مجلة الرسالة/العدد 662/القصص
مجلة الرسالة/العدد 662/القصص
قصة ألبانية:
المهد الذهبي
(مهداة إلى الأستاذ الكبير كامل كيلاني)
نقلها الأديبان:
وهبي إسماعيل حقي وإبراهيم خير الله
- 2 -
. . . يلعب الحظ أدواراً عجيبة في حياة الإنسان؛ فبينما هو يستيقظ من نومه مبكراً ليباشر كعادته عمله في غير رغبة ولا اشتياق، وهو لا يفكر إلا أن يومه سيمضي كأمسه في عمل آلي لا يشعر معه بلذة روحية ولا بقيمة ذاتية، وإذا بيد القدر تمتد إلى مجرى حياته، فتحولها إلى ناحية مضادة كلها نعيم وكلها سرور. . . إن نقطة التحول في حياتي بدأت منذ زارني القروي اليوم، فكأني به قد نزل من السماء ليهيئ لي حياة أهنأ وأسعد، حياة تلمع بأشعة الذهب الذي يمكن تبديله بأرقام ليست لها نهاية من النقود. . . .
حقا، إن بيرام نقطة الفصل في حياتي بين منطقتين: منطقة الماضي الصامت العابس، ومنطقة المستقبل الزاهر الباسم، وعلى ذلك فأنني سأمتع النفس بكل أنواع المتع ما دمت أمتلك نقوداً بهذه الكثرة. . . سأجوب كل البقاع، وأشتري يختا كبيرا أستخدمه في رحلاتي. . . . إن والدي سيدهش عندما يطلع على الموضوع. ترى هل في الكهف حجر لم يرها بيرام؟ وكم يكون عدد الكراسي؟ وهل كلها ذهب؟ إن العالم كله ستعتريه موجة من الاستغراب وسيقول: من أين لهذا الشيطان بكل هذا المال؟ لعل بيرام لا يتحدث إلى أحد في هذا الشأن. كان يجب أن أكم فاه بمبلغ كبير، عشرة جنيهات على الأقل، ليكون ذلك تشجيعاً له على السكوت، وإغراء لوالدته على تركه حراً. . . . ترى من هذا الذي هو معه على موعد؟ كم سينال الاستغراب من صديقي الوفي الأديب (محمود)؟ سأهدى إليه مكتبة قيمة تقديرا لإخلاصه. سأجهز له مكتبا فخما. لا أدري إن كان من المستحسن أن أ عليه القصة، أم أترك الظروف تتولى عني ذلك؟ وإن كنت على يقين أنه يستطيع أن يرشدني إلى ما يحسن عمله، كما يستطيع أن يعرف عهود تلك الآثار وقيمتها التاريخية؛ فهو أكثر مني ثقافة، وأطول تجربة، واعظم خبرة، وهو فوق ذلك مدرس نابه، وأديب ذائع الصيت؛ ولكن. . . . كم يكفيه من النقود للقيام بهذه المهمة؟ إنه يكاد يجب من فرط السرور عندما يقف على قيمة الكنوز المادية والتاريخية! على كل حال سأذهب إليه الساعة لأسرد له حكايتي، أنا في مسيس الحاجة إلى مخلص يأخذ بيدي إلى الطريق السوي، فهذا عمل شاق ومن غير المعقول أن أقوم به وحدي!
هذه هي بعض الخواطر التي كانت تمر بمخيلة فريد وهو يقطع الحجرة بعد أن غادره القروي على أن يعود إليه في المساء، ولم يقطع عليه سلسلة هذه الأفكار إلا دخول الكاتب يسأله عن رسائل اليوم وليستأذنه في الانصراف!
