مجلة الرسالة/العدد 667/الأدب في سير أعلامه:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 667/الأدب في سير أعلامه:

مجلة الرسالة - العدد 667
الأدب في سير أعلامه:
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 04 - 1946



مِلتن. . .

(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية

والخيال. . .)

للأستاذ محمود الخفيف

- 8 -

إشارة في هورتون:

كان كل هذا العناء وكل هذا الكدح من اجل الشعر، فالشعر كان في قرارة نفسه لو حاول بكل ما في وسعه ألا يكون شاعرا ما استطاع. وهو يعتقد أن الله سواه ليكون شاعرا، ولذلك فهو يعلى قدر رسالته ويجعل لها شبه ما للرسالات الإلهية من سمو وخطر؛ فلا يقتصر على طلب الحكمة والوقوف على ما هو بسبب من تلك الرسالة والإفادة منه، بل يتطهر إلى جانب ذلك فينقى نفسه من كل شائبة ليكون لرسالته أهلا وليتنزل عليه نورها. ثم إنه يستغرق في حال صوفية يعدها كذلك من مكونات الشاعرية فيتقرب إلى الله ويبتهل إليه، لأنه يؤمن أن وحي الشعر يهبط من الله، يوضح ذلك قوله: (إن مثل هذا لن يصل إليه المرء إلا بالصلاة والقنوت لتلك الروح السرمدية، لله الذي يؤتي الحكمة ويهب البلاغة فيغني بهما الأنفس، ويرسل رسله بالنار المقدسة من لدن عرشه فيظهر بها روح من يشاء من عباده. ويجب أن يكون مع الصلاة قراءة مختارة في جد متصل، يصحبها تدبر يقظ، وتعمق للأعمال والمسائل ما هو خير منها وما يبدو كأنه خير. ولقد وصف ملتن مدة إقامته هذه في هورتون بقوله: (إنها سنوات كثيرة مليئة بالدراسة والتفكير، قضيت كلها في البحث عن المعرفة الدينية والمدنية).

وحق لاصحابه أن يعجبوا من صبره على المقام في الريف، وزهده في مباهج المدينة. وعجب حتى (ديوداني) من ذلك فكتب إليه يسأله عما هو فيه، فرد عليه ملتن قائلا: (لقد طالما تساءلت عما أنا في شغل به، وفيم أفكر، فاعلم أن ذلك بمعونة الله هو الخلود. وأرجو أن تغفر لي هذه الكلمة فإنما اهمس بها في أذنك. اجل، إني أريش جناحي استعدادا لأن أطير فاحلق تحليقه).

وكان كتاب صاحبه هذا إليه، ورده عليه في أخريات أيامه في هورتون.

وما كان يريش جناحيه إلا ليطير في سماء عالية، ويحلق في أفاق فسيحة، فإن موضوعاً عظيماً لن يبرح يهجس قي خاطره، ولن يزال حديث نفس ومنتجع هواه؛ فأي موضوع هو ومتى ينهض له؟ ذلك ما لم يتبينه يومئذ على وجه التحديد؛ ولكن المرء يستطيع أن يستخلص من مادة دراسته من طول انكبابه عليها أنه يتأهب لرسالة عليا يتحقق له بها الخلود. ويقول الدكتور جونسون في هذا الصدد: (من هذا الذي يعد به وقد جمع فيه بين الحماسة والتقوى والتعقل يمكن أن نتوقع الفردوس المفقود).

على أنه لا يزال بينه وبين الفردوس المفقود سنوات طويلة، فماذا جرت به أراعته في هورتون، أو على الأصح ماذا تغنت به قيثارته؟

نظم ملتن ثلاث قصائد، وغنائيتين مسرحيتين أحدهما قصيرة تقرب من مائتي سطر، والأخرى طويلة نيفت على الآلف. ولئن عظمت شهرة قصيدته الكبرى (الفردوس المفقود) فيما بعد حتى بهر نورها القلوب والأبصار، وأنسى الناس هاتيك القصائد التي نظمها في هورتون، فإن جمهرة النقاد متفقون على أنه بلغ ذروة الفن في تلك القصائد الخمس، وعلى أنه لولم ينظم غيرها، لكانت كفيلة أن تحله في الصفوة المختارة من الشعراء المغنيين في العالم كله قديمه وحديثه، إن لم تجعل له موضع الصدارة بينهم أجمعين.

