مجلة الرسالة/العدد 672/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 672/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 05 - 1946



يوميات جينيفييف

للكاتب الفرنسي مارسيل بريفو

عضو المجمع اللغوي الفرنسي

بقلم الدكتور محمد غلاب

2 - المواسي:

26 مايو

ها أنذا منفردة هذا المساء أيضاً شأني في كثير من أمسية هذا العام، فأين راءول الآن يا ترى؟

لم أسأله هذا السؤال، لأني تعبت من كثرة الكذب المستمر السهل على لسانه، ومن تشابه الجواب دائما، وهو (إني ذاهب إلى النادي، بيد أنه ينبغي أن أكون مخلصة، ففي هذا اليوم وضع نفسه تحت تصرفي وعرض عليّ أن أصحبه إلى منزل أحد أصدقائنا حيث تمثل رواية (الضابط) الهزلية، ولكني علمت أن الآنسة (دي جيفيرني) ستمثل في هذه الرواية دور (الساذجة العصرية) وهذا النبأ سلبني كل رغبة في مشاهدتها. أما راءول، فهو لا ريب ذاهب إليها، وكذلك مدام ديلافو من غير شك. وفي هذه اللحظة هو بجانب إحداهما، وهو يلقي على صدريهما تلك النظرة التي هي مزيج من إعجاب وسخرية، والتي يلقيها دائما على النساء اللواتي يشتهين ولا يحترمهن، أما أنا ففي الوقت الذي كان يحبني فيه لم يكن يلقي عليّ مثل هذه النظرات الساخرة، ومع ذلك فلا ينبغي أن أفكر في شيء من هذا، إذ لديّ ما يعزيني وينسيني كل شيء، وهو طفلي العزيز، ولقد أذنت لمربيته الليلة في أن تتنزه، وإذاً، فأنا التي سألاحظه في سريره.

إن رينيه نائم الآن على ظهره، وهو يضغط شفتيه، ويزقزق من حين إلى آخر كالعصفور الصغير، فيجب ألا نوقظه، لأنه إذا استيقظ من نومه الأول لا يغفو إلا حين يجيء موعد نومه الثاني إذ أنه ينام بنظام وفي أوقات معينة.

إن مربيته تقول لي إن الناظرين إليه في الحديقة العامة يقدرون له أكثر من سنه، ولعله تقول ذلك لتسرني، لأنني أتمنى أن يكون أطول الأطفال وأقواهم وأجملهم وأذكاهم من غير استثناء، إذ هذه كبرياء الأم أنانيتها، وهي كبرياء مباحة وأنانية مشروعة فيما أعتقد.

ما ألذ لغة رينيه المكسرة على مسمعي! ولقد تقدمت صحته قليلا منذ بضعة أيام، ومع ذلك فالطبيب يجيء ليعوده في كل صباح. واليوم لم أستطع أن أحصل منه على جواب صريح يطمئنني على صحته كما كنت أرجو. وكلما أفكر في ضعف صحة هذا المخلوق المعبود وأتخيل أن حمى خبيثة تستطيع أن تخطفه مني في بضع ساعات، أصير على أتم استعداد للجنون، وعلى أثر هذا الخيال أنتصب واقفة وأجري إلى مهده دون أن أشعر، ولا أطمئن إلا حين أرى تنفساته تحرك الغطاء بنظام، أو أرى فمه الحالم يلوك في هدوء لغة النوم. وفي أثناء هذا كله، وحين أكون ساهرة بالقرب من سرير طفلي يكون راءول مشغولا بالحصول على وعد من مدام ديلافو، أو بمحاولة الاختلاء بالآنسة جيفيرني لأن الأمر انتهى بي إلى أن أومن بأن هذه المغازلات لم تعد بريئة طاهرة، فتجاربي الشخصية من ناحية، وآراء والدتي من ناحية أخرى قد أزالت من نفسي تلك السذاجة التي كانت تغشيها إلى عهد قريب. لقد كانت والدتي تقول لي دائما: (إذا لاطف زوجك سيدة، فكوني على يقين من أن الفرق بين المغازلة والخيانة منحصر في غيبة الإمكان المادي، فإذا تيسر هذا الإمكان زال ذلك الفرق). آه من المغازلة! تلك الكلمة المرعبة المنافقة التي تخفي تحتها كثيراً من المزعجات التي كلما أسمعها تنطق أمامي أرتاع كما لو أني أسمع إحدى الكلمات الوقحة الجارحة.

