والحجر كذلك هو المنع، كما في عقل وعقل بلا اختلاف.
فلماذا نرجع إلى العقل المنحوت من عين القلب أو نرجع إلى العقل المأخوذ من الكلمة اللاتينية وهي لم تطلق على هذا المعنى قط في أصلها الأصيل؟ ولماذا نأبى أن يكون الرجل العاقل هو الرجل الذي يملك زمام نفسه، فلا يندفع مع الأهواء والشهوات؟ وأي شيء أقرب شبها للعقل الزاجر عن الأهواء والشهوات من عقال البعير، ولجام الفرس، وكل كابح عن كل اندفاع؟
عرضنا لهذا التخريج في بعض المجالس فقال أديب: إذن هذا الكرسي مأخوذ من شير الإنجليزية.
وقال آخر: لا بل هو مأخوذ من كر ومن رسا، لأن الإنسان يرسي على الكرسي بعد الكر والتعب.
وقال آخر: بل هو مأخوذ من جلس، ثم صحفت الجيم كافا واللام راء، وهو قريب في مذهب التصحيف وقال غيرهم: بل هو مأخوذ من الكراسة، لن الإنسان يجلس إذا أراد الكتابة فيها.
وطال التصحيف والجناس على هذا القياس فلم يبلغ أحد منهم في هزلة مبلغ الجادين في رد العقل إلى عين القلب أو إلى كلمة قديمة في لغة اللاتين.
فحذار حذار من مراجعة الأصول بغير الأصول، وخير لنا أن نقنع بالفروع إذا كان الرجوع إلى الأصل ينقطع بنا في هذه المتاهة بغير دليل.
ونحن في أمان حين نقنع الآن بالرجوع من الصاد إلى السين في اسم القواس. فلم يبقى لهذه الوظيفة ما يخاف في اسم ولا في مسمى بحمد الله.
عباس محمود العقاد