مجلة الرسالة/العدد 665/البريد الأدبي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 665/البريد الأدبي

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 04 - 1946



كيف صار والد المرحوم أحمد حسنين باشا أزهريا؟

كان الشيخ محمد حسنين البولاقي من كبار علماء الدين في الأزهر، وكان أبوه من عظام أمراء البحر في الأسطول، وكان العرف المتبع أن يكون التعليم المدني للخاصة والتعليم الديني للعامة، فكيف صار أبن أمير البحر الأرستقراطي أزهرياً؟

حدثنا صديقنا الأستاذ محمود حسن زناتي عن أبيه - وكان أبوه رحمه الله أستاذاً للطيب الذكر المغفور له أحمد حسنين باشا - أن الصبي محمد حسنين وقع في نفسه منذ صغره أن يقرأ القرآن ويحفظ آداب الدين، وازداد هذا الميل فيه حتى سأل أبوه أن يرسله إلى الأزهر. فسخر منه أبوه وأمره ألا يجري هذا الأمر على لسانه وألا يخطره بباله، فتوسل إليه بالشيخ الانبابي شيخ الأزهر إذ ذاك فلم يقبل الوسيلة. وأصر الابن على طلبه، وأصر الأب على رفضه، وزاد على ذلك أن توعده بالطرد أن أصر على هذه المعرة. ولكن العاطفة الدينية كانت تعصف برأس الغلام عصفاً شديداً فلم يحفل بوعيد أبيه، ودخل الأزهر وأوى إلى الشيخ الانبابي فآواه وأكرم مثواه وأنفق عليه حتى بلغ الغاية من الفقه في الدين والتبحر في علوم العربية. ثم ظفر بشهادة العالمية وارتقى إلى كرسي من كراسي الأزهر.

وفي ذات يوم دعا شيخ الأزهر أمير البحر إلى داره فلبى الدعوة، وعرض عليه أن يزور الأزهر فقبل العرض، وعلى حلقة من حلقات الدروس أزدحم فيها الطلاب وأصطف حولها الوقوف، وقف الشيخ الانبابي وسأل أمير البحر: أتعرف هذا العالم الشاب يا باشا؟ فحدق الباشا في العالم ثم فغر فاه وقال دهشاً: هذا أبني محمد! فقال الشيخ الانبابي في لهجة لا تخلو من تأنيب وسخرية: نعم هو أبنك محمد يا باشا؟ وإني أناشدك الله أن تقول الحق: أيكما أعظم قدراً عند الناس وأرفع مكانة عند الله؟ فلم يسع الباشا إلا أن يقول: هو ولا شك.

ومنذ ذلك اليوم كان الشيخ محمد حسنين ابن الباشا يغدو إلى الأزهر ويروح إلى القصر في عربة فخمة يجرها جوادان مطهمان!

من أخلاق العلماء: وعلى ذكر الشيخ الأنبابي روى لنا الصديق موقفا من مواقفه التي يعتز بها الخلق ويكرم فيها الدين؛ وخلاصته أن اللورد كورمر رغب في أن يزور شيخ الأزهر، وكان الشيخ الأنبابي قد جعل إدارة الأزهر في داره بحي الظاهر، فلما كلموه في أمر تلك الزيارة أنكر أن يكون للورد معه شأن، ولما قبل أن يزوره وسئل كيف يستقبله أبى أن يلقاه على باب الدار، وصمم أن يسلم عليه وهو قاعد. فقالوا له إنه كبير الإنجليز وقد يجد في هذا اللقاء إهانة له ولقومه، وخير من ذلك أن نجلسه في غرفة ثم يدخل الشيخ عليه فيقف هو وينتهي الأمر. فقال: هذه حيلة وأنا اكره الالتواء والتحليل، وسألقاه على الوجه الذي أختاره فدعوني وإياه.

وأقبل اللورد كورمر في جبروته وسلطانه فاستقبلوه استقبال الملوك؛ ودخل على الشيخ في البهو وفي يديه قبعته فلم يهتز الشيخ ولم يقف. إنما رد التحية وصافح اللورد وهو قاعد، ثم قال لكبير من كبار المصريين كان حاضر الزيارة: قل للورد إني أحترمه، ولكني سلمت عليه قاعداً لأن ديني ينهاني أن أقوم له. فانحنى اللورد وأثنى وشكره، ثم قال بعد ذلك لمن معه: هذا أول شيخ رأيته في مصر يكرم نفسه ويحترم دينه!

الأستاذ منصور جاب الله:

كان الأستاذ منصور جاب الله كالشمعة التي تحترق لتضئ ما حولها. كان أديبا ملء إهابه، وكان فناناً ملء ردنيه، أتخذ الأدب غاية، ولم يلتمسه وسيلة، فتعفف عن التكسب به على وفرة إنتاجه، وعلى أنه لم يكن شيء من الثراء قل أو كثر، وإنما كان غني النفس عفيف القلب طاهر اليد واللسان.

