مجلة الرسالة/العدد 667/من صميم الحياة:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 667/من صميم الحياة:

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 04 - 1946



الخادمة. . .!

هذه قصة (المشكلة) التي قل ما تخلو دار مصر في الشام. . .

(ع)

للأستاذ علي الطنطاوي

قال: إن لدي قصة احب أن أقصها عليك، وإنك لتعلم أني لست ممن يؤلف القصص، ولست ممن يحسن الاستعارة والتشبيه وسائر أبواب المجاز التي تعلمنا أسماءها في المدرسة، فلا تأمل أن تسمع مني قصة أدبية معقودة من وسطها بعقدة فنية، مردودة الأول على الأخر، فيها الصورة النادرة، والفكرة المبتكرة، والأسلوب البارع، فليس عندي من ذلكشيء، وإنما هي واقعة أرويها كمار أيتها وسمعتها، وإن فيها لدرساً نافعاً لمن يرى الحياة مدرسة، فهو يدأب على الاستفادة منها والانتفاع بها، فهل تحب أن تسمعها؟

قلت نعم

قال: لا أدري من أين أبدا القصة لتجئ محكمة الوضع يرضى عنها أهل الأدب، فدعني أبدأها من نصفها، فما لك في أولها كبير نفع، وأن أولها ليلخص مع ذلك في كلمة، هي أن لي أقرباء أخوة ثلاثة شباباً عزاباً يقيمون مع أمهم العجوز التي ربتهم وقامت عليهم منذ تركهم لها أبوهم أيتاماً صغاراً، إذا كلت وهرمت، وعجزت عن خدمة الدار، ذهبوا يفتشون لها عن خادم تعينها، ولو فتشوا عن ثلاث زوجات لهم لكان ذلك أهون عليهم وأدنى إليهم، فلما طال التفتيش وزادت الحاجة، وجدوا بنتاً من (التواني) فقنعوا بها، وأن تعلم أن (التواني) قرية منزوية في حدود (القلمون) الأدنى، مما يلي (القطيفة) ضائعة بين تلك الأودية المقفرة والجبال، وأن أهلها من أقذر القروين وأجفاهم وأبعدهم عن المدينة، على صحة فيهم وجمال. وكانت بنتاً - كما يقولون - ذكية، فسرعان ما ألفتهم وألفوها، وأقامت فيهم سنين طويلة ما أنكروا منها شيئاً، ولم أرها أبداً على كثرة ما كنت أتردد على الدار، حتى كان اليوم الذي جعلته مبدأ قصتي هذه. . .

وكنت أزور أقربائي هؤلاء، فدعوني إلى الشاي، فإذا هي تدخل فتقدمه إلي، وإذا فتاة ف نحو السادسة عشرة قد تخمرت بخمار أبيض لفته فوق رأسها إلى ما تحت ذقنها، فعل القائمة إلى الصلاة، فسترت به شعرها وجيدها، وبدا منه وجهها مدوراً أبيض مورداً يطفح بالصحة والصبوة، ويشع منه السحر والدلال، وكانت تلبس ثوباً قصيراً لا يكاد يعلو عن الركبتين، يكشف عن ساقين بضتين غضتين ممتلئتين في غير سمن، ممشوقتين في غير هزال، مصبوبتين صب التمثال، وفوق الثوب صدار من وشي رقيق كالذي تتخذه أنيقات الخادمات، قد شد شداً، فهو يبرز من ورائه نهدين راسخين، يلقيان عليه ظلالهما خفيفاً لا يعرف موقعه من النفس إلا من قرأ سطور النهود في صدور العذارى. . . . وكانت تحمل الشاي بأكف كأنها خلقت بلا عظام، وكان جسمها ينبض بالعاطفة التي تلين أقسى الرجال، وتستخرج الصبوة من قرارات النفوس فتظهرها، ولو قيدتها قيود من الخلق المتين، ولو غطتها ستور من الهم الدفين، ولو أنساها علم يشتغل به، أو مال يسعى وراءه، ولو أن الصبوة قد ماتت، لردها هذا الجمال المطبوع حية. . . . أما عيناها، فدعني بالله من وصفهما، فما أدري ما لونهما وما شكلهما، فأن لها سراً يشغلك عن التفكير في وصفهما. . . أنهما تروعانك فتبقى معلقاً بهما، فإذا حاولت أن تضبط نفسك وتعود إلى ما كانت فيه، لم تشعر إلا وأنت قد عدت إليهما. . . إن فيهما مغناطيس يجذب الأبصار والقلوب. . .!

