مجلة الرسالة/العدد 673/التاريخ في سير أعلامه:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 673/التاريخ في سير أعلامه:

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 05 - 1946



ملتن. . .

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. . .)

للأستاذ محمود الخفيف

- 14 -

بين الطغيان والحرية:

تربى جيمس في أسكتلندة تربية بروتستنتية إلا أن هواه كان مع الكاثوليك، ولم يك ذلك بدافع العقيدة فما كان يعبأ مثله بعقيدة. وإنما كان بدافع الرغبة في الاستناد إلى الكنيسة كدعامة من دعائم الاستبداد.

وكان البيوريتانز قد تزايد عددهم في البلاد حتى أصبحوا قوة عظيمة، وكان هؤلاء خارجون على كنيسة إنجلترا لأنها كاثوليكية العقيدة وإن كانت رياستها لملك إنجلترا منذ فصلها هنري الثامن عن رياسة روما.

وقد كان هؤلاء البيوريتانز عند نشأتهم كما رأينا فريقاً من قساوسة الكنيسة الإنجليزية ولكنهم في الواقع أصبحوا يعدون من البروتستانت في ميولهم ومبادئهم ورغبتهم في الإصلاح وأن أطلق عليهم أسم خاص بهم؛ وطمع كل من الكاثوليك المتشيعين لروما والبيوريتانز أن ينالوا عطف جيمس. أما طمع الكاثوليك فلأنه ابن ماري الكاثوليكية ملكة أسكتلندة، وأما طمع البيوريتانز فلأنه تربى تربية بروتستينتية في أسكتلندة وفق الكنيسة البرسبتيرية، ولكنهم جميعاً ما لبثوا إلا قليلاً حتى رأوه يميل إلى نظام كنيسة الدولة كما نشأت في عهد هنري الثامن وتوطدت في عهد اليزابيث.

وأجتمع سنة1604 مؤتمر من قساوسة الكنيسة وممثلي البيوريتانز بغية التفاهم على حل، ولكن ثلاثمائة من البيوريتانز آثروا اعتزال مناصبهم على الاعتراف بكتاب الصلاة الذي تقره كنيسة الدولة. وأعلن جيمس كلمته الشهيرة يومئذ التي أفصح بها عن رغب التمسك بالنظام الأسقفي في رياسة الكنيسة وفروعها وهي قوله: (إن لم يوجد القس فلن يوجد الملك)؛ وتهدد البيوريتانز بطردهم من المملكة إن لم يذعنوا له.

وكان أعضاء البرلمان يميلون إلى البيوريتانية فاشتد غضب أشياع روما عليهم، كما أنهم غضبوا على الملك لتمسكه بنظام كنيسة الدولة فدبروا مؤامراتهم الشهيرة مؤامرة البارود لنسف البرلمان والملك جميعاً، ولكن مؤامراتهم أحبطت إذ نما خبرها إلى الحكومة، وأزيل البارود والفتائل من تحت البناء ولاقى المؤتمرون نكال الملك جزاء بما أجرموا، وحاق بهم سوء ما مكروا فنسف ما بقي لديهم من البارود عدداً منهم، وأصبح أشياع روما موضع سخط الناس جميعاً وكراهتهم وظل الناس زمناً طويلاً يعلمون بحادثة منكرة إلا ردوها إليهم، وظل السذج من العامة ينسبون كل شر يقع مهما كانت صورته إليهم، ولا يزال بعض القرويين حتى اليوم يحرقون تمثالاً رمزياً للبابا في ذكرى هذا الحادث من كل عام.

وعظم ميل الناس إلى البيوريتانية بقدر ما أشتد سخطهم على الكاثوليك، ولكن القساوسة على الرغم من ذلك يوحون إلى الملك اضطهاد البيوريتانز والعطف على الكاثوليك من أتباع الكنيسة الإنكليزية، والتمسك بالنظام الأسقفي، وأصبح هؤلاء القساوسة في نظر البيوريتانز وأنصار الحرية الفكرية جميعاً رمز التعصب الأحمق والاستبداد الغبي، لا يدرون أهم أم الملك أحق منهم بالمقت والازدراء؛ وكان كلما أشتد سخط الشعب على الأساقفة ازداد عطف الملك عليهم وحباهم بالمودة والرعاية وبالغ في التمكين لهم في سلطتهم وتنفيذ ما يشيرون به يكيد بذلك لمخالفيه ويشرح صدور مؤيديه.

وتناصر على الملك وحزبه البرلمان البيوريتانز، ومازالت هاتان القوتان تعملان على مناوأته في ثبات ويقين حتى أدركه الموت سنة 1625، وخلف لابنه شارل الأول العرش والثورة معاً، ولسوف تكون البيوريتانية في عهده أشد خطراً عليه من النزاع الدستوري بينه وبين البرلمان.