لكي أمضي الساعات التي سأقضيها ساهرة إلى جانب سرير الطفل، دخلت حجرة تدخين زوجي التي يستقبل فيها أصدقاءه الأخصاء، لأتصيد منها بعض صحف أو مجلات أتلهى بها، فوجدت (الفيجارو) و (جيل بلاس) و (الجولوا) و (الكلمة الحرة) فجمعتها، لأتصفحها. غير أن راءول - لتفريطه في النظام وإفراطه في حسن النية - كان قد ترك حلقة مفاتيحه معلقة في درج المكتب، ولكن هل فتنتني هذه الفرصة فخطر لي أن أتعقبه؟ حقا إني لا أعتقد ذلك، بل إن الذي استولى عليّ في هذه اللحظة هو حب الفرار من هذه الفتنة فنجوت بنفسي نقية اليدين وعدت إلى حجرتي. وفي الحال دعوت الخادم جوزيف وهو أخلص الخدم إلى زوجي، لأنه في خدمته منذ أن كان صبياً، وهو لهذا كان يعاديني، فلما جاء أمرته أن يأتيني بالصحف فأتى بها ونزع المفاتيح، وهذا هو الذي كنت أقصده لأنجو من هذه الفتنة الأخلاقية.

فلنقرأ الصحف لنتسلى بها. إن بعض هذه الصحف تضايقني لأنها جدية جافة، أما البعض الآخر الذي يستعذبه شبابنا من الأخوة والأزواج فهو مالا أتذوقه ولا أفهمه. وهناك عدد من الصحف تؤلمني مطالعته لأنني أرى فيه تشويه الأخلاق أو جرح الفضيلة. ومن هذا النوع الأخير هذه الصحيفة التي يقول عنها راءول إنها تُعنَى بأخبار النوادي والحفلات، وأنباء النساء الماجنات. وفي الواقع أنها كذلك حيث أرى الآن فيها هذا العنوان (الرجل الذي قتل كلبه بعد موت زوجته). ولاشك أني لا أفهم هذا النوع الشائك من الأخبار ولا أستحسنه.

وهناك نبأ آخر في هذه الصحيفة يحدثنا أنه قد لُمحَت أمس في غابة بولونيا الآنسة (إيرماديكلوزبيه) و (مارجريت ديبورجوني) و (ميس شامباني). ولست أدري أي شخص يعنيه هذا النبأ الذي استنفذ أثني عشر سطراً؟ لا ريب أنه يعني عشاق هاتيك النساء ولابد أن يكونوا كثيرين حتى تكترث هذه الصحيفة بإرضائهم. فأما السياسة فسنتخطاها، ولننظر حالا في الحوادث المختلفة. هاهو ذا نبأ عنوانه (سيدة غيورة تطلق المسدس على زوجها). مسكينات تلك الزوجات! إنهن في جميع الطبقات من أعلاها إلى أدناها هن المهجورات، ولكن كيف يستطعن التصميم على قتل من أحببن؟!.

والآن لنلق نظرة على رسائل القراء التي يتخاطبون بها عن طريق الصحيفة ففيها شيء من التسلية، لأنها تحوي طائفة كبيرة من المآسي والمهازل.

وبينما أنا أقرأ في هذه الرسائل، إذ رأيت الدنيا تضطرب في عيني فجأة، وأحسست كأن قلبي يتشرب كل ما في جسمي من دم، وسقطت الصحيفة من يدي، ومال جسمي على المقعد بعد أن فقد توازنه الطبيعي. وظللت كذلك ساعة من الزمن، فلما عدت إلى نفسي تناولت الصحيفة من جديد وحدقت في نفس السطر الذي قلبت كياني مطالعته، وهو يشتمل على ما يلي: (ر. - سرور! غداً مساء (السبت). إني نجحت في أن أتخلص من هذا الريف المزعج، وسأكون في العش المختار في الساعة العاشرة مساء، ولكن لا تجيء إلا إذا كنت قد صممت على أن تكون عاقلا (الإمضاء) سوز).