فلما خرجت، قلت: أهذه هي الخادم القروية التي جئتم بها من (التواني)؟

قالوا: نعم.

قلت: فأخرجوها من هذه الدار، فإنها أخطر من البارود!

فضحكوا وعدوها نكتة. . .

وعدت مرة أخرى فإذا هي بلا خمار، فسألتها عنه، فقالت - ويا ليتها لم تقل، فما كنت أدري أن لها مع جمالها هذا الصوت الذي يرن كأجراس الفضة في مواكب الأحلام. . . أو كرنات العيدان في خيال متذكر ليلة غرام - قالت:

- أني قد استثقلتهفألقيته أمام الأقرباء، وأنت منهم (مش هيك)؟

وشفعتها ببسمة من فيها، وغمزة من مقلتيها، وهزة من كتفيها. . . فما هذه البنت؟! ومن أين لها هذا كله؟! وحياتك لو أنها ربيت في مسارح (مونمارتر) في باريس لكان هذا كثيراً منها، فكيف تعلمته في مزابل (التواني)؟! وعبست فما أحببت أن أوغل معها في هذا الطريق، فولت ترقص رقصاً لا تمشي مشياً، وشعرها الذهبي حقاً لا تشبيهاً، المنشور على كتفيها وظهرها، البالغ حقويها يرقص معها!

وعدت بعد ذلك، فإذا هي قد جزت شعرها على (المودة)، وأمرت يد الزينة على وجه ما يحتاج إلى زينة، وطرحت صدارها، ولبست ثياب فتاة غنية مدللة، لا ثياب خادم، فانفردت بأكبر الاخوة من أقربائي فقلت له:

- إنك أنت وأخوتك من أمتن الناس خلقاً وأقومهم سيرة، ولكن هذه البنت تفتن والله العابد، وتستذل الزاهد، وتحرك الشيخ الفاني. . . وإنها لتسحر بكل نظرة وكل حركة، ويكاد جسمها يتفجر أغراء بالمعصية، وإذا أنتم أبقيتموها في هذه الدار فما أظن الأمر ينتهي بسلام!

واستجاب لما قلت له، وراءه حقاً، فأخرجها وأدخل مكانها زوجة صالحة. . .!

قال: ودخلت البنت داراً أخرى، دار قوم مترفين منعمين لا يسألون عن المال أين ذهب، وكانوا كلهم ثلاثة: أباً تاجراً جاهلا، همه عمله في النهار، وسهراته في الليل، وأماً شغلها ثيابها وزياراتها واستقبالاتها، وولداً شاباً في العشرين طالباً في الجامعة صاحب جد ودراسة وخلق ودين، غير أنه كان - ككل الصالحين من لداته - يطوي صدروه على مثل البارود المحبوس في القنبلة إذا طار منها مسمار الأمان، أو صدمتها صدمة فرجتها تمزقت ومزقت من حولها! وكانت الصدمة لها هذه الخادمة اللعوب!

وبدأت من اليوم تولي اهتمامها صاحبنا الذي أسميه (الشاب) كراهية أن أصرح بأسمه، وتنسج حوله خيوطها. . . فإذا ناداها لحاجة له - ولم يكن له بد من أن يناديها - قفزت قفزة الغزال وأقبلت تحف بها شياطين الشهوة. . . فتراه منصرفا عنها، فتبسم له، وتسأله عما يريد، بصوت يقطر فتونا، وتسلط عليه من عينيها مغناطيس مكهرباً يذيب القلوب، ولو كانت من صفا الجلمود، وإن أعانته في رفع نضد، أو تسوية كرسي، أو ناولته شيئا، دنت الملعونة منه حتى لامست بهذا الجسم اللدن الدافئ المكهرب، جسمه القوي القرم. . . إلى (اللحم)!. . . أو قربت وجهها الفتان من وجه حتى ليحس لسع أنفاسها، ويشم رائحة جسمها، وإنها لأفتن من كل عطور الدنيا وطيبها، وأين العطر من ريح جسم المرأة؟ أو تتعمد حركة تزيح ثوبها القصير لحظة عن بياض فخذيها. وكان المسكين بشرا، اجتمعت عليه صبوة الحب في نفسه، وإغراء الجمال في خادمته. . . وحماقة أبويه اللذان جاءا بها وغفلا عنه وعنها، وصارا يتركانه معها وحيدين في الدار طول النهار، حتى لقد بعثاها مرة تناوله الصابون في الحمام. . . وثار في أول الأمر عليها، وأعرض عنها، ثم أحس أن سمها سرى في جسده وروحه، فأستنفر أخر قوى الفضيلة في نفسه وألح على أبويه في إخراجها من المنزل، فأبيا، وكيف يفرطان فيها وقد وجداها بعد طول البحث، وكبير العناء؟ وهل تدع (الست) زيارتها وسينماها، وتشتغل هي: بالطبخ والكنس لمجرد أن البنت الخادمه جميلة و (دلوعة) ويخشى منها؟ كلام فارغ!

