مجلة الرسالة/العدد 664/كافور الإخشيدي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 664/كافور الإخشيدي

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 03 - 1946



للأستاذ أحمد رمزي

احتدم الجدال في إحدى الليالي بين مصري وعراقي، فقال الأول: (رحم الله الحجاج بن يوسف الثقفي)؛ ورد عليه الثاني وقد تملكته سورة الغضب: (رحم الله كافوراً الإخشيدي). وأشتد حنق المصري إذ وجدها كبيرة على نفسه أن يحكم بلاده كافور، فلما ألقى إليَّ ذلك قلت: (يا صاحبي لا تحزن، إن أبا المسك الأستاذ كافور كان أميراً من أكبر الأمراء، وعاهلاً من اعظم ملوك المسلمين بمصر، ويزيد بلادنا فخراً أن تولاها مثله كما لا ينقص من قدره سواد لونه، بل في ذلك دليل على علو همته. وأن لونه لم يقعد به عن بلوغ أعلى المراتب، ودليل على إننا لا نفرق بين الأبيض والأسود، لأننا جميعاً سواء. وإذا اخذ عليك ولاية كافور علينا، فقل أن ملكة شمس مصر والشام، وإنه كان يخطب له على المنابر بمكة والمدينة والحجاز جميعه ودمشق وحلب وإنطاكية والثغور وفيها طرسوس والمصيصة وغيرها من الأقاليم التي خضعت لسطوته ودامت لسلطانه كما ذكره الفرغاني ونقله ابن خلكان في ترجمته لكافور. فإذا وجدت معرة بكافور فاسأل غيرنا تجدهم قد شاركونا فيها، فكيف وليس في الأمر ممرة علينا، بل مفخرة لنا؟)

(أليس كافور من أبناء السودان، وكلنا ننشد الوحدة الشاملة؟ فكيف تستكثر على أحد أبنائه ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحته؟ وهل كان كافور عاطلاً هملاً حتى تؤاخذنا به، أو نبرأ من ولايته وإمارته، وهو الذي قال فيه أبو الطيب المتنبي برغم تحامله بعد ذلك عليه:

قواصد كافور توارك غيره ... ومن قصد البحر استقل السواقيا

فجاءت بنا إنسان عين زمانه ... وخلَّت بياضاً خلفها ومآقيا

وهو القائل فيه:

فإن لم يكن إلا أبو المسك أو هُمُ ... فإنك أحلى في فؤادي وأعذبُ

وكل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب)

قال: (أو لم تسمع بقارع الهجاء وشنيع الذم؟) قلت: (إذن فلنتخذ ما تنشره جرائدنا ومجلاتنا الحزبية دليلاً على إفلاسنا وفنائنا، فمتى كان يقام وزن للهجاء والتشنيع الذي يمليه الحقد والنفس الموتورة؟) أما أنا فآخذ بما ذكره الذهبي عن كافور إذ قال: (كان يدني الشعراء ويجيزهم، وكانت تقرأ عنده في كل ليلة السير وأخبار الدولتين الأموية والعباسية. وكان عظيم الحرمة، وله حجاب)؛ ثم قال: (إنه تقدم لدى الإخشيدي صاحب مصر لعقله ورأيه وسعده إلى أن صار من كبار القواد، ثم أتابك ولده أبي القاسم أنوجور، ووصل إلى زاد ملكه على ملك مولاه الإخشيد). وتكلم على مقدرته وكفايته وحسن تدبيره فقال: (إنه كان خبيراً بالسياسة فطناً ذكياً جيد العقل داهية)، وضرب مثلاً لذلك حين قال: (إنه كان يهادي المعز صاحب المغرب ويظهر ميله إليه وكان يذعن بالطاعة لبني العباس، ويداري ويخدع هؤلاء وهؤلاء حتى تم له الأمر). أليس في ذلك دليل على قوته؟

وأذكر لك ما عثرت عليه من أن كافور كان أول من غزا، ولازمه التوفيق في فتح الأقاليم النوبية، فقد هاجمها قبله أبو منصور تكين التركي هي وبرقة في عام واحد، ولم يتم فتحها على يديه. ولما غزاها كافور كان التوفيق حليفه، لأن جيش المسلمين كان من السودان، وفي ذلك يقول الشاعر:

