مجلة الرسالة/العدد 663/من صميم الواقع:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 663/من صميم الواقع:

ملاحظات: بتاريخ: 18 - 03 - 1946



الكأس الأولى. . .

للأستاذ علي الطنطاوي

أكثر الموظفين قد شربوا هذه (الكأس الأولى) فصاروا من

بعدها سكارى ما يصحون، ولا ينتصحون. . وهذه قصة

(الكأس الأولى) فانظروا من هو المسئول عنها: آالذي أخذ

الرشوة، أم الذي أعطاها، أم الذي أمر بها، أم الحكومة التي

قللت المرتب فدفعت إليها؟

كانت ليلة مخيفة من ليالي شتاء سنة 1941، وكانت تعول رياحها كما تصرخ الشياطين، وترقص في الجو كأنها مردة الجحيم قد أفلتت من قيودها، وأقبلت تلذع ووجوه الناس بمثل حد المواسي من شدة بردها، ولثلج يتطاير كأنه القطن المندوف، ويتراكم على الأبواب والنوافذ، حتى لقد بلغ سمكه على الأعتاب وفي أصول الجدران قريباً من ذراع، والناي قد فرغوا إلى بيوتهم فاعتصموا بها، وخلت الشوارع وأقفرت السبل فلا ترى فبها سالكاً. . .

في تلك الليلة، كانت نوبة عبد المؤمن أفندي في مخفر (الكسوة): يقضي ليلته وحيداً يرقب الطريق ليحرسه من المهربين والفارين من المكس (الجمرك)، ومن مخالفي أنظمة التموين، منفرداً بعيداً عن رفاقه وعن مساكن القرية، وكان قد أخذ معه على عادته طعامه وسلاحه، ولبس كل ما يملك من دثر الصوف، واشتمل بمعطفه، ولف عليه شملته، وأدخل كفيه في قفازيه، وأغلق عليه بابه، وأوقد ناره، وأضطجع على سريره مطمئناً إلى أن أحداً لن يجتاز الليلة هذا الطريق إلا إذا كان مجنوناً والمجنون لا يؤاخذ. . . وحاول أن يهجع ساعة فيدفأ فلم يستطع لا خوفاً من أن يطرقه المفتش، فما في الدولة مفتش يخرج الليلة من بيته، بل من شدة البرد، فلقد كان النفس يتجمد على زجاج الشباك. . . ثم استدارت الريح فجعلت ترد الدخان على المدفأة حتى امتلأت به الغرفة ولم يجد لدفعه حيلة، فأضطر لإطفاء النار ولبث يتقلب في البرد حتى أحس بان أصابعه قد تجمد فيها الدم، فامتلأت نفسه بالنقمة على هذه الوظيفة وعلى حظه من الدنيا، وعلى الرئيس الذي ألقاه في هذه القفرة المنقطعة بعيداً عن زوجته وبنته وولديه بمرقب لا يتجاوز مائة ليرة سورية (نحو أحد عشر جنيهاً) وهو قد أشرف على الأربعين وقطع سن الأمل والنشاط، ونظر فإذا الذين هم دونه سناً وعلماً قد بلغوا بالوساطات والشفاعات المرتبة الخامسة أو الرابعة. . . وفكر في هذا المرتب ماذا يشتري به، وكيف يعيش. . . وأجرة داره الصغيرة المخربة التي أستأجرها من قبل الحرب ثلاثون ليرة في الشهر، وثمن رغيف الخبز من السوق عشرون قرشاً، وكيلو اللحم بخمس ليرات، وكيلو الرز المصري بأربع ليرات والسكر مثله، وكيلو الشاي بعشرين ليرة، والحذاء المتوسط بثلاثين، وثمن القميص مهما استرخصه عشرون، وأجرة الطبيب العادي المبتدئ خمس ليرات، وحبة الكينا الواحدة بأربعين قرشاً، ولوح الزجاج إن انكسر زجاج الشباك سبع ليرات. . .