هكذا كان يفكر الأبوان المحترمان. . . وضربا بالعمى عن حقيقة لا تخفى على عاقل، هي أن الرجل والمرأة حيثما التقيا وكيفما اجتمعا: معلماً وتلميذه، وطبيا وممرضة. ومديرا وسكرتيرة، وشيخاً ومريدة، فإنهما يبقيان رجلا وامرأة، لذلك قال النبي محمد (ماخلا رجل وامرأة (هكذا على الإطلاق) إلا كان الشيطان ثالثهما!

مرض الشاب وعجز عن الاحتمال. . . فكانت الخادمة هي التي تقوم على خدمته، وتصرم الليل كله ساهرة عليه، وتبدل ثيابه فتراه كما هو وتستبيح بالنظر واللمس كل إصبع في جسده وهو لا يحس بها؛ حتى إذا تماثل للشفاء، ومرة في طريق النقاهة رآها إلى جانبه، وكان المرض قد أضعف عزمه وأوهن أرادته، فأنكسر السد وطغى الحب. . . وفي ليلة كان فيها النعاس قد نال منها، حلف عليها إلا أن تستريح وتنام، ولم يكن في الغرفة سرير، فاندست معه في سريره. . . وكان هذا أكثر من أن تحتمله أعصاب رجل في الدنيا، فطار النعاس، وكانت النتيجة المحتومة لهذه المقدمات! ودخلت (الست) في الصباح، فرأت الخادمة بين ذراعي أبنها!!

صحت البنت من سكرتها، وصحا الأهون وأرادوا إصلاح ما فسد، وهيهات! أن الماء قد انسفح على الرمل فمن يرد الماء المسفوح؟ وعود الكبريت قد احترق فمن يرد العود المحروق؟ وعرض البنت قد مزق فمن يرتق العرض الممزق؟ لا أحد!

ووثبوا يفتشون كال المجانين عن طرق الخلاص، وأقبل الشيطان مرة ثانية، وكانت المؤامرة، وانجلت عن ستر هذه الجناية بجناية أخرى، هي أن ترد البنت إلى أبيها الذي يطلبها ليزوجها من ابن عمها، وقبلت: وماذا تصنع إذا هي لم تقبل؟ وكان الفصل الآخر من المأساة وأني سأختصره اختصارا: هذه البنت الحلوة المستهترة الذي ذاقت طراوة الحضارة ولينها وحريتها وفسوقها وعريها، عادت إلى القرية المنقطعة في أودية (القلمون) الأدنى وجباله، لتعيش حياة قروية قذرة صعبة، ولكنها طاهرة مستورة مقيدة، لتلبس الملاءة الزرقاء الشاملة بعد (الروب) الذي لا يستر ربع الجسد، والسراويل البالغة الكعبين بعد (الكلسون) الذي لا يتجاوز طوله الإصبعين، وتشتغل في الحقل بالأكف التي كأنها بلا عظام والأظافر ذات (المانيكور)، وتأكل بعد (الكاتو) والفراني خبز الشعير، وتعاشر بعد شباب دمشق البقر والحمير، وتمشي إلى الإسطبلات بدل السيمات.

دبر الأمر على عجل، وعقد العقد، وسيقت العروس (الشامية. .) إلى القرية، وحسب أبن العم كأنما رأى ليلة القدر فدعا فهبطت عليه حوراء من حور الجنان. . . وكان الدخول، وتجسم خيال المسكين فكان واقعا، والحلم صار حقيقة، وأحتوى بين ذراعيه الخشنين ذلك الجسم الذي تتقطع عليه نفوس أبناء الأمراء حسرات و. . . فإذا الثمرة مقطوفة!

قلت: ثم ماذا؟

قال: ماذا؟ صار أبن العم في السجن، والبنت في القبر، وأفتضح الشاب فضيحة لن ينجو من أثارها مهما عاش!

علي الطنطاوي