مجلة الرسالة/العدد 674/وعينا القومي ينضج مثال في سورية ومثال في
مجلة الرسالة/العدد 674/وعينا القومي ينضج مثال في سورية ومثال في
شرقي الأردن
يخطئ من يقيس تقدم أمة أو تأخرها بما يشاهد من حال السابقين منها أو المتخلفين عنها؛ فإن من سبق إنما سبق بإعجازه، ومن تخلف إنما تخلف بعجزه؛ والإعجاز والعجز من الشذوذ الذي لا يسبب حكماً ولا يبني قاعدة. إنما يصح القياس بحال الكتلة التي ظلت متماثلة في اللون والكثافة والحركة بعد أن انفصلت منها قطعة إلى الأمام، وانخزلت عنها قطع إلى الوراء؛ لأن هذه الكتلة تمثل القدر المشترك من الشعور والإدراك والوعي والقلق والطموح والاندفاع؛ فرأيها هو الرأي العام، وأمرها هو الدستور الحاكم، ووحيها (هو السياسة القومية، وغضبها هو الثورة الوطنية، ورضاها هو السلام الدائم. والحكم على الأمة العربية - لمن يحلو له أن يحكم - يجب أن يكون، بناء على هذا القياس أو الأساس، قائماً على حركات كتلتها العجيبة التي ما فتئت منذ مؤتمر فرساي تتقارب وتتضام وتتماسك وتتحد على الرغم من الأسباب المفككة والعوامل المهلكة التي ابتليت بها من سفه الأحزاب السياسية في الداخل، وطمع الدول الاستعمارية في الخارج.
كانت هذه الكتلة الممزقة فاقدة الوعي حين أراد محمد علي إحياء الإمبراطورية العربية؛ وكانت فاقدة الوعي حين ثار أحمد عرابي على العناصر الأجنبية؛ وكانت فاقدة الوعي حين دعا مصطفى كامل إلى الفكرة الوطنية؛ ولكن وعيها القومي أخذ يتنبه حين زلزلت الأرض قنابل الحرب العالمية الأولى، فثارت الجزيرة وسورية والعراق على استعباد الأتراك، وتمردت مصر على احتلال الإنجليز، واستجابت الأمة العربية جمعاء لدعاء الحرية هنا وهناك، وسارت وراء قادتها بخطى الواثق المطمئن، فأضلوها السبيل، وأوردها السراب؛ ولكنها استفادت من كلال السير ووعوثة الطريق وسعار الظمأ، بنصراً في الوعي، وقوة في الموازنة، وصدقاً في التمييز، وصحة في الحكم؛ فلم تكد الحرب العالمية الثانية تنطفئ حتى أمام زعمائها تلهمهم فيقولون، وتأمرهم فيفعلون، وتوجههم فيتجهون. ومتى عرفت الأمة نفسها، وأحست نقصها، وتبينت قصدها، أبت على ولاة أمرها أن يدلسوا عليها الرأي، ويموهوا لها الباطل، ويقنعوها بما دون الحق. وفيما يجري الآن في مصر وفي وغيرها من الحوادث، ويذيع في المجالس والصحف من الأحاديث، شواهد صادقة على اتساع الوعي القومي في نفوس المصريين والعرب تثب في عين المنكر إذا وازن بين ما كانوا عليه وبين ما صاروا إليه. كان الساسة الذين احترفوا الوصاية عليهم يفاوضون في أمورهم، ويعاهدون على مصيرهم، دون أن يحفلوا لهم برأي، أو يرجعوا إليهم بخيرة، وإن زعموا أنهم استشاروهم فأشاروا، وخيروهم فاختاروا! وهم اليوم يفاوضون تلك المفاوضة، ويراجعون تلك المعاهدة، ولكن الأمة التي وضعت المبادئ، وحددت المطالب، وأملت الخطط، وقدرت العواقب؛ فليس لمفاوض أن يقولها ما لن تقل، ولا الحاكم أن يريدها على ما لم ترد!
وهل نسيت يوم الجلاء في سورية؟ وكيف تنساه أذن الحي ولا تزال أناشيده وزغاريده تدوي في سمع الزمان؟ جلت جنود الاستعمار عن أرض سورية العزيزة، فاهتز العالم العربي اهتزاز الغبطة، واعتز اعتزاز النصر؛ وشعر كل فرد من أفراده، في مختلف بلاده، أن فريقاً من أهله تحرر من القيد، وأن جزءاً من وطنه تطهر من المغير؛ وأقبلت وفود الدول العربية تشارك دمشق في الاحتفال بإقامة العرش الأموي بعد أن خرت قوائمه وابتذل حماه؛ وقال العراق لمصر: ذلك يا أختاه هو الجلاء الذي يكشف الضر، والاستقلال الذي يرضي الحر، فمتى يكون لنا ولسائر أقطار العروبة مصير كهذا المصير يوم كهذا اليوم؟!
