مجلة الرسالة/العدد 675/كتب قرأتها:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 675/كتب قرأتها:

ملاحظات: بتاريخ: 10 - 06 - 1946



الأدب الشعبي اللبناني

للأستاذ حبيب الزحلاوي

يطيب للنفس في بعض الأحايين أن تنضو ما عليها من أردية مستعارة لتنعم بساعة من وجودها النقي الأول، كما يحلو للذهن أن ينحى عنه شواغله وينفلت من قيوده ليغتبط ببرهة من هدوء تعود به إلى عهد البراءة الخالصة يوم كان خلياً من متاعب الحياة.

ألم نلتفت مرة إلى أنفسنا وقد لقيناها تعود من سبحات لا هي يقظات واعية ولا هي هجعات غافية نجد في غضونها الراحة والهناءة؟

ألم نر رجلاً من ذوي العقول الراجحة والاتزان الصحيح يطمئن إلى صحبة من هو دونه بمراحل استجماماً لذهنه وترفيهاً عن نفسه؟

أليس الأدب الشعبي عوداً على بدء الفطرة للتعبير عن المشاعر والغرائز بلغة البداهة الساذجة؟

لعلي بهذه المقدمة أستطيع أن أغري القارئ بعودة ذهنية إلى خميلة من خمائل الطبيعة الفطرية نكشف بها عن ناحية من جمال أدب شعبي لشاعر لبناني من زحلة يدعى أميل مبارك قصر أغانيه على الضيعة.

للضيعة اللبنانية طابع خاص يختلف عن طوابع القرى في أغلب الأقطار والأمصار، كما أن للريف اللبناني ميزة تميزه من بقية الأرياف، فلا غرو إذا خصه شاعر بأغانيه ووقف على وصفه ديوانه (أغاني الضيعة).

يمتاز الأدب الشعبي اللبناني بخلال طبيعية ومزايا اجتماعية، وأوصاف محلية قل أن تتوافر لأدب شرقي سواه.

يمتاز بالحنين وإثارة الوجدان، لأن أكثر من نصف أهالي لبنان يعيشون في مهاجرهم النائية عن الوطن، ولأن هاتيك المهاجر لم تقو ولن تقوى على أقلمة اللبنانيين ومزجهم بها في الروح والشعور والخلق.

ويمتاز أيضاً بالبقاء لسهولة حفظه وعذوبته في الإنشاد الجماعي، واشتراك المرأة في تذوقه، ولجمعه بين الوجدان والعاطفة ولطابعه الدال على كيانه اللبناني الفريد، وعلى الحرص على إبراز هذا الكيان في المهجر.

ويمتاز أخيراً بالنقاء من شوائب اللهجات والتعبيرات المجاورة للحدود اللبنانية، بمحافظته على المفردات العامية والاصطلاحات التي تتقارب قليلاً، ولا تتباعد كثيراً بين قرية وقرية سواء أكانت في الجنوب أم في الشمال، بصوره المنقولة نقلاً حسياً عن جمال طبيعي من صنع المجهول لجبال وأودية وينابيع وغدران وأشجار وأثمار وأطيار ندر وجود ما يضارعها في فتنتها الساحرة وجمالها الأخاذ في أنحاء هذه الكرة الأرضية، وفي رسم عادات أهل الضيعة، وطبائعهم وسذاجتهم وبساطتهم في حياتهم القريبة من البدائية.

مشتاقْ أرجعْ للضيعة ... مشتاق كتير

إتعمشقلي بشي تينه ... وصيد عصافير

عنت عَ بالي الضيعة ... وياما مشتاق

عبِّي السلة بكوعي ... وحوِّش جرجير

قد يجد غير اللبناني بعض الصعوبة في فهم الكلمات لارتباطها بحروف أو لإدغامها في حروف أخرى، ولكن بيسير من إعمال الفكر تدنو المعاني من الإفهام، لأن الكلمات ليست بدخيلة على اللغة ولا هي ببعيدة عن أصول آدابها.

نحن نرى أن البيت الأول واضح كل الوضوح لكل قارئ أما البيت الثاني فقد استعمل الشاعر كلمة (تعمشق) بمعنى (تسلق) وفي البيت الثالث كلمة (ع بالي) المحذوفة منها بعض الحروف بمعنى (على بالي).

مشتاق ارجع عالضيعه ... شوفْ رفاقي

واسرحْ بمروج الخُضرةُ ... وجو الناقي

واسمع دجاجات ستي ... عمبِتقَاقي

ورافق جدي وبقراتو ... واحّملوا النير

يجب أن نلاحظ أن أكثر أهالي لبنان يلفظون القاف بصحيح مخارجها، بعكس الكثيرين من أهالي مصر والشام يلفظونها همزة، أما أهالي حلب فيلفظونها (آف) مفخمة.