وكان رحمه الله آية الوفاء للصحب والأصدقاء، وإذ يعوزه أن يسد خلة لأحد منهم، أو تتقاصر يده عن معونتهم، يعمد إلى مساعدتهم بأدبه، فيكتب لهم المحاضرات أو المقالات التي تدر عليهم المكاسب، لا يقتضي على ذلك أجراً إلا المثوبة من عند الله. ولقد عرفنا فيما عرفنا عنه أنه كان يساعد بعض إخوانه الذين نالوا درجات جامعية عالية، فيعد لهم المراجع وينسق لهم الفصول والأبواب، ثم يصوغ الرسالة في صيغتها النهائية، ثم يتقدم بها الطالب فينال درجة الدكتوراه أو الماجستير!! إذن مات هذا الأديب المغمور، فهل ذكره أحد؟ أو نعته صحيفة من تلك الصحف التي كان يرسل فيها قلمه فياضاً جزلا؟ لم يذكره أحد، وجزى الله صديقه الأستاذ عبد اللطيف النشار إذ أنشد على قبره هذه الأبيات:

على (منصور) يبكي قارئوه ... فقد عرفوا له صدق الزماع

تنسك في اليفاعة للأمالي ... أخبت في الشبيبة لليراع

فكان بجده كهلا وشيخا ... فعاش كفاء أعمار تباع

له صغرى عجالات وضاء ... وكبرى ذات حسن وامتناع

فيا أسفا عليه وقد توارى ... وراء الغيب كالشفق المشاع

رحم الله الفقيد وعوض فيه الأدب خيرا.

فؤاد علي الأديب

جامعة فاروق - كلية الآداب

ملاحظة على مقال (غزل الفقهاء)

طالعت للأستاذ الكبير الطنطاوي في عدد الرسالة الأخير مقالاً ممتعاً عن (غزل الفقهاء) وقد نسب فيه ألف الشاعر الفقيه (عروة بن أذينة) ببيتين من الشعر هما:

قالت (وأبثثتها وجدي فبحت به) ... قد كنت عندي تحب الستر، فاستتر

ألست تبصر من حولي؟ فقلت لها: ... غطَّى هواك وما ألقي علي بصري

ولكني كنت أطالع في كتاب (شاعر الغزل) للأستاذ الكبير عباس العقاد فوجدته في صفحة 132 ينسب هذين البيتين ألف الشاعر الغزلي (عمر بن أبي ربيعة) المخزومي الذي لم يشتهر بالتنسك والتفقه وإنما بالتشبيب ومتابعة النساء في خلواتهن.

إبراهيم عبد المجيد الترزي

(مهد العرب) للدكتور عبد الوهاب عزام

مهما تباينت آراء النقاد في مقدار تأثير البيئة في الأدب فلا مفر لفهم هذا الأدب فهما صحيحا في دراسة بيئته التي أمدته بالغذاء، وتعهدته بالنمو، وأحاطته بالرعاية، واستمد عناصره من مشاهدها، والأدب العربي لا يزال يعوزه ليسهل هضمه تلك الدراسات التي تتناول بيئاته الطبيعية لاتصال تلك الآثار الأدبية ببعض الأماكن، أو القبائل، أو الحيوان، أو النبات أو القصص، مما يعين على استكناه روح البيئة التي ولدت ونشأت تلك الآثار بين أحضانها. فكانت هذه الدراسة الموجزة، الوافية لمهد العرب عاملاً قوياً يتكئ عليه طلاب الأدب العربي عامة، وقديمة خاصة؛ لأنها تجلوا لهم هذا المهد الذي كان له في حياة العالم السياسية، الاجتماعية، والروحية، والأدبية، أعظم الأثر، وبعين الباحث الأدبي على تمثيل هذا الشعر واستمراء روحه، وتعمق مراميه، والوصول ألف أهدافه، مما عجز عن القيام به المعاجم والشروح التي تتعلق بالألفاظ والأساليب، وهذا الكتاب يقوم على وصف الجزيرة العربية الطبيعي؛ وأقسامها وأعلام بلدانها؛ ومحالها؛ ووصل كل هذا بطرف مما يتصل به من الأشعار والأخبار والأساطير في غير توسع ولا تعمق، وذكر فيها أمهات القبائل ومواطنها فتناول بالكلام مهد العرب والجزيرة وأقسامها وما يتصل بكل قسم من بعض الأخبار والشعر، فتناول الحجاز مولد الإسلام ومبعث النور الذي تتجه إليه الأوجه والقلوب كل حين، ويملأ كل قلب أليه حنين

بهذا الروح القوي أستلهم - الدكتور - تلك الأماكن التي توحي بأروع الآيات التي تصور بهاء ذلك الماضي الحافل الذي يلقي في النفس الجلال، ويشيع فيها الخشوع، وهكذا تكلم عن نجد، والأحساء، واليمن، وحضرموت، والربع الخالي، وعدد سكان الجزيرة في القديم والحديث، تناول كل هذا التشتيت المبعثر، ونسقه عقداً جميلاً؛ بهذا الأسلوب الأدبي الجزل؛ فكان خير ما يقدم بين يدي الدراسات الأدبية والتاريخية.

محمد عبد الحليم أبو زيد