وطفق يدير حسابه على الوجوه كلها، ويضرب الأخماس بالأسداس، ويتذكر كل ما تعلمه في المدرسة وفي الحياة من علم الاقتصاد وفن تدبير المنزل، وما سمعه من أشياخ قومه وعجائز أسرته، فلم يسعفهشيء من ذلك كله في الاكتفاء بهذا المرتب، وقصر مصروفه عليه، وتذكر ولده الصغير وأن أثمان كتبه بلغت أربعين ليرة. . . أما كتب ولده الكبير الطالب في الثانوية فإن مجرد التفكير في أثمانها يفقده ما بقى من عقله، وإذا هو أكمل الثانوية غداً، ودخل كلية الحقوق مثلاً. . . رأى بلاء أنكد وخطباً أشد، ذلك أن الأساتذة قد استحدثوا في هذه الأيام شيئاً سبقوا فيه التجار والمحتكرين، وأتوا بما لم يأته أحد من الأولين، فطبعوا كتبهم في مطبعة الجامعة، ثم حددوا لها أثماناً تجعل قرش أحدهم عشرة، ثم ألزموا الطلاب بشرائها إلزاماً، فلا يدخل الامتحان من لا يدفع هذه الأثمان، وحجتهم في ذلك أن الطلاب لا يشترونها إذا هم لم يجبروهم، مع أن الطلاب وغير الطلاب يشترون كتب العلماء والأدباء من غير إكراه ولا إلزام، لأنها نافعة لهم ولأن فيها متعة، فلماذا لا يجعل هؤلاء الأساتذة كتبهم ممتعة ويجعلون فيها نفعاً. . .؟ وماذا يصنع عبد المؤمن أفندي! أيدع ابنه محروماً من التعليم، ويضيع هذا الذكاء النادر الذي راعت بوادره المدرسين، ويسلمه إلى وظيفة حقيرة مثل وظيفته، لا لشيء، بل لأن المدرسين والأساتذة المحترمين ذاقوا لذة الربح، فنسوا فضيلة القناعة، ولأن وزارة المعارف وإدارة الجامعة، لا تحددان الأسعار، ولا تمنعان الأساتيذ أن يكونوا كالتجار.

وعى عبد المؤمن أفندي بهذا الحساب، وأحس بالبرد قد وصل إلى عظامه، فازدادت نقمته على الوظيفة وعلى الحياة وعلى نفسه. وعظم سخطه حين سمع صوت سيارة. . . من هذا المأفون الذي يمر الليلة على الطريق، فيزعجه من فراشه ليخرج فيفتشه؟ إنها سيارة مهربين من غير شك، ولابد له من ضبطها لئلا يخون أمانته التي يأكل من ورائها الخبز. ثم عاد فتذكر أن الخبز الأبيض القفار لم يستطع أن يأكله من وراء هذه الوظيفة، فحمل مصباحه البترولي وخرج وهو ساخط على كل شيء. فلما فتح الباب، هبت عليه عاصفة مثلجة كاد تقتلعه من أرضه، ولكنه استند إلى الجدار وقفز إلى الطريق، فأقفله بالحواجز الحديدية قبل أن تصل السيارة. . . وصفر لها بصفارته، فضاع صوتها في هزيم الرياح؛ بيد أن السيارة كانت قد وصلت ورأى من فيها المصباح الخافت، فوقفت، فنظر عبد المؤمن أفندي فلم يجد فيها إلا السائق، ووجدها من سيارات الشحن الكبار، وكانت عادته التي يعرفونها عنه أنه يقوم بالواجب عليه على الوجه الأكمل، ولم يمد يده في عمره إلى حرام، ولكن هذا البرد، وما في نفسه من السخط والضيق عدلا به عن عادته، فاكتفى بإدخال السائق إلى المخفر ليسأله. . . وأغلق وراءه الباب، وأعد مسدسه خوفاً من أن تطمع وحدته السائق وتغريه به، وكان عبد المؤمن أفندي رجلاً جلداً جريئاً حذراً، وكانت قد تراءت على وجهه ظلال نقمته التي كان يحسها، فبدا مخيفاً مروعاً.

ونظر إلى السائق فإذا هو أحد المهربين المعروفين الذين يقودون القوافل بين عمان ودمشق عن طريق البادية، وربما بلغت أثمان ما في السيارة الواحدة منها مائة ألف ليرة. . . فهز رأسه، وأزمع أن يضربه الضربة القاضية، فما يعقل أن يأخذ السائق أجرة السفرة الواحدة عشرين ألف ليرة، ويعطى مثلها رشوة لرجال الأمن على الطريق، ثم يأكل التاجر الباقي، يسحبه من أفواه المساكين والفقراء. . . ويبقى هو الموظف المسكين على مائة ليرة كل شهر، وقال له:

- أوراقك، والبيان المصدق بما معك في السيارة. ثم إن عليك أن تنتظر ريثما تهدأ العاصفة ويطلع النهار لنتمكن من تفتيشها فإذا كان فيها مهرب، صودرت السيارة وما فيها!

قال السائق: أتحب الصدق؟ - قال: نعم.