حرك فريد يديه حركة عصبية ولعن في نفسه المراسلات والمكاتبات، ثم إذن للكاتب أن ينصرف. ودعا الخادم وأمره أن يخبر الطاهي أن بعض الأصدقاء سيتناولون العشاء معه هنا في الساعة الخامسة، وأنه يود أن يكون الطعام فخما. وتناول عصاه وخرج ميمما صوب (الليسيه) ليقابل صديقه (محموداً) فقد وطد العزم على أن يستعين بنصائحه ويستفيد من إرشاداته. ولقد كانت السماء ملبدة بالغيوم، والمطر لا يكف عن الانهمار، والطريق بما تجمع فيه من ماء ووحل يتعب المارة ويلوث ملابسهم، ولكن فريداً كان عن كل ذلك في شغل، فهو لا يبالي، بل لا يشعر: أفي جفاف يمشي أم في وحل. فقد طرأت عليه فكرة سيطرت على كل حواسه وصرفته عن كل ما يحيط به، هذه الفكرة كانت في مبدئها فرضاً، ثم لم تلبث أن صارت في قوة الحقيقة الواقعة عنده، وهي لا يبعد أن تكون الأزيار مملوءة بنقود ذهبية قديمة، ثم غطيت بهذا الغبار حتى لا تمتد إليها يد عابثة. . . أربعة عشر زيراً. . . يالها من ثروة طائلة. . . سأهرِّب الأشياء ذات القيمة في أسرع وقت إلى الخارج، وسأضع النقود في بنوك سويسرا وإنجلترا، لأنها بنوك مضمونة. . . وإلى هنا كان قد وصل إلى المدرسة وعلم انه قد بقي عشر دقائق على خروج التلاميذ، فرأى أن ينتظر في الحديقة بعيدا عن الناس، وليخلو إلى نفسه ويواصل حديثها. وما إن أخذ موضعه منها حتى تساءل: ترى ما هي اللغة التي نقشت على اللوحات؟ أهي اللاتينية أم اليونانية القديمة؟ كم من المكتشفات ستحتل الميدان في الأيام القليلة المقبلة؟ سأترك فخر الاكتشاف لزميلي وصديقي (محمود) إني واثق انه سيعجب كثيرات حينما أشرح له مقابلتي لبيرام. . . وفي هذه اللحظة دوى في الفضاء صوت المؤذن منبعثا من مئذنة مسجد (فوش كلَس) يملأ الأرجاء:: (الله أكبر. . . الله أكبر!) دعوة يلبيها المؤمنون الصادقون الذين امتلأت قلوبهم من خشية الله، وترطبت ألسنتهم بذكر الله. . . فيسرعون لصلاة الظهر شكرا لله على نعمائه، وابتهالا إليه أن يوفقهم لرضائه. . . في نفس الوقت دقت أجراس الكنائس القريبة تستحث أتباع المسيح عليه السلام أن يبادروا إليها للتبرك! وفي هذه اللحظة أيضا بدأ الطلبة يخرجون من المدرسة زرافات ووحداناً مسرعين إلى بيوتهم لتناول الغداء، وكلهم يتأبط كتبه وأدواته؛ فرأى فريد صديقه محموداً خارجاً مع زميل له، فناداه، فاستأذن صديقه ولحق بفريد. . . وبعد أن تصافحا قال له: لماذا أنت هنا يا فريد ولست في المتجر؟
- جئت آخذك لتناول الغداء معاً، ولأقفك على موضوع هام.
- ماذا؟ هل تمت خطوبتك؟
- لا! ولكن لدي أخبار في نهاية الغرابة. فتعال معي إلى المنزل.
لا أستطيع؛ فإني سأعود بعد الظهر لا تمام دروسي.
- إنك عندما تعرف الخبر ستنسى الدروس ولن تفكر فيها بل ستلعنها ولا تذهب إليها.
- ما دمت تقول ذلك فسأجيء معك وأفوض أمري إلى الله. ثم أخذا طريقهما إلى منزل فريد الذي بدأ يقول لصديقه: لا شك يا محمود أننا سندهش (أشقودراه) بل العالم بأسره.
- لست أفهم هذه الألغاز يا عزيزي فأرجو أن تفصح.
- لقد عثرت على كنز! فنظر إليه محمود في استغراب وقال: بربك قل الصدق ماذا بك اليوم؟ فقد تغير فيك كل شيء.
أؤكد لك أني وجدت كنزا.
