مجلة الرسالة/العدد 666/مقابلات بين أقوال جحا وأقوال الشعراء والكتاب
مجلة الرسالة/العدد 666/مقابلات بين أقوال جحا وأقوال الشعراء والكتاب
للأستاذ كامل كيلاني
1 - الأسلوب الجحوي
لقد كان الأسلوب الجحوي - ولا يزال - مثالا رائعا يفيض من إشراقه ومرحه على حقائق الحياة المرة فيكسوها من ألوانه الزاهية وإشراقا.
والأسلوب الجحوي الباسم: يكاد يقابل الأسلوب العلائي العابس. حتى ليبلغ جحا - أحيانا - في سبر أغوار الحياة بسخريته المرحة الباسمة ما يبلغه المعري بسخريته العابسة القاتمة.
وقد عرضت للموازنة بينهما في غير هذا المقام، فلأجتزئ بهذه اللمحة العابرة الآن.
وبحسبنا أن نعرض على القارئ أمثلة قليلة على ما نقول:
2 - تقسيم الأرزاق
فنحن إذا استمعنا إلى صرخة (ابن الرومي) وحيرته في تقسيم الأرزاق، وما فيها من تفاوت يحار في تعليله اللب وينقطع منه نياط القلب حين يقول:
(لا تعجبن لمرزوق أخي هوج ... حظا تخطى أصيل الرأي طرافا
فخالق الناس أعراء بلا وبر ... كاسي البهائم أوباراً وأصوافا)
أو يقول:
(إن للحظ كيمياء إذا ما ... مسّ كلباً أحاله إنسانا
يفعل الله ما يشاء كما شا ... ء متى شاء كائنا مكانا)
أو أصغينا إلى (ابن الراوندي) ونستعيذ بلله من جرأته وتنطسه في إلحاده وكفره حين قال:
قسمت بين الورى حظوظهم ... قسمة سكران بّين الغلظ
لو قسم الرزق هكذا رجلا ... قلنا له: قد جننت فاتعظ)
إلى آخر ما يزخر به غلاة الساخطين الناقمين من أساليب تكاد لفرط عنفها تلتهب التهابا، وتكاد لغليانها تقذف بالحمم، وترمى بشواظ من نيران الفكر، ويكاد إهاب قائلها يتفطر من الغيظ والنقمة.
ثم رحنا نستمع إلى جحا لنتعرف كيف يعبر عن هذه المعاني الحزينة بأسلوبه الباسم الذي تنطوي في ابتسامته أعنف معاني المرارة والجد، رأينا العجب العجاب:
رأينا فيلسوفنا الساخر يحتكم إليه أربعة من عارفيه ليقسم بينهم زكيبة مملوءة بلحاً.
فماذا يصنع ليعبر بأسلوبه المرح عن تلك المعاني الملتهبة التي عرض لها أعلام الساخطين على توزيع الأرزاق؟
يقبل عليهم متبالها ويسألهم متغابياً:
(أي قسمة تريدون؟ قسمتي أم قسمة الله؟).
فيجيبونه على الفور: (بل قسمة الله يا جحا).
فيعطي أحدهم بلحات خمساً أو ستاً.
ويعطي الثاني حفنتين أو ثلاثا.
ثم يعطي الثالث كل ما في الغرارة من بلح.
ثم يحرم الرابع فلا يعطيه شيئاً. ويتركه يضرب كفاً على كف من فرط الحيرة والدهش.
فإذا سألوه: (أي قسمة هذه يا جحا؟).
أجاب في تغافل الساخر العميق:
(أليست هذه قسمة الله؟ أليس يعطي واحداً دراهم معدودة، ويعطي الثاني قليلا من الدنانير، ويعطي الثالث من خزائن الأرض وكنوزها ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة، ثم يترك الرابع فلا يعطيه شيئا).
أليس في هذا لون من التعبير الجحوي الباسم المرح يترجم عن قول من أسلفنا من كبار الساخطين؟
أليس في هذا لون من قول المعري:
(كذلك مجرى الرزق: وادٍ به ندى ... ووادٍ به فيض، وآخر ذو جَفْرِ)
وقوله:
(لقد جاءنا هذا الشتاء وتحته ... فقير معرَّى أو أمير مدوَّج
وقد يرزق المجدود أقوات أمة ... ويحرم قوتاً واحداً وهو أحوج)
وقول الآخر: (كان يحيى هالكا منَ ظمأ ... فضل ما أوبق ميتا من غرق)
أو قول الحلاج:
(كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقاً)
إلى آخر ما قاله المبدعون الساخطون.
3 - النطف العذاب
والى القارئ معنى ثانيا:
يقول (ابن الرومي):
(وما اللجج الملاح بمرويات ... وتلقى الري في النطف العذاب)
فكيف يعبر جحا بأسلوبه المرح عن هذا المعنى بأسلوبه الجاد:
يخبرنا الرواة أنه كان يستحم ذات يوم في البحر، فلما اشتد به العطش جرع منه جرعة ليروي بها ظمأه، فزاده الماء المالح عطشا على عطش، وأحس كأن معدته تلتهب.