وقد نشرت تلك القصائد سنة 1645 بعد رحيله عن هورتون بست سنوات ومعها بعض أشعاره اللاتينية. وكان ما ذكره ملتن عنها أنها بمثابة امتحان لقدرته وأنها مقدمة بين يدي وعده فحسب، ولم يفتأ بعدها يعد بعمل خالد في دنيا الشعر دون أن يشير إلى تلك القصائد كأنه نسيها أو كأنه لا يرى فيها شيئا يحقق جانبا مما يعد به، وتكشف تلك القصائد الجميلة الخمس، فضلا عما ترى الناس من مقدرته الفنية، عن كثير من خلجات نفسه واستجابة حسه ونوازع قلبه، ومتجه فلسفته. لذلك كانت عظيمة الخطر كسجل لحقبة من حياته، أما تلك القصائد فهي (الليجرو) و (البنسروزو) و (اركاوس) و (كومس) و (ليساوس).

أما الأولى والثانية فكلتاهما تعيض الأخرى في موضوعها؛ فمعنى الليجرو في الطليانية (الرجل الطروب) ومعنى البنسروزو (الرجل المتفكر). وتصف الأولى كيف يكون المرح واللهو في أحضان الطبيعة وفي زحمة المدنية، وتتصف الثانية كيف يكون التفلسف في الحياة والركون إلى العزلة، والتفكر بين الأوراق والكتب. وأما الثالثة فهي الغنائية القصيرة. وأما الرابعة فهي الغنائية الطويلة. وأما الأخيرة فهي في رثاء صديق.

افتتح ملتن قصيدته الأولى (الليجرو) بقوله (إليك عني أيها الأسى المتلكئ) ثم راح يصف الأسى فصوره في صورة مخيفة سوداء. وحسبك أن ينعته أنه يولد من احلك سواد في منتصف الليل، ومن الكلب الخرافي ذي الرؤوس الثلاثة والذيل الثعباني، ذلك الوحش الذي يقوم على حراسة إغلاق العالم السفلى؛ ويولد الأسى من هذين مجتمعين فهو ابنهما. . . ويعود الشاعر فيقول: (اذهب أيها الأسى فابحث عن مأوى لك بين الأشباح المرعبة والصراخ والمناظر الخبيثة حيث يمد الليل الكئيب جناحيه الحريصين على الظلام، وحيث تغني البومة طائر الليل هنالك تحت الظلالالسود وتحت الصخور المكتئبة المتداعية كذوائبك المهوشة. اذهب أيها الاسى، وابق أبداً في تلك الصحراء الخرافية القصية المظلمة التي ينتهي عندها العالم في الغرب على حافة المحيط).

وينتقل الشاعر بعد هذه الصورة الكريهة إلى مناجاة الفرح فيقول:

(اقبلي أيتها الآلهة الجميلة الطليقة التي سميت في السماء (أفروسين)، وسماك الناس السرور الذي يشرح الصدر؛ أنت يا من ولدتك فينوس وحملتك وأختين لك أخريين إلى با خوس؛ أنت يا من حملت بك أورورا، وهي تلاعب زفير حيث لقيها أول أيام مايو وهما يمرحان على سرر من البنفسج الأزرق والورود الجنية تفتحت لساعتها وغسلها الندى، فجئت ابنة حسناء بضة مرحة. ثم يمضي الشاعر يعرض صور المرح الذي تجلبه معها عذراء الأساطير التي يناديها، فهناك الشباب المتوثب الطروب، واللعب والبسمات العذاب، والضحك الذي يمسك جنبيه. ويعود فيهتف بتلك العذراء، ويسألها أن تسرع إليه تخطر على أطراف أصابعها مصطحبة معها عذراء الجبل، الحرية الحلوة ممسكة إياها بيمناها، ويشعر المرء بالبون العظيم بين ما سرده من صور الأسى وبين ما صوره من أشكال المرح وانماطه، ويقابل بين الناحيتين فتزداد كل منها انجلاء تلقاء الأخرى. . .)

