مجلة الرسالة/العدد 664/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 664/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 25 - 03 - 1946



قصة ألبانية:

المهد الذهبي. . .

(مهداة للأستاذ الكبير كامل كيلاني)

نقلها الأديبان:

وهبي إسماعيل حقي وإبراهيم خير الله

- 4 -

أخذ (محمود) طريقه إلى بيته - بعد أن فارق فريداً - وهو يكاد يطير من شدة الفرح، يلقي التحية على من يقابله من إخوانه، ويريد تحياتهم بثغر باسم، ووجه باش، وصوت يشيع فيه السرور. . . وإن رأسه لميدان فسيح تتسابق فيه الأفكار حول المشروعات العمرانية والثقافية التي أراد أن يشق بها طريقه إلى الخلود والمجد، فسيكون أول مكشف يجلو عن جبين التاريخ الألباني العظيم ما غمض من حقيقة. وسيتسع بذلك أفق حياته، ويصبح إنساناً آخر غير محمود المدرس الذي خرج في صباح هذا اليوم إلى المدرسة يعمل جاهداً طول نهاره، ويعود متعباً مع الليل. سيصبح (مليونيراً) ترنو إليه العيون، وتشير إلية الأصابع، ويسير في ركابه الاحترام. وإنه لمشغول بهذه الأفكار إذ مر به صديقه فتحي ماشياً على حذر خشية أن تزلق رجله فيسقط في الوحل، ولقد اختلس النظر إلى محمود على ضوء الكهرباء التي أنارت الطريق، لكنه لم يخطر له على بال أن محموداً سيكون - بين عشية وضحاها - مذكوراً على كل لسان، وموضوع حديث كل إنسان، وأن اسمه سيتداول مع الأجيال المقبلة، لما وفق إلية من اكتشافات غيرت وجه التاريخ، وسجلته مع الخالدين. . .

إن المظاهر الخارجية قد تعتبر تعبيراً صادقا عما تنطوي عليه نفس الإنسان، من نعيم أو شقاء، أو حزن أو سرور؛ فإن فتحي قد رأى محموداً ولم يلحظ فيه التحول، وكذلك لم يلحظ فيه هذا التحول، وكذلك لم تلحظه أمه ولا أخواته الثلاث عندما جلس معهن على المائدٍة، ليؤنسهن، ويسامرهن، فقد تناول عشاءه في منزل فريد. ولقد رأيته أكثر سروراً منه في ك وقت، ولكن لم يمتد بهن الخيال أبعد من أن نجاحه في عمله المدرسي وتمتعه بثقة أصدقائه هو الذي يضفي عليه ثوب هذا السرور دائماً.

إن الإنسان ليضيق به المكان، ولا يستطيع الاستقرار فيه إذ اأفعمه الفرح، وكذلك كان محمود؛ فقد استحال عليه أن يقنع نفسه بالبقاء في المنزل، بعد أن فرغت أمه وأخواته من عشائهن، وانصرفن لبعض الشئون، فغادر البيت وليس له مقصد معين. ولما كان الوقت قريباً من شهر رمضان: والناس جادون في الاستعداد له، فإن المحال التجارية والمقاهي كانت تعمل إلى وقت متأخر من الليل، فراق لمحمود أن يذهب إلى المقهى ثانية يقضى فيه شطراً من هذا الليل، وقدر أنه سيتلاقى - حتما - مع فريد، فإنه لن يستطيع الصبر على الانتظار في البيت، ولكنه أخطأ التقدير، فلم يجد إلا شقيق التحية وقال: ما دمت قد حضرت فلن أكون وحدي. ثم جلسا متقابلين ونظر محمود إلى شفيق وقال وهو يبتسم: إن ملامح وجهك، ونبرات صوتك، تدلنا على تغير طرأ عليك فماذا بك يا شفيق؟

- لاشيء! وكيف أتغير؟

- لا أدري! ولكنك لست كما أنت في كل يوم.