فأسرع إلى نهر قريب منه فشرب منه نطفاً عذبا، فارتوى وهدأت ثائرة العطش، فأسرع إلى وعاءٍ فملأه من النهر ثم صبه في لبحر قائلا في ثورة الغضب:
(قبح الله غرورك أيها البحر، فما أدرى فيما كبرياؤك وصلفك؟ وأدري والله كيف يسمى ماؤك الأجاج ماءً؟ إليك أيها المتعجرف هدية أحضرتها لك من الماء لترى حقيقة الماء الجدير بهذا الاسم).
4 - فائدة المصائب
وإذا قال (ابن الرومي):
(ومحال أن يسعد السعداء ... الدهر إلا بشقوة الأشقياء)
وقال المتنبي:
(بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد)
وقال أبو العلاء:
(غنى زيد يكون لفقر عمرو ... وأحكامْ الحوادث لا يقسمنه وجرمً ُ - في الحقيقة - مثل جَمْرٍ ... ولكن الحروفَ به عكسنه)
وقال:
(وسخط الظباء بما نالها ... تولد منه رضا الحابل)
فكيف يعبر صاحبنا عن هذا المعنى بأسلوبه الجحوي الرائع:
يخبرنا الرواة أن جحا سافر - ذات مرة - لزيارة بنتيه، وكان زوج أولاهما زارعا وزوج الأخرى فخاريا: يصنع الفخار ويبيعه.
فعرج على الأولى يسألها: كيف أنت؟
فأجابته - بخير يا أبتاه - إذا أغاثنا الله في هذا العام بما نأمله من الغيث. فادع لنا الله سبحانه أن ينزل علينا أمطاراً غزيرة تحيي موات أرضنا، وتجلب لنا ما نرجوه من رخاء وهناء.
ثم عرج على الأخرى، ولما سألها عن حالها أجابته:
نحن بخير - يا أبتاه - إذا أنقطع الغيث عنا هذا العام. فأدع لنا الله أن يكف عنا المطر حتى ينجو من البوار والتلف ما عندنا من الآنية والتحف التي جهدنا في صنعها من الفخار والخزف.
فخرج صاحبنا وهو لا يدري بأي الدعوتين يبتهل إلى الله؟ فمصيبة هذه فائدة تلك. واستجابة إحدى الدعوتين - كما ترى - شقاء إحدى بنتيه وهناء الأخرى، ولا مناص من ذلكم على أي الحالين؟
وفي هذه القصة تعبير رائع عن قول المتنبي الذي أسلفناه:
(بذا قضت الأيام ما بين أهلها ... مصائب قوم عند قوم فوائد
ثم يخبرنا الرواة أيضاً: إن لصاً سرق منه عشرين دينارا. فذهب جحا إلى المسجد ضارعا إلى الله أن يعيدها إليه. وأراد الله سبحانه أن يلهم تاجراً من أهل القرية كادت العواصف أن تغرق سفينته أن ينذر لذلكم الرجل الصالح عشرين ديناراً إذا كتب الله السلامة لمركبه.
فلما ظفر التاجر بالسلامة، وفى لصاحبنا بنذره بعد أن قص عليه قصته.
فأطرق جحا برأسه إلى الأرض ثم قال بعد تأمل عميق:
(تباركت يا رب في علاك: لو إنني سلفت أحداً غيرك هذا المبلغ لأعاده في هدوء، دون أن يخطر على باله أن يزعج أحداً ويعرض حياته للتلف، ليرد مبلغي إليّ)
وهو - كما ترى - تعبير جحوي بارع ينطوي - في فكاهته - على أقصى الجد المرير. وفي هذا يقول في بعض خواطره:
وهكذا ترك لي (أبو مرة ظالم بن الحارث) زاده كله، فرحت آكل من طعامه هنيئاً مريئاً بعد أن هيأت لي كوارثه ونكباته، ما لم تهيئه لي مباهجها ومسراته.
إلى أن يقول: وكم سعد سعيد بشقوة شقي، وللقدر تصريف خفي. وغرق مركب بمن فيه، ولم ينج أحد من راكبيه، فهلك السفر والربان، وراحوا زاداً للسمك والحيتان.
ثم هذا كله فكان ماذا؟
قامت المنادب في ديار الغرقى والمناحات، وأعلنت الأفراح في قاع البحر وعمت المباهج والمسرات. ولولا غرق المركب بمن فيه من الناس، لما تم للسمك ما يطمح إليه من بشر وإيناس، ولما أقام الولائم والأعراس. وكم للقدر من عجائب وفنون، ولله في خلقه شؤون.
(البقية في العدد القادم)
كامل كيلاني