كِنتْ صغير، وصرت كبير ... برمت قطار المسكوني

غني عشت، وعشت فقير ... وشفت كتير بزماني وما عا بالي بيعنّ ... غير البيت الرباني

بهذه الكلمات الموجزة البسيطة يعبر الشاعر عن خلجات صدر كل لبناني كان في الأصل صغيراً يوم ترك قريته في طلب الرزق، ثم صار كبيراً وقد جاب أقطار الأرض، وعاش فقيراً ثم غنياً، ورأى الكثير من دهره، ولم يبق ثمة من شيء يخطر بباله سوى البيت الذي نشأ فيه، ودرج منه، ليعود إليه، ولو يدب إليه دبيباً.

مَحْلا الضيعة والرزقات ... والراعي وصوت العنزات

ومحلا خرير الشلالات ... تحت سلاح السندياني

يا هل ترى بَرْجع بعد ... بَسْكن بيت الرباني؟

محلا الضيعة محلاها ... محلا مناخا وهواها

كيف ما بدِّي أهواها ... يلاّ الهجر كفاني

راجع يا بيتي مشتاق ... بَهْواك وأنت بتهواني

يقام حتى هذه الساعة، أسواق للأدب الشعبي تعقد حلقاتها في الساحات العمومية، يؤمها الناس من الجنسين من كل حدب وصوب يستمعون مباراة الزجالين ويشتركون معهم في الهزيج والإنشاد. وتمتاز هذه الاجتماعات العامة بميزة الارتجال التي لا أحمدها كثيراً لاضطرار مرتجليها إلى الارتكان على الذكاء وحده دون الروية والتبصر. وقد حدثونا عن إحدى هذه الحلقات وقد حضرها الدكتور طه حسين بك فقال الزجال مرتجلاً

وحياتك يا طه حسين ... مِنْي عاوز التِّنْتين

عين الواحدة تكفيني ... خد لك عين وخلي عين

أما الزجال أميل مبارك صاحب ديوان (أغاني الضيعة) فهو نسيج وحده، لا يحتذي سواه من الزجالين، بل ينظم القصيدة في شهر أو في شهور، وما يزال بها نحتاً وصقلاً، تارة في تنحية الكلمات الذاهبة في الأدب مذهب المثل، وتارة في استبعاد الكلمات العامية التي صارت شبه منسية أو هي في حكم المندثرة الحوشية، حتى يبلغ الغاية من الرضى عنها. ويكفيه أن ينشدها مرة واحدة حتى تتلقفها الآذان، وتتداولها ألسنة الناس إنشاداً، وينقلها البريد إلى كل صوب يأوي إليه لبناني في بقاع الأرض

اشتقت لزقزقة العصفور ... ولريحة هوا بلادي بدي أرجع لمّ زهور ... عن حفة نهر الوادي

ربينا سنين وربينا شهور ... بالوادي بين الصخور

ربينا وكان يجي العصفور ... يشاركنا عَ الزوادي

كم لمشاركة العصفور على الزاد من سحر روحي جذاب قد لا يستعذبه سوى أليف الضيعة والمرهف الحس!

لا يشغل الغزل حيزاً واسعاً في ديوان (أغاني الضيعة) المتواضع، فكأن الحنين إلى المكان ألهى ناظمه عن السكان، وكأن حرصه على ذكر الدالية بعناقيدها، والتينة بما على فروعها من أعشاش، والعليق المتشابك عند الغدير، وتشوقه إلى قطف (كبوشه) أي عناقيده المزة الطعم، والصفصافة المنحنية الأغصان، والالتفاتات الكثيرة إلى ما جل ودق في طبيعة أشياء وأشخاص الضيعة من جرود وسهول وجبال إلى البقرة والعنزة والدجاجة، أنساه عنصر الحياة الأول، عنصر المرأة، وهي سر الغريزة الحقيقي، لا نسياناً كلياً، ولكنه توسل به توسلاً عرضياً فجاء وكأنه يستغني بالتلميح عن التصريح.

لما شافتني تنهدت بدون حَكِي ... ورغرغت بالدمع قصدا تشتكي

واحمر ورد خدودها وبكيت خجل ... ومن غصّتي ما قدرت قلها شو بِكي

لنلاحظ أن النظرة هي التي عطلت لغة الكلام، وأن الخجل هو الذي أحنى الرأس، وأن الغصة اشتركت مع النظرة في تعطيل اللسان فخفق القلب.

ضميت واقف وهي كمان وقفت معي ... رحنا ما قلنا رْجاع ولا ارجعي

وتنينا بها الوقت كنا بلا وعي ... عرفنا شو حكيو قلوبنا من التكتكي

فهذه الصورة على ما فيها من بساطة التصوير الرائع لاضطرابات النفس وخلجات الوجدان ونبضات الغرائز تماثل الصورة التالية وهي أكثر إمعاناً في سذاجتها وأدق في براءتها.

قديش كنا نروح ع دْروب الهوا ... وكبوش شِنْا محببي نقطف سوى

وكل ما حكينا ينقِّزنا الهوى ... قديش كنا نخاف لمح خيالنا

قديش كنا نروح نلعب بالحقول ... ونفرفط الزعرور ونفز الجلول

وقديش كان بَيَّك لبييِّ يقول ... بعدو ولدْ لا تضربوا كرما لنا كم من مرة ذهبنا إلى الحقول وتخطينا الحواجز لنفرط الزعرور؟ وكم كان يقول أبوك لأبي دع ولدك إكراماً لي ولا تضربه لأنه لم يدرك بعد.