واستوى على عرش إنجلترة شارل الأول، وكان في الخامسة والعشرين من عمره، وكان شارل على الضد من أبيه في خلقه فلم يعرف التبذل واللهو، بل كان ملكاً من جميع أقطاره يملأ النفوس هيبة باحتشامه ووقاره، ولم يك ضعيف العزيمة ولا خواراً ولا أرعن الكلم ولا ثرثاراً؛ بيد أنه لم يتوفر له من الثقافة بقدر ما توافر لأبيه منها. وكان البرلمان قد مرن على أساليب المعارضة والمقاومة في عهد جيمس، فلم يك أمام شارل ألا طريقاً واحداً هو مسالمته، ولكنه تنكب هذا الطريق، وبالغ في إعنات البرلمان وأسرف في تمسكه بالحق الإلهي المزعوم، وأصبحت سياسته تنحصر في مقاومة الرأي العام حتى مل الناس، لا يحفلون رضاه أو غضبه.

لم يكد يجتمع أول برلمان في السنة الأولى من حكمه حتى دب الخلاف بينه وبينه، وذلك أن البرلمان لم يمنحه المال إلا بقدر حتى يظل محتاجاً إليه فلا يحله، كما أن البرلمان لم يعتمد له ضريبة التجارة إلا لسنة وكانت للملك طول حياته، وكانت الحرب قائمة بينه وبين أسبانيا فكانت حاجة الملك إلى المال شديدة، وأمدت انجلترة فرنسا ببعض سفنها لتقذف بها أسبانيا ولكن فرنسا قذفت بها البروتستنت في أرضها حيث تحصنوا في ميناء لاروشل فغضب البرلمان وما زال ينتقد سياسة الملك حتى ضاق به الملك فحله.

ولكنه دعا برلماناً جديداً في السنة التالية أي سنة 1626 فاشترط هذا البرلمان أن يزيل الملك أسباب ما يشكو الناس منه وإذ ذاك يجيبه في سخاء إلى ما يطلب من مال. واتهم البرلمان لورد بكنجهام توطئة لمحاكمة أمام اللوردات، وكان أقرب المقربين إلى شارل، وكان بكنجهام هوفلير أحد أصفياء أبيه جيمس من قبله، وكان يعتقد الناس أنه هو الذي يوحي إلى الملك الطغيان ويدفعه إلى محاربة البرلمان، واستشاط الملك غضباً وأمر بالمحرضين على ذلك فألقى بهم في السجن، وامتنع البرلمان عن العمل حتى يطلق الملك سراحهم، وأعلن ألا تجبى ضريبة التجارة إلا بموافقة البرلمان، وأذعن الملك فأطلق المحرضين، ولكن البرلمان عاد إلى اتهام بكنجهام فلم يطق الملك صبراً، وتخلص منه بحله.

وعمد الملك إلى فرض قرض جبري لمواجهة الحرب وأخذ في جمعه بالقوة، وكان يرسل إلى السجن من يرفض أن يدفع، وكان ممن دخل السجن بسبب الامتناع جون همبدن أحد زعماء البرلمان وقد أصر على امتناعه معلناً في صراحة وجرأة أن الملك لا يملك فرض مثل هذا القرض، وزاد على ذلك قوله (أن العهد الأعظم ينبغي أن يقرأ مرتين كل سنة في وجه من يخرجون عليه).

واشتدت الضائعة بالملك، فقد ساقته حماقته إلى خلاف بينه وبين فرنسا وانقلب الخلاف إلى حرب وما تزال الحرب بينه وبين أسبانيا قائمة؛ وأرسل شارل حملة بحرية لمساعدة البروتستنث الفرنسيين (الهيوجونون) في لاروشل، وكانت قيادتها لبكنجهام وباءت بالفشل، فازداد الناس سخطاً عليه وعلى الملك، وراح الملك يجمع القرض الجبري بكل ما في وسعه من عنف حتى لقد ألقى بنحو ثمانين من العلية في السجن ممن حذوا حذو همبدن، أما العامة فكان الجلد جزاء من يمتنع أو الحشد في صفوف الجيش أو في سفن الأسطول، ولم يغني عن الملك بطشه فقل المال في يديه وأيقن أن لا بد من دعوة برلمان ومهد السبيل لذلك بإطلاق من سجن، كما أنه طمع أن يكتسب بذلك مودة الشعب

واجتمع البرلمان الثالث سنة 1628 فافترض حاجة الملك إلى عونه وعاد إلى اتهام بكنجهام، وتحرج الأمر بينه وبين الملك. ثم أعد النواب ملتمساً سموه ملتمس الحقوق، وأعلنوا استعدادهم لإجابة الملك إلى بغيته من المال إذا أجابهم إلى ذلك الملتمس، ووافق الملك فأجابوه إلى ما أراد، ونص الملتمس على أنه لا يحق للملك فرض ضريبة إلا بموافقة البرلمان، وألا يسجن أي شخص إلا وفق القانون، وألا يجعل الجند عالة على الناس، وألا يلجأ إلى الأحكام العسكرية بدل القانون العام، وهذا الملتمس مستمد في روحه من العهد الأعظم، ويعد بعده الوثيقة الثانية لحقوق الإنجليز وحرياتهم.