ذلك مثال من أمثلة الوعي القومي العربي تجلى في هذا الحادث الخطير صريحاً غير مشوب، وصحيحاً غير مزيف، فإذا وازنت بين موقف العرب من استقلال سورية، وموقفهم من استقلال شرقي الأردن، فلن يخامرك بعد ذلك شك في أن الأمة العربية الكريمة إنما تصدر عن وعي بصير، وتنقل عن شعور صادق.
فاوضت إنجلترا شرقي الأردن مفاوضة الند للند، ثم منحته الاستقلال التام، وعقدت بينها وبينه معاهدة الشرف والفخار، ثم رفعته من الإمارة إلى المملكة، واحتفل إخواننا الأردنيون بمبايعة أميرهم العظيم عبد الله بن الحسين ملكاً عليهم، فزاد ملوك العرب ملكاً، وزادت ممالك العروبة مملكة. وكان هذا النبأ العظيم عن هذا النصر الأعظم جديراً بأن يزلزل النفوس من الفرح، ويبح الحناجر من الهتاف، ويدمي الأكف من التصفيق، ويحشد جيوش العرب في ميادين عمان، ويدعو شعراء العرب إلى منابر عمان، ولكن هذا النبأ العظيم سرى به البرق، وتموج به الأثير، وكأنما ضرب الله على الآذان فلم تسمعه، وختم على القلوب فلم تنفتح له! واحتفلت عمان وحدها بيومها التاريخي المجيد احتفالاً رسمياً لا روعة له ولا بهجة فيه. ذلك لأن العرب الذين لا ينفكون يسخرون من استقلال مصر، ويهزؤون باستقلال العراق، قد سئموا هذه المظاهر الكاذبة، وأنكروا هذه الألفاظ الفارغة، وكبر عليهم أن يشاطروا إنجلترا السرور بافتلاذ قطعة من الوطن العربي لا يزيد عدد سكانها عن خمس سكان القاهرة، لتجعلها وكراً للاستعمار يثب منه متى شاء علينا أو على من حوالينا من الأمم المطمئنة الوادعة.
أليس الوعي القومي هو الذي جعل العرب يميزون بين استقلال سورية واستقلال شرقي الأردن؟ أليس الوعي القومي هو الذي جعل لإنجلترا من جامعة الدول العربية، ما جعل الله لآل فرعون من موسى بن عمران؟ آووه وتبنوه ليكون ظهيراً للكفر، ونصيراً للظلم، ووزيراً للاستبداد، فكان لهم نذيراً من الله، وداعياً إلى الحق، وبشيراً بالحرية؟
أليس الوعي القومي الذي ولد صاحب الجلالة الفاروق في صحوته، ثم ترعرع وشب ومللك في ضحوته، هو الذي ألهمه أن يوطد أساس الجامعة العربية باجتماع الملكين في رضوى، وأن يوثق الوحدة العربية بمؤتمر الملوك والرؤساء في إنشاص؟
بلى، هو الوعي القومي الذي تيقظ واستبصر في نفوس العرب من ملوكها ورؤسائها، إلى سوقتها ودهمائها. ولن تجد مصداقاً له ولا دليلاً عليه أبلغ من هذا القلق الذي يساور كل نفس، وهذا الامتعاض الذي يرتسم على كل وجه، وهذا الانتقاد الذي يجري على كل لسان. كل امرئ يريد التغيير، وينشد الكمال، ويطلب الأحسن، وكل امرئ يحاول أن يفرق بين رجل ورجل، ويميز بين عمل وعمل، ويوازن بين مبدأ ومبدأ.
بلى، هو الوعي القومي الذي يذكر العرب اليوم أنهم خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتسارع إلى الخير، وتتعاون على البر، وتتناصر في الشدة، وتأبى إلا أن تتبوأ مكانها الأول من قيادة الإنسانية. ذلك الوعي القومي هو ضمان النهضة العربية من الانتكاس والردة، وأمان السياسة العربية من الغش والخديعة، ووقاء الوحدة العربية من الشتات والفرقة. فمن حاول بعد اليوم أن يقود الأمة العربية قيادة القطيع ليذبح، أو يسوسها سياسة الخيل ليركب، نبت في يديه كما ينبو المارد في يد الرجل إذا انطلق من حبسه، وامتنعت عليه كما يمتنع الثور على الطفل متى شعر بنفسه.
أحمد حسن الزيات