ولما غزا كافور دنقلة غدا ... بجيش كطول الأرض في مثلها عرض

غزا الأسود السودان في رونق الضحى ... ولما التقى الجمعان أظلمت الأرض

فهو أول من تمت الوحدة على يديه. وهو حامل لواء الإسلام والعروبة في أراضي السودان. ولو شئت أن تعلم عن كافور وأيام كافور وأياديه البيضاء وأنفاسه الطاهرة ومجده وسلطانه وحسن بلائه، فعليك بكتب التأريخ تنبئك عن عقل ودراية وحكمة وسياسة وحسن تصريف للأمور وفهم للناس وطباعهم، وهذه أشياء شهد له بها المعاصرون ووفوه حقه فيها. أما نحن فنرى فيه رجلاً عظيماً من عظماء القرن الرابع الهجري، خدم بإخلاص مولاه الإخشيد، وصان استقلال مصر لسنوات، وواجهته المصاعب والمشاكل والحروب فتغلب عليها وخرج من مآزقها، وهو بطل من أبطال تأريخ مصر العربية، ولذلك تجدني من أنصار كافور ومن المعجبين به ومن الداعين لحفظ ذكراه، ولو كان من الأمر شيء، لبحثت عن قبره، وأقمت قبة عليه، ثم لطلبت من أولي الأمر في مصر والسودان أن يطلق أسمه على ميدان أو شارع بالقاهرة وأم درمان والخرطوم، صيانة لذكره وإقراراً لفضله، وتوكيداً لصلات مصر والسودان.

فإذا كان الأميركان من الملونين يبحثون عن صورة بوشكين الشاعر الروسي المشهور، ويضعونها في أحسن مكان لصلة القربى معهم لسمرة لونه، فكيف ينكر فضل كافور وهو ملك من اعظم الملوك؟ ولم لا يقوم السودان ويقعد له ويحتفي به وهو منه وإليه منسوب؟

إنني يا صديقي لا أتفق معك ولا أجاريك في قولك بأن الوطنية والكرامة تمليان حذف أسمه وسيرته وعهده من كتب التأريخ، بل أقول: إنهما تمليان علينا نشر فضائله ومحاسنه؛ وإنني كلما تأملت في عصر أستاذنا أبي المسك كافور وقرأت عنه وعن أخلاقه وسيرته بين الناس، بدت شخصيته ممتازة محبوبة عليها وقار واحترام وحشمة، لا بأعماله السياسية وحياته العامة، وهي ليست موضع نزاع، بل بأدبه وتواضعه وخضوعه لأحكام الله، وكرمه وإخلاصه لمن حوله، ولصلاته ودأبه على عمل الخير وإسداء المعروف، وهي نواح إن أهملتها بعض كتب التاريخ، فقد وجدت مبعثرة، ولذلك رأيت أن أشير إليها.

قال إبراهيم بن إسماعيل إمام مسجد الزبير: (إن كافوراً كان يداوم الجلوس بالغداة والعشي لقضاء حوائج الناس وكان يتهجد ويمرّغ وجهه ساجداً ويقول: (اللهم لا تسلط عليّ مخلوقاً). وكان لا يأنف من أصله ومولده، ويحمد الله إن رفع من قدره، وينسب ما لقي من خير إلى توفيق الله ونعمته. فقد ذكر أبو بكر المارداني، وكان وزيراً لكافور ولأبي منصور تكين التركي: (إن كافوراً كان دائم التحدث بنعمة الله عليه، ويذكر أيامه بالسودان، وكيف جيء به إلى مصر وعمره أربع عشرة سنة). وحدّث أنه كان بمدينة الفسطاط في السوق المنسوية لبني حباسة طباخ يبيع الطعام، فعبر كافور في شبابه وطلب منه شيئاً من الطعام، فضربه بالمغرفة على يده وهي حادة، فوقع مغشياً عليه فأخذه رجل ورشّ عليه الماء، وأواه حتى وجد العافية. قال: (فكلما عزّت عليه نفسه يذكر ما أصابه من الطباخ، وقد يركب ويأتي إلى ذلك الزقاق، ويسجد شكراً لله على نعمائه). وكان يفعل ذلك في إبان ملكه ومجده وعظمته.

قلت لصاحبي وقد يكون في ذلك بعض المبالغة من أصحاب السير؛ ولكن ما الحكمة في ذلك وكافور لم يعقب نسلاً ولم يترك أهلاً ولم تصمد دولته بعده ليتملقها الكتّاب والمؤرخون؟ وهذه ناحية أخرى تحبب إليّ الرجل: هي فهمه للناس وعطفه عليهم وأخذهم باللين مع تعاليه عن تصديق الوقيعة وقبول الفتن. فقد ذكر ابن خلكان في ترجمة الشريف ابن طباطبا ولا يزال قبره يزار بقرافة الإمام الشافعي: (أنه كان طاهراً كريماً فاضلاً صاحب ضياع ونعمة ظاهرة وعبيد وحاشية؛ وكان يرسل لكافور في كل يومين جامين حلوى ورغيفاً في منديل مختوم، فحسده بعض الأعيان وقال لكافور (الحلو حسن فما لهذا الرغيف فأنه لا يحسن أن يقابلك به) فأرسل إليه كافور يعتذر عن قبول الرغيف، فركب الشريف إليه وعلم أنهم قد دسوا عليه، فلما اجتمع به قال له: (أيّدك الله إنا لا ننفذ الرغيف تطاولاً وتعاظماً، وإنما هي صبية حسنية تعجنه بيدها وتخبزه فنرسله إليك على سبيل التبرّك، فإن كرهته قطعناه) فقال كافور: (لا والله لا تقطعه ولا يكون قوتي سواه).