ثم يعمد ملتن إلى فنه الذي امتاز به فيرمى في اسطر متتابعة إلى صور كثيرة متلاحقة يرسلها واحدة تلو الأخرى، يريد أن يقول: إنها أطياف الفرح يوحيا إلى النفوس إذا لاذت به. وكلها مما يملأ القلوب بهجة ونشوة، (فهناك ضوء القمر في الليل الساجي وغناء القبرة ينبعث من برجها العالي في السماء، ثم صياح الديك بعد ذلك يبدد الظلام، بينما يسوق أمامه في نشاط حسانه إلى باب الحظيرة، ثم كلاب الصيد ونفيره توقظ في مرح الصباح الناعس، والشمس تنحدر من الباب الشرقي متشحة بالشعل فتبدد السحب، والحرث يصفر لحناً على مقربة من الأرض التي خططها بالأمس، وحالبة اللبن تغني طرب، والرعاة يتلو كل منهم قصته إلى جانب ألا لفاف الخضراء، والقطعان والمراعي والمروج الخضر، والجبال والنهيرات والأنهار الواسعة تجتليها العين في نظرة، والأبراج الشاهقة بين الأشجار لا يبعد أن تكون مقراً لذات حسن، فهي لذلك مهوى البصر لكل عين قريبة؛ ويتراءى غير بعيد دخان ينبعث من كوخ قائم بين شجرتين عتيقتين باسقتين من أشجار البلوط، حيث يطعم الرعاة طعامهم الشهي الريفي قدمته إليهم الراعيات، ثم انطلق النساء منهن والصبايا إلى الحصاد يحصدن الزرع ويسوينه حزماً؛ وثمة فرحة أخرى طليقة يبتعها مرأى القرى القريبة يلحن للعين على مرتفع، هنالك حيث تصلصل الأجراس المرحة تباعاً، ويغني المزمار الطروب فيشجي الفتيان والصبايا، إذ يرقصون جماعات في الظلال الرقطاء، وقد خرج الكبار والصغار يرتعون ويلعبون في يوم بطالة ضاح، ولن يزالوا في مرحهم حتى ينطوي ضوء النهار الطويل. ثم إن لهم بعده متعة في الصهباء تدار عليهم أكوابها إلى جانب الموقد، ومتعاً في حكاياتهم عن الحصاد وموسمه يقضون فيها شطراً من الليل. . .)

ولن ينسى الشاعر أن يورد صور المرح في المدينة، وقد وفاها حقها في القرية، فينتقل بخياله إلى المدن ذات الأبراج وما تزدحم به من أخلاط الناس وأنماطها، وفيهم زمر الفرسان وذوو البأس من البارونات، يتفق لهم في ملابس السلم نصر عال على أسراب الغواني، تمطر أعينهن البراقة السحر على من يبتغون الوسيلة إلى قلوبهن، ومن يرتقبون ما يجزين به اللباقة والفروسية، إذ تسعى كلتاهما جاهدة للظفر بعطف ملكة الجمال. ويستطرد ملتن في وصف متع المدينة ومباهجها، فيسوق منها صوراً متتالية كأنها صور فلم بهيج: فثمة حفلات الأعراس وإليها يشير في مهارة بذكر (هيمن) إله الزواج في الأساطير الإغريق بملابسه الصفراء ومصباحه الذي يلوح به، وثمة الولائم والسوامر ومعالم الزينة تتخللها الغنائيات المسرحية بمشاهدها القديمة، كما يتخللها ما يحلم بمثله شعراء الشباب في أمسيات الصيف على ضفاف الغدران المنعزلة، يضاف إلى ذلك روعة التمثيل، فإما ملاهي بن جو نسن وإما ملاهي أحلى الشعراء فناً ولحناً ابن الخيال الساحر شكسبير يتغنى فيها بألحانه البرية الحان غابات وطنه ومشاهدها.