لماذا اقتنعت في الحال ولأول وهلة أن حرف الراء رمز لراءول زوجي، وأن سوز هي سوزان ديلافو؟ فأما التعقل المنطقي فليس ما يؤيدني في هذا اليقين، إذ لا أعرف أن مدام ديلافو غائبة عن باريس، بل إنني قلت لراؤول محاولة المزاح قليلا: إنك سترى في حفلة الليلة سوزان الجميلة، فبتسم ابتسامة لم تلبث أن اختفت خلف لحيته السوداء ولم يحاول الدفاع عن نفسه.

فهل كان يجهل غيابها أو كان يسخر مني؟ لا أدري، ولكن الذي أنا واثقة منه هو أن هذه الرسالة الصغيرة موجهة إلى راؤول من مدام ديلافو، وأني موقنة بهذا إيقانا لا يقبل الجدل وعن طريق خفي. إني أعيد قراءة تلك السطور المرعبة كلمة كلمة؛ وإن كل عبارة من عباراتها تبدو لي كأنها كائن حي. يا لله! إنها مبدوءة بهذه اللفظة الماجنة: (سرور) حقاً إنه لسرور حينما تنفلت من زوجها معتذرة إليه لا أدري بأي كذب، لتلقي بنفسها بين أحضان أدنأ الجرائم وأشنعها. . . سأكون في العش المختار. . .!. إنني محتفظة بعواطفي، ومع ذلك فلم أستطع أن أمنع نفسي من البكاء. (العش المختار!) إذاً، إن ما كنت أخشاه منذ زمن لحق، وإنه لحق أيضاً أن الرجل الذي منحته نفسي بواسطة الزواج يستمتع بحب في باريس، وفي منزل آخر غير الذي أعيش فيه أنا وطفلي. غير أن الجملة الأخيرة من هذه الرسالة وهي: (لا تجيء إلا إذا صممت على أن تكون عاقلا). هذه الجملة - على ما بها من رفع الكلفة المقززة - تركت في نفسي شيئا من الأمل، إذ لو أنها تحبه لما قالت له هذه الكلمة. هاهي ذي حاضنة الطفل قد عادت من دار التمثيل، فلنرسلها إلى غرفتها لتنام، أما أنا فسأقضي الليلة هنا إلى جانب مهد ابني، ولعل وجودي بجانبه يحول بيني وبين اليأس، وأما راؤول فلا أستطيع أن أراه اليوم مطلقاً. أوه يا عزيزي المواسي الصغير!.

3 - القلق:

27 مايو

مبدأ حزين ليوم حزين، فالسماء تمطر، والمطر الحزين يتفق مع ما أنا فيه الآن من حزن وألم. وكل شيء يثقل كاهلي وجميع العوامل السيئة قد تكاتفت على إنهاكي، إذ ان الطفل قد أمضى ليلة سيئة وكان في نهايتها شديد الهياج، مرتفع الحرارة وإن كانت حالته قد تحسنت قليلا في هذا الصباح. وأنا أنتظر الدكتور (روبان) بفارغ الصبر. أليس ذلك كثيرا عليّ يا إلهي؟ أو ليس فوق طاقتي أن ترسل إليّ هذه المحن الأخرى على أثر الأولى؟ لأني الآن لم أعد أشك في صحة ما ظننته، إذ قد سألت راؤول في هذا الصباح بعد أن حاولت أن أكون هادئة فقلت: هل مدام ديلافو كانت أمس في تلك الحفلة؟ فتردد لحظة قبل أن يجيبني ثم قال: (لا أظن ذلك، لا، إنها لم تكن هناك يقينا).

ولكني ألححت قائلة: (هل كانت غادرت باريس؟)

فلما سمع هذا سؤال ظهرت على وجهه حركة جزع ثم قال في غضب: - لا أدري يا صديقتي العزيزة! وهل أنا حارس مدام ديلافو؟ ومع هذا فإني أتوسل إليك أن لا تحدثيني عن هذه الإنسانة التي تبغضينها ولا أدري لماذا، لاسيما وأنها تحرص دائما على أن تكون في حضرتك غاية في الكمال.