وكان محدثي قوياً لا يلين، فيه عنجهية من بقايا القرون التي سبقت الإسلام والرسالة المحمدية، فهو مصر على التفرقة بين الناس حسب ألوانهم كما قسم هتلر الناس وصنف الشعوب أصنافاً، فقلت له إن ابن زولاق، وهو حجة في الموضوع، قد اعترف لكافور فقال: (إنه كان ديِّناً كريماً)، فانظر ما نقله صاحب الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة عن ابن المجلي في تأريخه، إذ قال:

حدثني أبو الحسن البغدادي قال: (وردت إلى مصر وأنا مع أبي وكنت دون البلوغ في أيام كافور الإخشيدي، وكان أبو بكر المجلي يتولى نفقة كافور ومصالحه وخواص خدمته، فانتسجت بينه وبين أبي مودة، فكان يأتي إلى أبي ويزوره، فجلس في بعض الأيام يتحدث ويتذاكر أخبار كافور، فقال أبو بكر لأبي وأنا أسمع: إن هذا الأستاذ كافور له في كل عيد أضحى عادة، وهو إنه سلّم إليّ بغلاً محملاً ذهباً وورقاً وأمضى مع صاحب الشرطة ونطوف من بعد العشاء إلى آخر الليل حتى أسلم ذلك لكل من أجد أسمه في تلك الجريدة فأطرق أبوابهم وأقول لهم هذا من عند أبي المسك كافور.

وقال أبو جعفر مسلم بن عبد الله بن طاهر العلوي النسابة: ما رأيت أكرم من كافور: كنت أسايره يوماً وهو في موكب نظيف يريد النزهة وبين يديه عدة جنائب، فوقعت مقرعته من يده، ولم يرها، فنزلت عن دابتي وأخذتها من الأرض، فقال: أيها الشريف أعوذ بالله من بلوغ الغاية، ما ظننت أن الزمان يلفّني حتى تفعل أنت هذا معي، وكاد يبكي. . . فقلت: أنا صنيعة الأستاذ ووليه. فلما بلغ داره ودّعني. ولما سرت ألتفت، فإذا بالجنائب والبغال كلها خلفي. فقلت: ما هذا؟ قالوا: أمر الأستاذ أن يحمل مركبه إليك بجنائبه. فأدخلته داري، وكانت قيمته تزيد على خمسة عشر ألف دينار!

تلك أقاصيص موزعة مفرقة أوقعتني الصدف عليها في مواضع متعددة، وهي تكشف الطريق لنا لبحث نفسية كافور، فهذا رجل وصل إلى درجة من أعلى درجات عصره وكانت تهابه الدنيا، فانظر إلى تواضعه وخجله، وإلى نفسه الهادئة المطمئنة، وقس على ذلك فقاقيع الرجال ممن نلقاهم كل يوم، وهم لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم من الأمر شيئاً تراهم يخفون ضعفهم بالتظاهر بالقوة، وجهلهم بتعاليهم على الناس، وهم في مشيتهم وغطرستهم وحديثهم وما يبدو في وجوههم مضحكة ومهزأة للعصر الذي نعيش فيه وللعصور القادمة: بسم الله الرحمن الرحيم (يا أيها الناس، ضرب مثل فاستمعوا له، إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً، ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه. ضعف الطالب والمطلوب) صدق الله العظيم.

وفي ذي القعدة سنة 362 هـ، وهي السنة التي قدم فيها المعز لدين الله إلى القاهرة من بلاد المغرب، ركب لكسر خليج القنطرة، فكسر بين يديه، ثم سار على شاطئ النيل حتى بلغ إلى بني وائل، ومر على سطح الجرف في موكب عظيم، وخلفه وجوه أهل الدولة، ومعهم أبو جعفر أحمد بن نصر يسير في ركابه، ويعرفه بالمواضع التي يجتاز عليها، وتجمعت الرعية للدعاء له، ثم عطف على بركة الحبش، ثم على الصحراء، وسار على الخندق الذي حفره القائد جوهر، ومر على قبر كافور، وعلى قبر ابن طباطبا الحسني، ثم عاد إلى قصره.

عثرت على هذا النص عرضاً، فوقفت مندهشاً أمام النصوص التي تقول: بأن تابوت كافور نقل إلى القدس ودفن بها وكتب على قبره:

ما بال قبرك يا كافور منفرداً ... بصحصح الموت بعد العسكر اللجب؟

يدوس قبرك آحاد الرجال وقد ... كانت أسود الثرى تخشاك في الكتب

ودخلت بحراً يموج بالمسائل، وكلها تحتاج لتحقيق، وسنرى ما يكون من أمرها.

أحمد رمزي

القنصل العام السابق لمصر بسوريا ولبنان