- إن الإنسان لا يدوم على حال واحدة، وتلك سنة الطبيعة وناموس الوجود. وعسى الله أن يأتي بالفرح. وعندما نطق شفيق بهذه العبارة اجتهد أن يملك زمام نظرات محمود النفاذة إلى القلوب. ولكن محمودا وقد أراد التسلية، وقتل الوقت، فقد أمطر شفيقا وابلا من الأسئلة؛ فقال له: ألست من أصدقائك، ومن حقي أن أعرف ما حل بك؛ فقد أستطيع أن أمد لك يد المساعدة؟

- لم يحل بي مكروه، والحمد لله. ثم لماذا تسألني هذا السؤال؟

لأني رأيتك هذا اليوم في الطريق مهموما، وآية ذلك أنك لم تحينا. فتحرك شفيق في كرسيه في حركة عصبية وقال في شئ من الغضب: ذلك لأن لدي أشغالا هامة، فليس صديقك فريد هو المشغول وحده.

- ولماذا تقحم فريداً في الكلام وهو ليس معنا.

- إنه متكبر، يدل بثراء والده، ويضع نفسه في غير موضعها، وأولى له أن يطرح هذا جانباً وإنني أمقته لذلك.

- لو تعلم عنه مثل ما أعلم، ماخالجك شك في سمو خلقه، وصفاء نفسه، أنه مثل من أمثلة المروءة والنبل.

- أنا لا أعلم عنه إلا أن ثراء والده أفسد خلقه، ووأد مروءته، وإن الغني الذي يفاخر به ليس وقفا عليه؛ فربما أصبح أناس آخرون في وقت قريب أكثر منه ثراء، وأيسر منه حالا

- (اشقودراه) كبيرة وبها كثير من الأغنياء.

- نعم! ولكن أقصد أن من الممكن أن يظهر في سمائها أغنياء جدد فجأة لا يستطيع الخيال أن يصل إلى ما يملكون من مال. فاضطرب قلب محمود خوفا من أن يكون شفيق قد التق ببيرام وعلم من أخباره شيئا، ولكنه اجتهد في إخفاء تأثره وقال: نعم! ذلك ممكن وميسور، وإنه ليكفي الإنسان ليكون غنياً أن يربح (يا نصيب دوبلين).

- وما قيمة (اليانصيب)؟. إن سبلا كثيرة للغنى تنفتح أمامك، إذا أسعدك الحظ، وواتتك الظروف.

- وماذا تكون هذه السبل؟ بربك دلني على إحداها!

- ها أنت تسخر من كلامي! ولكن حقا توجد طريق كثيرة

- أنا لا أنكر أنها توحد! ولكني أومن بأن الحظ لن يحالفك أبداً.

- وأنى لك ذلك؟ ألأنه خدم صديقك فريداً، أم ماذا؟

- وما شأن فريد هنا، لكل إنسان خطة في الحياة.

- على كل حال، سأحدثك بعد قليل. ثم سكتا وقتاً تشتت فيه فكر محمود واعتقد أن شفيقاً قد اشتم عبير الكنز - لا محالة - وأن بيراما - لابد - وأن يكون قد خانهما. ولم يتحول عن هذا الاعتقاد إلا عندما قال شفيق: هل تعرف شيئاً عن مادة (أبونوس).

- نعم أعرفه! ولماذا؟

- ما قيمة هذا المعدن بين المعادن الأخرى؟

- إن قيمته عظيمة! كالذهب تقريبا، ولكن لماذا تسألني عنه؟ هل اكتشفت منجما؟

- إن لم أكن قد اكتشفته فسأكتشفه قريبا. فقال محمود ضاحكا - بعد أن اطمأن أن بيرام لم يفلت من يدهم، وأن شفيقا إنما يحلم بآبار من (أبونواس): أرجوك ألا تنساني يا شفيق، ثم أخذ الحديث مجري آخر إلى أن انتصف الليل فقام كل منهما إلى منزله. وقد آثر محمود أن يسلك إلى بيته طريقا طويلا يمر بمنزل فريد، رجاء أن يقابله بيرام عائداً فإن ميعاده قد حان، ولكنه لم يصادفه.