في هذه اللحظة بألوان من الحقد تتجمع في نفسي حتى منعتني من أن أجيب على عبارته الأخيرة؛ بل أني لم أرد أن أنبئه بقلقي على الطفل، فليكن مايكون، وليعبث كما يشاء، ولينغمس في اللهو خارج المنزل، فأنا أريد أن أحمل مفردة عبئ قلقي، والطفل لم يعد ابنه فسأتولى وحدي شؤونه.

كانت الساعة العاشرة صباحا حينما دخلت الخادمة إلى غرفتي وأنا غارقة في هذه الهموم ومعها علبة مليئة ببعض المشتريات، ونبأتني أن عاملا من أحد المتاجر الكبيرة التي نعاملها قد حملها إلى المنزل وكلفها إيصالها إليّ، ثم قالت الخادمة: إن العامل منتظر خارج الباب، لأنه ليس متأكدا أن هذه العلبة مرسلة إلى سيدتي، فتناولتها فإذا عليها هذا العنوان: (مدام دي بواستيل) رقم 13 شارع فيزيليه.

هذا هو إسمي، ولكنني أنا أسكن (فوبورسان أو نوريه) لا شارع فيزيليه، فإذا أضفنا إلى ذلك أن اسمي في هذا المتجر (الكونتيس دي بواستيل) تبين أن في الأمر شيئا أو أن هناك خطأ، فدعوت العامل وقلت له:

- إنني لم أوصي بشيء من متجركم، فاحمل هذا وانصرف لأني لا أدري ما هو.

- يا سيدتي: - نحن شككنا ذلك، وظننا أن هنالك خطأ، لأن عنوان سيدتي عندنا، بيد أن سيدي الكونت جاء بنفسه فأوصى بهذا الطلب وأعطانا هذا العنوان؛ ولكن بما أني ذهبت إلى شارع فيزيليه فلم أجد أحدا في المنزل الذي الذي عينه لنا. . . وفي هذه اللحظة امتقع لوني، فأدرك العامل أنه اقترف غلطة كبرى، فصمت فجأة، لأنه فهم كل شيء، فتحاملت على نفسي وقلت له: حسن ما تقول، ولكن احمل هذا فإنه ليس لي. قلت ذلك للعامل وانزويت في غرفتي واستسلمت إلى البكاء.

وهكذا بعثت المصادفة إلي بسر زوجي، فأنا كنت أعرف أن مدام ديلافو قد حددت هذا المساء لاجتماعها به.، والآن أعرف كذلك أين مكان هذا الاجتماع، إذ أن راؤول قد بلغ به الاستخفاف إلى حد أنه لم يحاول إخفاء اسمه في هذا المنزل الذي اختاره للخيانة الزوجية. ولا ريب أن شريكته في الجريمة تدعى في ذلك المنزل بالكونتيس دي بواستيل، فماذا يجب عليّ أن أعمل؟ أليس من واجبي أن أحول بين زوجي وبين الإجرام؟

نعم قد كنت فيما مضى أمتعض من أن أقوم بتحقيق هذه الخيانة وأن أتعقب الجناة، ولكن ما الذي يمنعني الآن من أن أنذره ومن أن أجاهد ضد هذه المرأة، لأصرفه عنها؟

إنني أستطيع حين يعود راؤول للغداء أن أقول له: إني عرفت كل شيء، وأن أشرح له المصادفة التي أنبأتني بالرغم مني. أجل سأشرح له ذلك، ولكنه سينكر، فقد تعلم الكذب بمعاشرته تلك المخلوقة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فأنا أصبحت لا أحسن المناقشة معه، ولهذا أخشى أن تنتهي المسألة بمشهد عام. وعلى أثر ذلك سيخرج من المنزل جاذبا الباب وراءه بقوة كما هي عادته، ثم يذهب ليتعشى في النادي ويتجه بعد ذلك إلى شارع فيزيليه، ليلتقي بعشيقته. فمن الخير إذاً، ألا أقول له شيئا وأن أسبقه إلى ذلك المنزل فأقف أمام الأمر الواقع بين زوجته وعشيقته، وإذ ذاك لا يستطيع أن ينكر، وله في تلك الساعة أن يختار بيني وبينها. ولكن ما أفظع الانتظار في الطريق وما أشنع تلك المقابلة وإن كانت هي الواجب!

