مجلة الرسالة/العدد 660/الأدب في سير أعلامه:
مجلة الرسالة/العدد 660/الأدب في سير أعلامه:
ملْتُن. . .
(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- 1 -
في اليوم التاسع من شهر ديسمبر سنة 1608، فتح الوليد جون ملتن عينيه على نور الوجود؛ وبمولده رزقت إنجلترة أعظم شعرائها قاطبة حتى يومنا هذا، إذا استثنينا (شكسبير) وحده، واستقبلت الدنيا قرين الثلاثة الأفذاذ من شعراء الغرب الخالدين: وهم (هوميروس) و (دانتي) و (شكسبير).
وكانت إنجلترة حين مضى الطفل يستقبل حياته، تستدبر في حياتها الأدبية عهداً وتستقبل عهداً. كانت إذا شبهنا ذينك العهدين بفصلين من فصول السنة، بين أعقاب الربيع وطلائع الصيف؛ فأما الربيع المدبر، فكان العصر الأليزابيثي، وأما الصيف المقبل، فكان العصر البيوريتاني. ولقد ألف مؤرخو الأدب الإنجليزي أن يسموا العصر الأول عصر (شكسبير)، والعصر الثاني عصر (ملتن).
وكان العصر الذي تستدبره إنجلترة ويستدبره ذلك الوليد، عصراً فذاً في العصور الأدبية جميعاً، إذا استعرضنا التاريخ الأدبي لهذه الدنيا قديمها وحديثها. . .
كان حافلاً كما يحفل الربيع بالضوء والنماء والزينة، وكانت ألحانه كألحان الربيع أنماطاً تملأ الأسماع من كل ركن وفي كل سهل، وكانت نفوس أهله تستشعر روح العصر كأقوى ما تستشعر الأنفس روح الربيع، ففي كل قلب تسري الفرحة، وفي كل جسم تدب القوة، وفي كل ذهن يقوم إحساس قوي غامر بجمال الحياة، والأمل في الحياة، والرغبة في الاستزادة من لذائذ الحياة. . .
وإنك لتجد لهذا العصر روحاً مميزة شاعت في حياة الناس، وسيطرت على تلك الحياة، وتتلخص هذه الروح فيما يفهم من كلمتين هما النهضة والحرية: فأما الأولى، فقوامها إحياء علوم الأقدمين من اليونان والرومان، وإحياء فنونهم وآدابهم؛ وأما الثانية، وهي ثمرة للأولى، فقوامها الانطلاق من ليل العصور الوسطى، والانعتاق من قيودها إلى حيث يفيض النور، ويتسع مجال التفنن والابتداع.
أقبل الناس على دراسة مخلفات اليونان والرومان في حماسة ولذة، وآمن الناس إيماناً قوياً بأن لهم أن يستمتعوا بالحياة أعظم استمتاع وأوسعه، فيغنموا ما في الدنيا من مسرات وزينة؛ فما منحوا الحياة لكي يقضوها متزمتين منها برمين بها؛ وأيقن الناي أن من أهم ما يجب أن تتصف به حياتهم الجديدة هو بث روح الجمال في النفوس والعمل على السمو بها حتى تستشعر الجمال وتبحث عن الجمال وتأنس به لا كمتعة من متع الدنيا فحسب بل كنشوة روحية لا غنى للروح عنها إن هي أرادت التحليق والسمو. وتمسك الناس بفكرة لن يحيدوا عنها، وذلك أن الله وهبهم العقل لينظروا ويتدبروا غير مقيدين بما سلف من آراء مهما بلغ من قيمتها، ولذلك كرهوا القيود كرهاً شديداً وأحبوا الحرية حباً شديداً، وظهر أثر هذا الحب فيما ابتدعوا من شعر ونثر، لا في مادة ذلك الشعر وذلك النثر فحسب، ولكن في الطريقة والصورة بل وفي الألفاظ المستعملة كذلك.
وملأ قلوب الناس التطلع إلى توسيع أفق الحياة العقلية في كل ناحية من نواحيها، وقد جاءهم ذلك مما تم لهم فعلاً من توسيع أفق الحياة المادية بعد كشف الدنيا الجديدة، نتيجة لمغامرة المغامرين منهم وراء البحار في الغرب وفي أسواق آسيا في الشرق؛ وأقبل الناس على كل طريف يتقصونه من الأنباء عن العالم الجديد وعن الشرق، فأثر ذلك في اتجاه عقولهم وفيما أنتجته تلك العقول، تلمس ذلك في الكثير من قصصهم ومسرحياتهم وما تعج به من مواقف مثيرة وحوادث تستهوي الألباب وأفانين من مبتدعات الخيال تبث الروح في النفوس وتحملها على الإعجاب والاستزادة وتيسر لها سبل الابتكار والخلق.
وطاف بالناس شعور بمجد وطنهم وعظمته وتفوقه على غيره، وبخاصة بعد أن حطم أسطولهم الأرمادا أسطول أسبانيا الهائل؛ كما ملأت أفئدتهم وطنية صادقة يلتقي عندها ويتفق عليها المتنازعون في الدين من الكاثوليك والبيوريتانز؛ وإلى جانب ذلك كله أنجب العصر من أفذاذ الرجال في كل ميدان من ميادين الحياة ما يصعب الوقوع على أمثالهم مجتمعين على هذا النحو في غيره من العصور، فلم تخل ناحية من النواحي من أماثل نابهين، ففي الأدب والفن والفلسفة وفي الجندية والبحرية والسياسية والحاشية عظماء يزدان بهم العصر وتعظم بهم الحياة.
