مجلة الرسالة/العدد 660/الكذب والنسيان
مجلة الرسالة/العدد 660/الكذب والنسيان
كما يراهما (أبو العلاء المعري)
الأستاذ كامل كيلاني
- 2 -
10 - َقْصُرالُكْنيةَ
ثم راح يعاتبه على قصر كنيته، بعد أن امتدحه في رسالته تلك بإنه قد برأنظمه من الضرورات التي يضطر إليها غيره من الشعراء، فقال بعد بيان ممتع: فمن هجر هذه الضرورات وغيرها مما ذكرته لطال به الكتاب، كالتقديم والتأخير، والفرق بين المضاف والمضاف إليه. . فكيف استجار أن يقصر كنية صديقه. أما السمة (أي: الإسم) فغيرها، وأما الكنية فقصرها. فإنا لله وإنا إليه راجعون. هذا أمر من الله، ليس من ضعف الشاعر ولا وهن القائل، ولكنه من سوء الحظ لمن خواطب، والاتفاق الردئ لمن سُمِّى وذكر.
11 - ضرورات الشعر
ثم قال وأبدع: ولا يقل سيدي الشيخ - أدام الله عزه - قد قصرت الشعراء، قديمها ومولدها، وأولها السالف وآخرها، وفصيحها الطبيعي ومتكلفها.
فإنه لو كان استعمل ضرورة غير تلك لقبلت حجته. ولكنه ألغى الضرورات بأسرها، ورفض العيوب فلم يستعملها. وإنما تنوثت من ذلك لأني قصير الهمة، قصير اليد، مقصور النظر (أي: لازم له) محبوس فيه. فما كفاني ذلك مع قصر الجسم حتى يضاف إليه قصر الاسم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
12 - سبب نسيان
وما زال المعري ينتقل في هذه الرسالة من طرفة، ومن دليل إلى دليل، وهو يدس في أثناء مديحه عتابه، ويمزج شهد الكلام وصابه، حتى كشف لنا عن سر ذهول صاحبه عن اسمه. فقال: وفي كتابة - أدام الله عزه - شكوى رعشة، وما أعرف سبباً يؤدي إلى ذلك إلا أن يكون الافراط في درس العلم، فقد قال الشاعر: أرعشتني الخمر من إدمانها ... ولقد أُرِعشْتُ من ير كبر
والعجب أن المعري كان لا يخشى من مصائب الدهر إلا أن تسلمه الشيخوخة إلى الذهول والنسيان وتفضى به إلى الهتر والخبال، فقال في لزومياته:
وما أتوقى والخطوب كثيرة ... يد الدهر إلا أن يَحُل بي الُهْترُ
والهتر - وقاكم الله ووقانا شره - هو ذهاب العقل من كبر، أو حزن. ولقد ظل شيخنا محتفظا ًبيقظة ذهنه ورجاحة عقله حتى لحن ذات يوم، فتننبأله بعض خاصته يدنو أجله، وصح ظنه فمات بعد أيام قلائل.
أما النسيان فيعلله المعري في رسالته الغفران أبرع تعليل في حوار ابن القارح والجنى أبي هدرش. يقول ابن القارح: (أيها الشيخ، لقد بقي عليك حفظك) فيقول الجني: (لسنا مثلكم يا بني آدم يغلب علينا النسيان والرطوبة، لأنكم خلقتم من حما مسنون، وخلقنا من مارج من نار).
13 - طول الأمد
وإذا علل أحد الشعراء نسيانه بفرط الحب، فقال:
(وحبك قد أنساني الشي في يدي ... وأذهلني عن كل أمر أحاله)
فإن المعري يرى أن طول الأمد كفيل بنسيان كل شئ، فيقول في لزومياته:
(كل ذكر من بعده نسيان ... وتمر الدهور والأزمانُ
ويقول:
سيُنْسىَ كل ما الأقوام فيه ... ويختلط الشآمي باليماني
ويقول:
وسوف ننسى فنمسى عند عارفنا ... ومالنا في أقاصي الوهم أشباحُ
ويقول:
سيسأل ناس ما قريش ومكة ... كما قال ناس ما جديس وما طسم
أرى الدهر يفنى انفسا بفنائه ... ويمضي فما ببقى الحديث ولا الرسمُ
14 - الهول والفزع والمعزى يرى أن الهول والفزع ينسيان أذكر الناس وأذكاهم، فنرى في غفرانه صاحبه ابن القارح يسأل الخليل بن أحمد في الجنة عن أبيات ينسبها الرواة إليه فيقول الخليل:
(لا أذكر شيئاً من ذلك، ويجوز أن يكون ما قيل حقاً) فيقول ابن القارح: (أنسيت يا أبا عبد الرحمن وأنت أذكى العرب في عصرك؟) فيقول الخليل: ((إن عبور الصراط ينفض الخلد مما استودع).