قال: وهل تعدني أن نتفاهم بهدوء، ومن غير لجوء إلى الشدة، أو اقتراب من الهاتف (التليفون)؟

قال عبد المؤمن أفندي مستغرباً: وما ذاك؟

- قال: إن في هذه السيارة بضاعة مهربة، هي لفلان، وهو من تعلم مكانته وصلته بالنواب والحاكمين، وله فيها شريك لو سميته لك لأرعبك أسمه، وإذا أنت حجزتها، أطلقها هو، وأبت بسواد الوجه، وربما نقلك إلى الجزيرة. . .

- فصاح به: أسكت. . وقح! أتهددني؟ سترى كيف أفتشها وأحجزها، وأذهب فأعمل ما تستطيعه. إن القانون يمشي على الكبير والصغير. . .

- قال الرجل بهدوء: لقد وصفتني بالوقاحة، وإني أسامحك. إني أتكلم بلسان الواقع، وأنا أحب أن نتفاهم على مهل. إنك رجل أمين شريف، وأنا تقديراً لأمانتك أهدي إليك هدية، قد فوضني صاحب البضاعة بتقديمها إليك، تغنيك عن هذا المرتب.

فغضب وقال: أتعرض علي الرشوة؟ الآن أكتب ضبطاً بالحادث، وأريك ما جزاء من. . .

فوالى السائق كلامه وكأنه لم يسمع شيئاً فقال: وهذه الهدية هي عشرة آلاف ليرة. . .

فلما سمع بها عبد المؤمن أفندي تراخى، ورأى السائق ذلك منه، فقال:

وألف فوقها مني لتدعني أمر الآن، فهذا آخر مخفر قبل دمشق، وأنا أود أن أدخلها في هذه العاصفة كيلا يعرض لنا أحد، وإذا أنا وقِّفت فلن أخبر مخلوقاً بما كان بيننا، بل أقول أني قادم من طريق آخر. . .

لبث عبد المؤمن أفندي لحظة واجماً، ولكن فكره كان يدور كما تدور عجلة (الاكسبرس)، لا يستقر على فكرة حتى ينتقل عنها إلى غيرها. وكان ماضيه الشريف، والمستقبل الذي أطل الآن عليه يتقاذفانه. فكأنه بينهما كراكب الأرجوحة، لا يبلغ طرفاً حتى يكر مسرعاً إلى الطرف الآخر. وكان صوت ضميره يهتف به أن: دعها ولا تدنس نفسك بها، فإنها سحت، ونفسه تناديه أن خذها ووسع بها على عيالك، وعلم بها ولدك. . . ولبث كذلك وهو يسمع من داخله مثل دقات عقرب الثواني في الساعة: خذ، لا تأخذ. خذ. لا تأخذ. إلى ما لا نهاية له. . .

وفي دقة منها، كان فيها (خذ)، مد يده فأخذ المبلغ ودسه في جيبه بلا شعور، وترك الرجل ينصرف.

أفاق عبد المؤمن أفندي من ذهلته، فأحس بمثل ما تحس به الفتاة التي فرطت ببكارتها في لحظة ضعف وخور، وتنبهت في نفسه عواطف الخير التي كان يملكا دفعة واحدة، وأحتقر نفسه وأبغضها وكره المال، وتمنى لو استطاع أن يلحق الرجل فيردها إليه، ورأى ماضيه الذي فقده حلواً جميلاً، وأحب ذلك الفقر الشريف، واستحال ما كان يجد من السخط عليه رغبة فيه وشوقاً إليه، وفكر كيف يلقي غداً أهله وصحبه، وتوهم انه سيكون بينهم كمن سقط في حفرة موحلة فامتلأت ثيابه طيناً، ثم جاء ليجالس الأطهار الأنقياء، وشعر بجسمه يتلهب كأن فيه ناراً تتوهج، وبالعرق يقطر في هذا البرد من فوْدَيه. . . وصار كلما حركت الريح الباب ظن أنهم قد جاءوا لاعتقاله، وأن أمره قد افتضح، وحار في هذا المال أين يخفيه، فوضعه في جيبه، ثم خاف أن يفتش، فنزع حذاءه وجواربه، فأحاط به رجله ثم لبسها عليه، ثم تراءى له أن أول مكان يفتش هو الجوارب، أليس كذلك كان يصنع كلما فتش مهربي الحشيش والهنات الصغيرات؟ وآلمه أن يرى نفسه قد انحطت إلى دركة مهربي الحشيش، ولكنه مع ذلك مضطر إلى إخفاء هذا المال، فأخرجه ولفه في منديل، ثم خلع سراويله ووضعه في المكان الذي لا يصل إليه أحد. . . وعاد يفكر ماذا يصنع بهذا المال، وماذا يقول لأولاده إذا سألوه من أين لك هذا؟ وما ألف الكذب ولا تعوده، وان هو كذب ألا تفضحه نظراته وحركاته؟ ثم ما هي الكذبة التي يكذبها؟ وتصور نفسه أمام المحكمة العسكرية، وقد سقط في أعين أولاده وأصحابه. . . إن زوجته تؤثر أن تراه فقيراً معدماً، على أن يدخل عليها سارقاً مرتشياً. . . واستغرق في خواطره. . . فما نبهه إلا حركة في الطريق، فأيقن أنهم جاءوا لاعتقاله، ففزع إلى مسدسه ليقتل به نفسه، ثم تذكر أن أشد المصائب أهون من أن يموت عاصياً، وأنها فضيحة الدنيا بين الرفاق، ولا فضيحة الآخرة على عيون الخلائق كلها. فمشى بنفسه إلى القضاء المحتوم، وفتح الباب، وكانت الرياح قد هدأت قليلاً والثلج قد أنقطع، فرأى سيارة مطفأة الأضواء قد تعثرت بالحواجز التي كان أعادها من غير شعور منه بالذي يفعله، وحاول سائقها أن يدوس الحواجز ويفر، ولكنها علقت بالدواليب واعترضت سيرها فاضطر إلى الوقوف، بعد حركة عنيفة كاد يطوّح فيها بالسيارة فيرميها في الأخدود الماثل على جنبي الطريق. . .