بالله لا تهزأ بي، أنت الذي وجدته؟
- لا! ولكن قرويا جاءني في صباح اليوم وأفضى إلي أنه عثر عليه مصادفة، وشرح له فريد ما كان من بيرام فتعجب محمود وقال: وهل وقع كلام القروي منك موقع الصدق؟
- ولم لا؟ ومن أين لقروي مثله خيال يحسن سبك مثل هذا الموضوع بمثل هذه المهارة؟ إن من يفعل ذلك لا بد وان يكون قد قرأ على أقل تقدير عجائب الكشف عن آثار (توت عنخ آمون) ذلكم الملك المصري القديم. ولكن أني لبيرام وهو الأمي الذي لا يقرأ أن يطلع على ذلك ويخترع مثله؟ وإنك ستسمع منه بأذنيك وستحكم كما حكمت أنا - استنادا على طيبته - بصدق قوله.
حرك محمود رأسه دهشة واستغرابا وكانا قد وصلا إلى البيت واستدار حول المائدة، وأخذ كل منهما يتكلم بهواه ويدلل لرأيه، قال فريد: إن قيمة الكنز المادية - وان كانت عظيمة - إلا أنها ليست بشيء يذكر بجانب قيمته التاريخية.
لا زلت أشك فمن المستحيل أن تكون هذه حقيقة؛ إن الرجل قد رأى كل هذا في المنام.
- في بعض اللحظات كان يعتريني مثل هذا الشك، ولكن نظرات القروي، وملامح وجهه، وسذاجة حديثه، جعلني أعتقد صدق خبره، وستجعلك كل هذه الأشياء تعتقد مرغما كما اعتقدت.
- كل شيء ممكن في هذه الدنيا!
ألا تكون هذه الآثار يا محمود من زمن أجدادنا (الإلير)؟
- لا أعتقد، فإن التاريخ لم يحدث عنهم أنهم برعوا في النقش على الأحجار وعمل التماثيل وأن كان غير بعيد أن يكونوا قد أخذوا هذه الآثار وهذه التماثيل من معابد يونانية؛ فقد ذكر التاريخ أنهم أغاروا على شواطئ بحر اليونان كثيراً. وقد يكون الملك (غنس) قد خبأ هذه الكنوز قبل معركته الأخيرة مع الرومان التي أسر فيها.
- لو كان هذا الفرض صحيحاً لكان كشفاً عظيما جداً. ونسى محمود أنه يأكل من فرط سروره بهذا الفرض، بل نسى انه فرض وتخيله حقيقة ناصعة، وأنه أول من اهتدى إليها فذاع صيته وخلد اسمه في صفحة كبار المكتشفين فقد أزاح الستار عن فترة من تاريخ ألبانيا كانت في زوايا الجهل فانتصب واقفاً والشركة لا زالت في يده وأخذ يخطو في الحجرة إلى نهايتها ثم يعود ببطء ثم كف المشي فجأة وقال بصوت ضعيف: لعل الحروف المنقوشة في الرخام تلقي لنا ضوءاً على اللغة الألبانية، ولعلنا نجد لهذه المسألة أدلة (إليرية) وان كان الشك لا زال يساورني. وكنا نستطيع أن نحكم على أفكار (هاهن) الذي يقول: إن أصل اللغة لهجة (البلازغ) وكذلك رأي (ماير) الذي يقول: إن أصلها من لهجة (إليرية). . . مستحيل أن يكون هذا حقيقة، وإلا كانت سعادة لا تعدلها في الدنيا سعادة، وكان فتحا جديداً في تاريخنا القومي العظيم.
لم يفهم فريد من كلام صديقه شيئاً فقد كان مشغولا بتقدير الأرقام الكثيرة التي يمكن تبديل الكنوز بها من النقود وكيفية إنفاقها. لكنه نادى محموداً وقال له: إن شهرتي - كصياد - ذائعة في (أشقودراه) فإذا حملت بندقيتي ورافقني كلبي واتجهت خارج المدينة نحو الغابة، فإن الأنظار لا تلتفت إليّ، وبذلك أستطيع أن أرى بنفسي محتويات الكهف على أن أكون مع بيرام على موعد، ولكن! بعد أن أطلع على الأشياء التي سيأتيني بها الليلة.