ونرى أبا العلاء يتخيل صاحبه ابن القارح وهو يسأل (تميم ابن أُبَيَ) عن معنى كلمة المرانة التي وردت في قوله:
(يا دار سلمى خلاءً لا أُكلِّفها ... إلا المرَانةَ حتى تسأم الدّنيا)
فيقول تميم: (ما أردت بالمرانة فقد قيل إنك أردت اسم امرأة وقيل هي اسم أمة، وقيل العادة) فيقول تميم: (والله ما دخلت من باب الفردوس ومعي كلمة من الشعر أو الرجز. وذلك أنني حوسبت حساباً شديداً، وقيل لي كنت فيمن قاتل (علي بن أبي طالب) وانبرى إلى النجاشي الحارثي، فلما أفلتُّ من اللهب حتى سَفعتني سفعات. وإن حفظك لمبُقِّى عليك. كأنك لم تشهد أهوال الحساب الخ.
15 - هول الموت
أما هول الموت فينسي كل شيء ويذهل الشجاع عن كل شيء. قال المعري:
والموت ينسي كَمِيَّ الحرب صارمه ... ودرْعهُ وفتاة الحي مِجْولَها
وقال:
وأظنني أن لست أذكر بعده ... ما كان من يُسر ومن إملاق
16 - نشوة الخمر
وقد رأينا - فيما سبق - كيف رأى في الخمر مذهلاً له عن كُرْبتهِ، منسياً لغربته، فتمنى أن تصبح حلالا لتذهله عن همومه وأحزانه، فلا يفوتنا أن نذكر قوله في لزومياته:
(أيأتي نبي يجعل الخمر طِلْقة ... فتحمل ثِقلا من همومي وأحزاني
وهيهات لو حلت لما كنت شارباً ... مخففة في الحكم كِفَّة ميزاني)
17 - شعر آدم والمعري يقول في لزومياته في معرْض الإشارة إلى نسيان الشيخ آدم أبي الخليقة:
احتج في الغي بالنسيان والدهم ... وقد غووا بادكار، لا أقول: نَسُوا
ويقول في غفرانه، متخيلاً صاحبه ابن القارح وقد عمد لمحله في الجنان، فيلقي آدم عليه السلام، في الطريق، فيقول: يا أبانا صلى الله عليك، وقد روُي لنا عنك شعر، منه قولك:
(نحن بنو الأرض وسكانها ... منها خلقنا وإليها نعودْ
والسعد لا يبقى لأصحابه ... والنحس تمحوه ليالي السعودْ)
فيقول: (إن هذا القول حق. وما نطقه إلا بعض الحكماء. ولكني لم أسمع به إلا الساعة.
فيقول: (فلعلك يا أبانا قلته ثم نسيت فقد علمت أن النسيان متسرع إليك. وحسبك شهيداً على ذلك الآية المتلوة في قرآن محمد (ص): (ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما) وقد زعم بعض العلماء أنك سميت إناساً لنسيانك، واحتج على ذلك بقولهم في التصغير: (أَنيْسِيان) وفي الجمع أناسي. وقد روى أن الإنسان من النسيان، عن ابن عباس. وقال الطائي:
لا تنسَيَن تلك العهود، وإنما ... سميت إنساناً لأنك ناسي
فيقول آدم (ص) أبيتم إلا عقوقاً وأذية: إنما كنت أتكلم العربية وأنا في الجنة. فلما هبطت الأرض نقل لساني إلى السريانية فلم أنطق بغيرها إلى أن هلكت. فلما ردني الله سبحانه وتعالى إلى الجنة عادت على العربية. فأي حين نظمت هذا الشعر. في العاجلة أم الآجلة. والذي قال ذلك يجب أن يكون قاله وهو في الدار الماكرة. ألا ترى قوله: (منها خلقنا وإليها نعود) فكيف أقول هذا القول ولساني سرياني. وأما الجنة قبل أن أخرج منها فلم أكن أدري بالموت فيها، وأنه مما حكم على العباد. وأما بعد رجوعي إليها فلا معنى لقولي (وإليها نعود) لأنه كذب لا محالة. ونحن معاشر أهل الجنة خالدون مخلدون. فيقول: (إن بعض أهل السير يزعم أن هذا الشعر وجده يعرب في متقدم الصحف السريانية، فنقله إلى لسانه. وهذا لا يمنع أن يكون. وكذلك يروون لك - صلى الله عليك - لما قتل قابيل هابيل:
(تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
وأودي رُبْع أهليها فبانوا ... وغودر في الثرى الوجه المليح
ويندد به في معرض حديث ابن القارح مع آدم (ص) في الجنة، وسؤاله عن بيتين يعزوهما الرواة إليه فيجيبه آدم بقوله: س (أعزز عليّ بكم معشر أبينيّ. إنكم في الضلالة متهوكون (أي: خابطون على غير هدى) آليت ما نطقت هذا النظيم ولا نطق به في عصري، وإنما نظمه بعض الفارغين، فلا حول ولا قوة إلا بالله. كذبتم على خالقكم وربكم، ثم على آدم أبيكم، ثم على حواء أمكم، وكذبْ بعضكم على بعض).
(البقية في العدد القادم)
كامل كيلاني