وصرخ عليه عبد المؤمن أفندي ومسدسه بيده، فخرج من السيارة وتبعه إلى المخفر وهو مصفر الوجه، مرتعد الأوصال، إذ كان حديث عهد بصناعة التهريب ليس له جرأة الأول وثباته، وأقبل على الجندي فزعاً يقول: دخيلك، أنا في عرضك، والله هذه أول مرة، وقد ورطوني، وليس لدي إلا هذه السيارة، هي مالي كله ومنها معيشة عيالي. . .

وانكب على يديه يقبلها، فتنبهت غزيرة الطمع في نفس الجندي، وعاد مثله مثل هذا الرجل الذي أقدم على الفاحشة، ثم ندم عليها وذهب يحاول التوبة، فدخلت عليه امرأة أخرى قد لبست بدل الثياب الفتنة والإغراء ودعته إلى نفسها. . . وقال للسائق:

- دعك من هذا الكلام الذي لا يفيد. لا بد من مصادرة السيارة وما فيها، إلا إذاشيءت أن نتفاهم. . .

وكان شعور عبد المؤمن أفندي، وهو يقول هذه الكلمة، وقد توترت أعصابه كلها واشتدت، وقد تجمع كالقط الذي يرى الفأر، مثل شعور المقدم على الوصال المحرّم، وهو يرى قبح عمله ولكن الميل إليه غالب عليه، فهو لا يملك لشهوته رداً، ولما رأى السائق لا يفهم، ويعود إلى استعطافه ورجائه، تجرأ وقال له:

باختصار: كم فوضوك أن تدفع؟ ثم نظر حواليه هل سمعه أحد؟ وحول وجهه حتى لا تقع عينه على عين السائق، وغلب عليه الحياء إذ كانت تلك أول مرة. . . فرأى السائق باب الفرج، وقال عاجلاً، الذي تريده، الذي تأمر به، بَسّْ أسمح لي أمر.

قال: اثنا عشر ألف ليرة! وتوهم لما قالها أنه قذف قنبلة ذرية أخرى، كالتي ألقيت على هيروشيما، وأحس رجتها في أذنيه. . . فارتاع الرجل وصاح: أرجوك، أنا داخل على حريمك، والله ما معي إلا خمسة آلاف، إن السيارة محملة غزلاً، وليس كالتي مرت قبلها، تلك فيها حرير. قال: هات وأمشِ.

وقبض عبد المؤمن أفندي المبلغ فصار معه ستة عشر ألفاً، مرتب مائة وستين شهراً في الوظيفة كسبها في ليلة، فكيف غفل عن هذا المورد أيامه الماضية كلها. . . وعاد يفكر في الشرف والطهر وفي الفضيحة. . وأحس كأنه قد جن. . . ففتح الباب وخرج يعدو مع الريح لا يدري إلى أين يذهب. . . لقد كان يريد أن يفر من المخفر ومن الحكومة، ومن الرشوات، ومن صوت الضمير. . . ويريد أن يفر من نفسه!

ولم يدر أنه شرب (الكأس الأولى) وفسد، ولم يعد يصلحه شيء!

(دمشق)

علي الطنطاوي