ويعود الشاعر في ختام قصيدته الرائعة إلى مناجاة إلهة الفرح فيسألها أن تحيطه بجو مليء بالأغاني الشعرية الجميلة التي تدرأ عن القلب الهم الذي يأكله، تلك الأغاني الرقيقة العذبة التي تتمثل في الشعر القوى الرصين يجمع بين جمال السبك ومهارته، وروعة الفن وفتنته، فيبلغ من السحر ما يحطم به ما يقيد النفس من قيود الحياة ومشاكلها فتحرمها من نشوة الموسيقى، ويبلغ من الجمال ما يوقظ به أرفيوس نفسه، فيرفع نفسه من غفوته الذهبية على سريره المتخذ من أزهار الجنة، ويستمع إلى تلك الألحان التي لو كان تغنى بمثلها لاستمال إليه أذن بلوتو. . .

تلك هي خلاصة قصيدته الأولى الليجرو، وشتان بين هذه الخلاصة في لباس النثر وفي لغة غير لغتها، وبين الأصل في لباس الشعر وفي بلاغة ملتن وبراعة فنه وروعة لحنه!

ويفتتح ملتن قصيدته (البنسروزر) بنقيض ما افتتح به قصيدته الأولى فيقول: (إليك عني أيتها المسرات الخادعة، من الحماقة وحدها ولدت بغير أب. ما اقل عودك على العقول الرزينة، وما اقل ما تبثينه فيها من ألاعيبك. . . استقرى في بعض الرؤوس الكليلة، وسيطرى على تلك المخيلات المولعة بما لا يحصى عدده من الأباطيل والمظاهر البراقة، تبلغ في كثافتها وعددها ما يبلغ الهباء المعلق في أشعة الشمس)

ويناجي الشاعر الشجن ليأتي إليه، وينعته بالحكمة والقدسية، بل يغلو فيجعله أقدس ما يلحق به التقديس؛ ويصف آلهةالشجن بأنها أعظم سناً من أن تطيقها عيوننا، وعلى ذلك فأننا نراها مجللة بالسواد، ولكن هذا السواد لن يشينها، فما أشبهها بمملكة أثيوبيا الجميلة التي غالبت في الأساطير جنيات البحر فبدنهن ملاحه وأغضبهن بذلك وأساءت إليهن.

ولا يفتأ الشاعر يدعو هذه الآلهة إليه مصطحبة من يليق من رفقة، ويضفي عليها صفات الحكمة والتؤدة والتعقل والوقار والدأب والجد، ويصورها تنقل بصرها من السماء إلى الأرض متدبرة متفكرة، أما الرفقة التي تصطحب فالسلام والهدوء والصوم والعزلة والتأمل والصمت؛ ويجعل الشاعر من هذه المعاني شخصيات فيتحدث عنها ويصفها كأنما يتحدث عنأشخاص.

ويعرض الشاعر أنماطاً من الصور تناسب حالة التفكير التي يصف أو ما سماه الشجن العاقل. وبقدر ما كان في قصيدته السالفة من مرح وجلبة وفتون، تنطوي قصيدته الثانية على الوجوم والهدوء والسكون. وأكثر صوره هنا في الليل، فهو يحب أن يمد سمعه إلى صوت الكروان، ويحب أن يمشي في سكون تحت القمر حتى يبلغ في السماء أقصى ارتفاعه؛ ويحب أن يجلس في ضوء مصباحه في هدأة الليل لا يسمع إلا صوت خفرائه، فيقرأ فلسفة أفلاطون، ويقرأ الشعر والمسرحيات والقصص الرفيع. والليل هو الوقت الذي يعشق فهو قائمه كله لا يبرح مكانه حتى الصباح كما لا يبرح الرب الأكبر من النجم أفقه، فإذا كان الصباح فليكن صباحا تكتنفه الغيوم وتتناوح فيه الرياح الهوج، ويتساقط المطر؛ وإذا ما قدر للشمس أن تبدد الغيوم بعد لأي فليتوار عن ضوئها في كوخ أو في عش منعزل بين الشجر لا تقع عليه عين، وهناك فلينم حتى ينهض وفي إذنيه موسيقى حلوة من الحان جنة الغابة. وهو يحب أحيانا أن ينقل الخطاء متأملا في فناء كاتدرائية قوطة عتيقة عالية الأقواس، توحي إلى النفس ذكرى الدين، ثم يستمع إلى الأرغن، يتصاعد في الجو لحنه فيذيبه اللحن من فرط انتشاء روحه ويستنزل كل ما في السماء حتى يراه ماثل أمام عينيه. وأخيراً فما أحب إلى نفسه أن يقضى عمره في صومعة منعزلة حيث لا يبرح يطلب الحكمة ويستزيد من المعرفة مما هو بسبب من كل ما في السماء وما في الأرض، حتى تهيئ له خبرته الطويلة حالة حالا أشبه بحالة النبوة.