الساعة الثانية بعد الظهر من اليوم نفسه:

- لقد جاء الطبيب ولم يطمئني عن صحة الطفل فحالته سيئة ودرجة حرارته مرتفعة وهو يبكي ويرتعد، وكلما ألمس أي عضو من أعضاءه الصغيرة أجده يتصبب عرقا. ولقد سألت الطبيب قائلة: هل هو في خطر؟ قل لي الحقيقة، إنني أريد أن أعرف.

فهز رأسه وظهرت عليه علائم الشك ثم قال:

- خطر. . . يا إلهي. . . أنا لا أدري. . . في هذه اللحظة هو محموم، وهذا كل شيء، والحمى يمكن أن تذهب كما جاءت.

فسألته قائلة:

- وإذا لم تذهب؟

- أوه! إذا لم تذهب، فإنها ستتطور إلى مرض من أمراض الأطفال مثل الحصبة أو الحبوب القرمزية.

- إني آمل على الأقل أن لا يكون الجدري.

الجدري! هذا هو الذي يروعني، إذ قد قرأت في الصحف هذا الصباح أن ذلك الوباء قد بدأ يقل، ولكن لا يزال له ضحايا. فهل الإله الذي سلب من تلك الأمهات المسكينات نعمة سرورهن وهي أطفالهن، سيعافيني أنا من هذه الكارثة؟

إن الطبيب لا يعرف ماذا يقول، ولهذا ينطق بمثل الكلمات التي أنطق بها لأسلي بها نفسي، وهي: أن الطفل في صحة حسنة، وأن مرضه إلى الآن ليس خطرا، ولكن من المؤسف أن كل ما يقال لي لا يطمئنني.

اليوم لم نكد نتحادث على مائدة الغداء، ومع ذلك فقد لاحظت على راؤول اتجاها حسنا ينعطف به نحو الاستسماح وكأنه كان يقوم بمجهود، لأغفر له سوء المزاج الذي ظهر منه في هذا الصباح أو الخيانة التي ينتويها في هذا المساء، وقد سألني قائلا:

- هل الطفل أحسن حالا؟

فأجبت قائلة:

- لا، بل بالعكس، إن ليلته كانت سيئة، وإنني لقلقة. قلت هذا والدموع تطفر من عيني غضبا بقدر ما كانت تطفر حزنا. فلما رأى هذا نهض واقفاً وأراد أن يقبلني، وإذ ذاك تذكرت تلك المرأة التي يلمس خديها وشفتيها أيضا، فابتعدت سريعاً مدفوعة بغريزتي ولم يلمس مني إلا شعري، فعاد إلى مقعده ولاحظت عليه في هذه اللحظة أن لونه صار شديد الامتقاع، وتملكه الانفعال حتى كسر قاعدة كوبته، ثم ظللنا ساكتين إلى أن انتهى الغداء. وعلى أثر ذلك، وفي نفس اللحظة التي أخذ يشعل فيها لفافته صعدت إلى حجرة الطفل.

كن رؤوفا بي يا إلهي وساعدني وامنحني الثقة والشجاعة اللتين تمنح المرأة المتدينة إياهما في وسط ما تبتليها به من أحزان، فأنا أشعر في قرارة نفسي أن قوتي لا تكفي لمقاومة هجوم كل هذه المقلقات، وأنا أعلن ضعفي وانهزامي أمام هاتين المحنتين! يا إلهي اعف عني، فأنا لا أعرف إلا شيئا واحدا وهو أني أسألك أن تنجيني منهما كلتيهما، فليس عندي من الشجاعة ما يجعلني أحتمل أن يسلب مني راؤول ورينيه، إنني أفضل أن تصعقني أنا، لأني عديمة النفع في هذه الدنيا، ولأن أقدم إليك حياتي عن طيب خاطر خير من أن أقدم أمانة زوجي أو صحة طفلي.

(يتبع)

محمد غلاب