قضى محمود ليلة (نابغية) فقد أخذ موضعه من سريره، ولكن النوم ضل طريقه إلى عينيه، فلم يغمض له جفن. وقد تمثلت له حوادث النهار حقائق لا يعتريها شك، ولا يتسرب إليها وهم. ولقد امتد به الخيال فذهب يرافقه السيد عفت ونجله فريد إلى (دومن) وقابلو بيراما في بيته وأرشدهم إلى الكهف وقادهم في مسالكه ورأوا بأنفسهم ما احتواه الكهف من ذهب نضار، وتماثيل عجيبة، انفسح لها مجال الفخر بأن يد الزمن عجزت أن تمتد لها بسوء طوال هذه القرون البعيدة، التي مرت بها، وفي هذا دلالة على أن صانعها في ذلك العهد الغابر قد ضرب في جودة الفن بسهم وافر. وأن الألبان أهل حضارة قديمة، ومدينة عريقة، وهذا الكهف بما فيه شاهد عدل، وحجة دامغة على من يدعى الإنكار.

وهاهي ذي الأزيار الكبيرة قد امتلأت بالذهب ولا يعلم إلا الله وحده متى جمع هذا الذهب؟ ومن أين جمع؟ ومن جمعه؟ فقد تكون الجنود الألبانية المنتصرة قد غنمته من عدو مغلوب في ذلك العهد البعيد، أو تكون الحكومة القائمة آنذاك قد استبدلت به الأسرى والسبايا التي عادت بها جيوشها المظفرة، أو تكون قد جمعت من أفراد الشعب ظلما بأيدي حكام طغاة ضلت الرحمة طريقها إلى قلوبهم. . .

وهاهي ذي قد زالت من الوجود الوسائل والغابات التي جمع بها ومن أجلها هذا الذهب، وبقي هو ليبدأ اليوم صفحة جديدة في حياة أناس آخرين لا صلة تربطهم - في الواقع - بمن جمعه، ولم يقدروا في يوم ما أن القدر قد كتب لهم في سجل حياتهم هذه السعادة، وهذا النعيم.

ها هو ذا القنديل المعلق في وسط الكهف يقرأ علينا من أخبار ذلك القصر العظيم الذي كان يشع فيه ضوؤه، ويقص علينا من تاريخ أهله العجب العجيب، فهؤلاء أمراء الأجناد وأبطال الحرب ينتظم عقدهم كل مساء إذا أوغل الليل، يدبرون مع الحاكم خطط الهجوم على العدو، ويتشاورون في أنجح الطرق وأضمن الوسائل للتغلب عليه، وإن عددهم ليتناقص واحداً واحدا على مر الأيام حتى لم يبق منهم أحد، فقد فنوا جميعا، ولحق بهم الملك بعد قليل - سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا. ولقد قام على أنقاضهم جماعة فهموا الحياة فهما آخر فكان وقتهم موزعا بين الرقص والغناء وغيرهما مما يشيع البهجة والسرور في النفس، ويمسح عن القلب ما يكون قد علق به مما يباعد بينه وبين الانشراح.

وقد طوى الزمن هؤلاء وأولئك فأصبحوا تاريخا يسرد وبقيت وحدي تذكاراً لذلك الماضي البعيد. . .

المهد في زاوية من زوايا الكهف يتحدث في صلف عن أولئك الملوك الذين تأرجحوا فيه أطفالا وداعبوا فيه صغارهم حكاما كباراً، وهم معقد رجاء الأمة، وملتقى آمال الشعب.

دارت كل هذه الخواطر في رأس محمود فباعدت بينه وبين النوم إلى أن طلعت الشمس، فهب من سريره واستبدل ملابسه وأسرع إلى منزل فريد، وكله شوق إلى رؤية ما استحضره بيرام من العينات.

ولكنه لما دخل على فريد، ورأى الألم والحزن مرتسمين على صفحة وجهه، والقلق والاضطراب في حركاته وسكناته قال له: ماذا بك؟ ألم يأت بيرام بعد؟

- لقد انتظرته إلى طلوع الشمس. لكنه لم يأت.