وتلك هي خلاصة قصيدة الثانية، وهي من حيث الأسلوب والبيان والفن الشعري كسابقتها روعة بناء وبراعة تصوير وقوة أداء وسمو فن، كما أنها مليئة كأختها بالإشارات إلى أساطير الإغريق والرومان فلا تكاد تخلو فقرة منها من إله أو آلهة. ولا يكاد يفرغ المرء من قراءة القصيدتين حتى يتبين أنهما تصفان حياة الشاعر في عزلته بهورتون، فذلك ألاليتجرو أو الفتى الطروب هو ملتن في إحدى حالاته، وذلك البنسروزو أو الفتى المتفكر هو كذلك ملتن في حالته الأخرى، وما هاتيك الصور التي صورها في القصيدتين إلا ما كان يقع تحت بصره من حياة الريف ومباهجه وحياة المدينة ومساراتها، ثم ما كانت تحس نفسه من حب العزلة وطلب الحكمة والانكباب على الدرس، وما كان يهجس في خاطره من تطلع إلى الحالة كحالة النبوة.

أما من حيث الفن فقد بلغ ملتن في هاتين القصيدتين ذروة الشعر الغنائي، ولم يبلغ قبله ولا بعده من الشعراء في لغة قومه مثل ما بلغه من السمو فيهما. ولا تزال القصيدتان حتى اليوم ينظر إليهما شعراء الغناء نظرتهم إلى قمتين شامختين تطاولان النجم، وينطق سموها بالتحدي والأعجاز. ولا تجد في وصفهما أبدع مما ذكره ماكولي عنهما إذ يتعرض ليباين خصائص شعر ملتن، فعنده من أبرز خصائص قدرته على أن يؤثر في نفس قارئه بما توحي ألفاظه من صور وأخيلة وأفكار تتداعى من بعد، أكثر مما يؤثر فيها بالمعنى الذي يؤديه اللفظ، فكأنما ينتقل تأثيره إلى ذهن القارئ بهذه الصور وبهاتك الأخلية والأفكار كما تنتقل الكهرباء إلى هدفها خلال موصل. وكذلك من أشهر خصائصه جزالة اللفظ وإشراقه وجمالة وعذوبة موسيقاه وهي جميعاً أظهرا ما تكون في قصيدته السالفتين. يقول ماكولي: (لن تجد هذه الخاصة أظهر فيشيء مما كتبه ملتن منها في الاليجرو والبنسروزو، ويستحيل على المرء أن يتصور أن تبلغ الصيغة اللغوية درجة أرفع في الكمال مما بلغته فيهما. وتختلف هاتان القصيدتان عن غيرهماكما تختلف خلاصة العطر عن ماء الورد العادي، أو كما يختلف ذلك القدر الغالي من العطر الذي نعبه حريصين عليه عن ذلك السائل المائع الرقيق.

وما هما في الحقيقة بقصيدتين اكثر مما هو طوائف من التلميحات، يستطيع كل امرئ أن يتخذ من كل واحدة منهما قصيدة لنفسه، فكل تلميح وصف منها كافية لبناء مقطوعة)

ولم تخل القصيدتان من هنأت يتمسك بها النقاد، ولكنها أقل من أن تسبيهما أو تنزل بهما عن المستوى الفذ الذي بلغتاه وتحب أن نرجئ الكلام عن هذه الهنأت حتى نفرغ عن شعره كله في بهورتون ثم ننظر فيما له وما عليه.

(يتبع)

الخفيف