لناظم ديوان (أغاني الضيعة) ميول بينة إلى تسجيل كل ما يحيط بحياة القرية اللبنانية من ظواهر جوية وتغييرات مردها إلى تبدل فصول السنة وهي جد مضبوطة في ربوعه يعرفها قطانة باليوم الواحد يعدون لها العدة، ويرى طوالع الشتاء في فصل الخريف. . .

تجمعوا النحلات ورجعوا للقفير. . . . . . . . . . . . . . . . . .

والشمس بردوا حبالها، وناص القمر ... والميْ شحت ما بقى لها خرير

بردت أشعة الشمس وقل ضوء القمر، وشحت المياه وقلت، وعاد النحل إلى قفاره لأن البرية تتعرى في الخريف.

ويستقبل الشتاء بابتسامة المتأهب:

محلا الشتا ومحلا البرد ... لو عندك موني تكفاك

وندف الثلج وطق الشرد ... والقعدة حدّ الشباك

ومحلا الهوا بقلب الغاب ... ومحلا الكبوة حد النار

والرعد وطرق المزراب

وهو يتشوق إلى نسيم الصيف من خلال زهور الحقل في فصل الربيع.

رجع عالعش العصفور ... عا لحقلَهْ طار الفرفور

المرجة فرشت أرضا زهور ... تانيّم قمر نيسان

وبتشوف الندى بنيسان ... عا مدَى السهل وطولو

بتحسِّب فوق الريحان ... الدنيا مشتَّابي لولو

على مدى السهل، ترى الندى فوق الريحان في شهر نيسان كأنه اللؤلؤ أمطرته السماء.

يعلم الشاعر مبارك أن عدد القاطنين جبال لبنان اليوم يساوي عدد المهاجرين المتناثرين في أميركا الجنوبية والشمالية وفي المستعمرات البريطانية وسواها، ويعلم أيضاً أن لا سبيل ألبته إلى عودتهم إلى قراهم إلا بالتحبيب والتشويق والتذكير، ولم يتوسل بالموازنة بين مدن يسكنونها وهي عامرة، وبين مساقط رؤوسهم وهي شبه مقفرة، ولا بالمقارنة بين عواصم نزلوا بها وبين مباءات طفولتهم ومعقد ذكرياتهم، بل ابتكر طريقة حوار وسؤال بين لبناني مقيم وبين لبناني مهاجر:

بتسألني شو في عندك ... بالضيعة، تنّك مهم

عندي أحسن ما عندك ... عندي بَسْطٌ وعندك هم

عندي البيت الرباني ... والمعبور ودروب الكرم

عندي قدحة وصوّانة ... والضبوة وتتنات الغرم

عندي البيت الذي ربيت فيه، وعندي الطريق الموصل إلى كروم العنب والتين، وعندي أيضاً عدة التدخين عامرة بالتبغ وقداحة الشرارة.

في عندي القعدة بكِّير ... تحت صنوبر ضيعتنا

وترويقه قُرَّه وجرجير ... بتسوي العيشة وغربتنا

عندي أن الجلوس في الصبح الباكر تحت ظلال الصنوبر وتناول طعام الفطور من الجرجير والقرة وهي من فصيلة الجرجير إلا أنها حريفة يساوي حياة بأكملها نقضيها في الاغتراب.

يا ما عبينا السلة ... تين أسود من تينتنا

يا ما لعبنا عالتلة ... نِحْنا وبنات جارتنا

كم ملأنا السلة من التين، وكم لعبنا على الربوة مع البنات ويعود أيضاً فينطق اللبناني المهاجر فيصور خلجات صدره وأمنيات نفسه ويقول:

بعد بيفتح درب البحر ... ولبنان بشوفلو صوره

تخمين برجع للرزقات ... ويعيش عيشة مستوره

وبرجع بفني فراقيات ... عا عنات الناعورة

ترى يسهل ركوب البحر فأعود أرى لبنان مرة ثانية؟ ترى أعود إلى بيتي وكرمي اكتفي بالعيش الهنيء؟ أتراني أعود أخيراً إلى ضيعتي أسمع صرير الساقية فأتخذ منه لحناً للغناء والتذكر بالأحباب المفارقين وطنهم؟

هيهات!! تلك أمان تختلج في فؤاد المهاجر، ولكن مغالبة الحياة، وزحمة العمل، والتقيد بروابط الزواج والنسل تهدئ حركة تلك الخلجات، وتخفف من اضطراباتها. أما وما برحت أبواب الهجرة مفتوحة للبنانيين، وما دامت المدينة اللبنانية تجذب أبناء الضياع إلى حواضرها لتلفظهم من جديد إلى ميادين رحبة في طلب الرزق، فإن الزجال اللبناني سيجد المعين الغزير الذي يبعث فيه روح الحنين والشوق فينشد القصائد الحية كما أنشدها أميل مبارك في (أغاني الضيعة).

حبيب الزحلاوي