- كيف ذلك؟ أتراه كان يهزأ بنا؟

- لا أدري! وإني متعب جداً ولم أذق طعم الراحة طيلة الليل وأود أن أستريح فأذن لي، فخرج محمود وترك فريداً يستعد للنوم. ولما كان في الطريق غير بعيد عن منزل فريد رأى السيد لطفي يذهب ويجئ - في طول الشارع وعرضه - كأنه يراقب من في المنزل، أو كأنه على موعد مع أحد، فعجب من وجوده هذا الوقت المبكر في هذا المكان، الذي ليس لأحد فيه صلة به، ثم في سرعة البرق تذكر ما دار بينه وبين شفيق في الليلة المنصرمة، وبدأ يتسرب الشك إلى قلبه، وكان قد حاذاه، فحياه تحيه الصباح، فرد لطفي تحيته في صوت مضطرب خافت، وبدا عليه شئ من الارتباك، فقد كان يود ألا يراه أحد من أصدقائه في وقفته تلك. أما محمود فقد أسرع في طريقه إلى المدرسة شارد التفكير، حائر اللب، يود أن يعرف لماذا تأخير بيرام؟ ولماذا وقف لطفي أمام منزل فريد بالذات في هذه الساعة المبكرة وقد أحس في نفسه شعوراً قويا بأن شفيقا وصديقه لطفي إنما يقومان معا بعمل مشترك، وليس بعيداً أن يكونا قد أوقعا بيراما في الشرك. ولقد طغى هذا الشعور على محمود - وكان قريباً من المدرسة - فرأى أن من الحيطة أن يرجع، ويقف فريدا على ما كان من شفيق ليلة أمس، وأنه رأى السيد لطفي الآن يدور حول منزله، ويطلعه على إحساسه من أن شفيقاً ولطفي يعملان معاً لغرض مشترك. وبينما هو عائد لمح من بعيد السيد لطفي يتحدث في كثير من الاهتمام إلى قروي ربط رأسه بمنديل أحمر ستر كثيراً من وجهه، بحيث يصعب على إنسان لم يكن رآه كثيراً - أن يعرف من هو، ولكن محموداً أحس إحساسا قويا أن هذا القروي لن يكون غير بيرام، فاندفع نحوهما بغضب وقال بحدة:

- أين كنت يا بيرام؟ لماذا لم تجئ الليلة كما وعدت؟ أتكذب علينا؟

- تمهل يا سيدي! ولا تجعل للغضب سبيلا إلى قلبك، فسأقص عليكم كل شئ.

وهنا يدخل السيد لطفي، وقال لمحمود بصوت شاع فيه الغضب. . . . . .:

- إن هذا الرجل لا سلطان لك عليه، فقد تكلم معي أولا وليس من حقك أن تقف معنا، فامض في طريقك، ولا تتدخل فيما ليس من شأنك.

- كيف تقول إنه تكلم معك أولا؟ إنه أكد الأيمان أنه لم يسبقنا إلى معرفة أمره أحد.

- لا أريد أن أعرف ماذا قال لكم، ولكن أريد أن تفهم أنه مرتبط معي فقط.

- معك أنت؟ قال محمود هذه الكلمة بغضب شديد، دل عليه احمرار وجهه، وبريق عينيه، وتقلص شفتيه، وخشونة صوته

ثم تراميا بألفاظ شديدة اللهجة قوية الوقع. . . ولكن بيراما قد وضع حداً لهذا التراشق بالشتائم؛ فقد صاح فيها:

- مهلا أيها الفاضلان! فلست مرتبطا مع أحد منكما، فلا تقتتلا من أجلي، فمهمتي في هذا المنزل. وأشار إلى منزل السيد عفت والد فريد: فقال محمود:

- حسن! عليك أن تذهب إلية الآن.

فابتعد السيد لطفي عنهما وقال مهدداً متوعداً:

- اذهبا حيث شئتما، وسنرى.

(البقية في العدد القادم)