على أن أشد ما استاء منه الناس هو مسلك الملك يومئذ في سياسته الدينية. أظهر شارل من أول الأمر ميله إلى نظام الكنيسة الإنجليزية، ومع أنه لم يك كاثوليكياُ وفق مذهب روما فإنه كان يكره البيوريتانز كرهاً شديداً ويخاف من تزايد عددهم ويشك في دعوتهم الإصلاحية ويراها ضربا من التطرف لا مبرر له ويميل بالرجوع بالدين إلى مظهره الكاثوليكي القديم.

وحدث أثناء إجازة البرلمان أن قرب الملك إليه أحد رجال الدين وهو وليام لود ورقاه أسقفا للندن، وأخذ يعمل بما يشير عليه به، وكان لود من أشد أعداء البيوريتانز، وكان هؤلاء يمقتونه أشد المقت لتعصبه لنظام الكنيسة الإنجليزية ولميله الفطري إلى الاستبداد بالرأي والقسوة في معاملة خصومه ولضيق تفكيره وفظاظته، وغلظ قلبه، فلما قربه الملك إليه، عد البيوريتانز عمل الملك نذيراً لهم فأجمعوا أمرهم بينهم على مقاومته ومعاندة لود وممالأة البرلمان عليهما، وأصبح البيوريتانز من أكبر المتحمسين في طلب الحرية السياسية، فهي فضلاً عن كونها من مبادئ مذهبهم تعد في رأيهم الآن طريق الخلاص من وليم لود أسقف لندن خصمهم العنيد.

وقتل بكنجهام بيد مغتال لأمر لا يتصل بالسياسة فتنفس الناس الصعداء، وخفف عنهم ذلك مروق ونتورث شيئا قليلاً ودأب الملك في جمع ضريبة التجارة، وعاد الجند يفرضون على الناس لإطعامهم وإيوائهم أينما انتقلوا، ونظر النواب فإذا ملتمس الحقوق لم يبقى فيه من الحقوق شيء.

فلما اجتمع البرلمان سنة 1629 كانت قلوب أعضائه مليئة بالسخط على الملك الذي نقض عهده، وأخذ البرلمان يدعوا إليه بعض المسؤولين ليستجوبوهم عما عدهم مخطئين فيه مما يتصل بحماية ضريبة التجارة فكان عمله هذا تحدياً لإرادة الملك.

وأعد بعض النواب مقترحاً فحواه أن جباية هذه الضريبة عمل غير قانوني فليس على الناس أن يدفعوها، وصاح فيهم رئيس المجلس أن الملك قد أمره ألا يكون موضع مناقشة، ونظر الرئيس فكأنما أنقلب المجلس بركاناً يلفظ الحمم، وصعب عليه أن يتبين ما هز أرجاء القاعة من عبارات صاخبة فمن احتجاج على التدخل الملك في إدارة الجلسة ومن هتاف بوجوب الإصرار على المقترح، ومن صيحات موجهة إلى الرئيس أن ينزل عن كرسيه إلى غير ذلك من مظاهر الغضب والسخط، وذهب بعض النواب فأغلقوا باب القاعة وجاءوا بمفتاحها فوضعوه على المنصة وأنزل عضوان الرئيس عن كرسيه بالقوة وبعض اللوردات وكبار الموظفين يطرقون الباب في غير جدوى إلى أن قرء المقترح ووافق عليه النواب في حماسة عظيمة، ومما جاء في فيه قول النواب (إن من يحدث تغيراً في الدين أو من يفرض ضريبة جديدة أو يدفعها بغير موافقة البرلمان فهو عدو للملكة).

ولما نما ذلك إلى الملك لم يسعه إلا حل البرلمان فحله في اليوم الذي تحدد لاجتماعه بعد هذه الجلسة المشهودة، وأمر الملك فقبض على بعض أعضاءه وأرسلوا إلى السجن، وكان في مقدمتهم سيرجون إليوت صديق همبدن وصاحب المقترح، وبعد مضي بعض الوقت تاب الأعضاء مما فعلوا فخلى سبيلهم إلا اليوت فقد ظل على إصراره. وساءت في السجن حالته ومشى السقم في بدنه فما زاده ذلك إلا عناداً وإصراراً. واقترب منه الموت بعد بضع سنين فما أخافه شبح الموت ولا أوهن له اصطباراً ولقي النائب الشجاع حتفه بين جدران السجن فكان أحد شهداء الحرية، وكان من السهل أن يشتري حياته بإذعانه لمن سجنه ولكنه آثر ميتة البطل؛ ولم يتورع الملك عن أن يكيد له وهو بعد رفات فمنع أهله من أن يدفنوا جثته خارج السجن فوسد حيث استشهد، ودفن حيث أبت روحه أن تدفن.

(يتبع)

الخفيف