ترك محمود دروسه بعد الظهر وبقي مع فريد في حجرة الطعام يشربان القهوة بعد القهوة، ويدخنان (السيجارة) بعد (السيجارة) ينتظران بصبر قليل وشوق كثير عودة بيرام، وكانا كلما سمعا طرقاً بالباب قفزا من مقعديهما يستبينان الطارق، وقبيل الساعة الخامسة وصل بيرام وبعد أن تصافحوا قال فريد لبيرام مشيراً إلى محمود:
- الأستاذ محمود، صديق مخلص، ومدرس نابه، يحمل أرفع الشهادات، ويكتب في أرقى الصحف والمجلات. وإننا في أشد الاحتياج إليه ليقفنا على قيمة الكنوز التاريخية. فقال القروي في غير استغراب، تشرفنا يا سيد محمود؛ ثم التفت إلى فريد وقال: أنت أعرف بما يفيدنا وبمن يفيدنا في هذه المهمة، وقد اعتمدت بعد الله عليك فتصرف أنت حسبما تريد. فقال فريد: ولكن لينمحي كل أثر في نفس محمود يود أن يسمع منك وصفاً مجملا لكيفية عثورك على الكهف من الوقت الذي وقعت فيه فأسك على البلاط لأول مرة، فشرع القروي يقص عليهما في هدوء ما سبق أن تحدث به فريد الصباح. وقد حاول محمود أن يتأكد إن كان صادقاً حقاً، فأمطره وابلا من الأسئلة التفصيلية كان يجيب بيرام عليها بمهارة حملت محموداً على الاعتقاد بأن ما يقوله حق لا مرية فيه.
كانت المائدة قد أعدت فأخذوا يتناولون الطعام ونظر فريد ومحمود لم يرفعا عن بيرام الذي كان يأكل في غير نهم ولا شره وهو يجيب على ما يوجه إليه في هدوء ورزانة. وبعد أن انتهوا من طعامهم شربوا جميعاً القهوة واستأذن بيرام في الانصراف، وقبل أن يأذنا له أكد عليه ألا يتأخر عن المجيء بالعينات الليلة مهما تكبد من مشقة. وذكره فريد بما يلزم الإتيان به فطمأنهما بيرام بقوله: لكما ما تريدان. والتفت إلى فريد وقال: سآتي بما أمرت به يا سيدي. ثم مد يده مصافحا، فاستوقفه فريد وأسر إليه: هل أنت في حاجة إلى نقود أخرى؟ فقال بيرام بصوت مسموع. - لا يا سيدي لا يلزمني شيء! ماذا أفعل بها؟ ثم خرج. ولما عاد فريد إلى مجلسه نظر إلى محمود يستطلع رأيه في إجابات القروي وكل حديثه، وسأله عن الأثر الذي تركته مقابلته له. فقال محمود: ألا تعتقد معي أننا لو أدمنا التفكير في هذه المسألة لذهبت عقولنا من فرط السرور؟ وأي إنسان يعتوره أدني شك في كلام هذا الرجل الساذج؟
وبينما هما منهمكان في حديثهما هذا وإذا باب الحجرة يفتح ويدخل السيد عفت والد فريد ويحييهما تحية المساء. ثم صافح صديق ابنه والتفت إلى فريد وقال: لقد انتظرتك في المتجر فلم لم تجيء؟ فقال فريد في سرور:
- شغلني عن المجيء أمر مهم سيدر علينا مالاً كبيراً، فرفع الرجل عينيه وتأمل ابنه مليا في دهشة واستغراب كأنه يستوضحه فقال له فريد: سأقص عليك حكاية غريبة. فأخذ الرجل يجيل طرفه في وجهي الشابين اللذين كانت تلمع عيناهما سرورا؛ فلم يشأ فريد أن يطيل حيرته فأخبره بمجيء القروي في الصباح وما كان منه وانه كان معهما منذ قليل، وقد فارقهما على أن يعود حاملا عينة مما وجد. . .
تعجب السيد عفت مما سمع، ولم يصدق بادئ ذي بدء لكنه أذعن أخيراً عندما أكد له محمود الخبر وأنه ناقش بيرام كثيراً، ووجه إليه أسئلة عديدة وأن بيرام كان يجيب دون تردد ولا تلعثم، ثم هو فوق ذلك أكبر من أن تحوم حوله الشبهات، فهو سليم القلب، طيب النفس، نقي الضمير. . . ومع إذعان السيد عفت لم يبد عليه أن هذا الخبر سره كثيرا كما فعل الشابان فقد جلسوا معا وقتا غير قصير تدور أحاديثهم حول الموضوع، فلما لمس الشابان أنه لا يشاركهما الفرح استأذناه في الخروج.