هذا هو العصر الذي كانت تستدبره إنجلترة ويستدبره ملتن، أو هذا هو الربيع الراحل؛ ولن تعدم المعين في أخريات الربيع أن تقع على زهرات شتيتة هنا أو هناك في جنته التي تنذرها أنفاس الصيف بالفناء القريب؛ ولن تعدم الأذن كذلك أن تسمع في ذلك الفردوس الذاهب نغمات حائرة بين الحياة والموت. وكذلك كان الحال في أخريات عهد إليزابث، فكانت بعض ثمرات العقول مثل كتابات بيكون لا تزال تقدم إلى المجتمع، كما كانت بعض ألحان العصر كأصداء الربيع الذاهب لا تزال توقع على أوتار شكسبير إذ لم تسكت تلك الأوتار إلا بموت صاحبها عام 1616 أي بعد ثمانية أعوام من مولد ملتن.
وأقبل الصيف في إثر الربيع فجاء منذراً بالقيظ تلفح أنفاسه لفحاً يبدو قاسياً وتشعر النفوس في مقدمه بالصرامة والقسوة والعبوس حتى كان ينسيها ذلك طلاقة الربيع ومفاتن الربيع.
تمكنت البيوريتانية من المجتمع وتسلطت على الناس؛ وكان ملتن يستقبل شبابه بينما كان ذلك المذهب يستقبل فتوته وسلطانه. واعتنق ملتن ذلك المذهب وتحمس له، ولكن كانت قد استقرت في حسه وخياله تلك المواكب التي انطوت، وتلك النغمات التي احتبست، فراح كالطائر المنفرد المتخلف يغني في هجير الصيف ألحان الربيع!
وما هذه البيوريتانية التي سوف يعتنقها الشاعر في شبابه والتي سوف تؤثر تأثيراً قوياً في مزاجه وفنه وسلوكه وموقفه من حياة عصره؟ أجل، ما هذا الصيف الصارم العابس الذي أعقب ذلك الربيع الرضى الطلق؟
جدير بنا أن نعرف أولاً من هم البيرويتانز ولماذا أطلق عليهم هذا الأسم قبل أن نتعرض لمذهبهم ونظرتهم إلى مسائل الحياة وأثر تلك النظرة في العصر الذي تم لهم فيه السيطرة والجاه.
أطلقت هذه الكلمة أول ما أطلقت على فريق من رجال الكنيسة في إنجلترة في عهد الملكة اليزابث، فقد أرادت هذه الملكة أن توحد طقوس العبادة في كنائس مملكتها جميعاً، وكان أبوها الملك هنري الثامن قد فصل الكنيسة في إنجلترة عن كنيسة روما عام 1529 بسبب ما شجر بينه وبين البابا من خلاف يتصل بقضية زواجه، وجعل الملك نفسه الرئيس الأعلى للكنيسة بدلاً من البابا؛ فأصدرت الملكة عام 1559 المرسوم الذي يوحد العبادات ويحرم من صورها ما لم يرد ذكره فيه؛ فكان رجال الدين حيال هذا المرسوم فريقين، فريقاً رضى عنه، وفريقاً ودّ لو أنه كان أكثر تطرفاً في الابتعاد عن روما فأبطل ما لا يزال من صور العبادات يأتي على شاكلة ما يتبع في الكنيسة البابوية وما يعد في نظرهم من البدع والخرافات. وهذا الفريق الثاني هم الذين أطلق عليهم أسم البيرويتانز أو المطهرون، وذلك لأنهم كانوا يريدون تطهير العبادات من آثار كنيسة روما. ولم يمض على صدور ذلك المرسوم إلا نحو خمسة أعوام حتى كان هذا الإسم شائعاً على الألسن يطلقه الناس على هذه الفئة المغالية في القضاء على كل ما له صلة بروما.
ولكن ما هي إلا أعوام ثمانية أخرى حتى خرج بعض الناس ممن كرهوا هؤلاء المغالين بهذا اللفظ عن مدلوله البسيط فصاروا يطلقونه على كل من يرمونهم بالمروق من الدين ليلحقوا وصمة الفسوق بالبيوريتانز إذ يسلكونهم والفاسقين والمنافقين في سلك واحد، حتى لقد أوشك أن ينسى مدلول الكلمة كما نشأت في وضعها الأول وأصبح البيوريتانز في نظر خصومهم ومن يجهلون أغراضهم هم الضالين الملحدين.
وتزايد استعمال الكلمة في مدلولها الجديد الظالم حتى أصبحت البيوريتانية في أذهان بعض الناس مرادفة للألحاد والنفاق والضلال وما كانت حين نشأت إلا الرغبة في الإصلاح والتطهر من البدع والتملص من كل ما لا يعد من جوهر الدين.
وزاد بعض خصوم المذهب بعداً بالكلمة عن معناها الأول فنسوا ما في ذلك المعنى من عنصر ديني طيباً كان ذلك العنصر أو خبيثاً، وصارت عندهم كلمة سباب عامة يعبرون بها عن كل معيب ويطلقونها على كل من يريدون الطعن فيهم من الناس كما يطلق لفظ الشيطان مثلاً على كل شرير أو معتد أو عابث.
ولما شاعت البيوريتانية في المجتمع ونمت كمذهب لا يقتصر على النظرة الدينية بل يتناول كذلك السياسة والخلق والفكر والفن دأب خصوم هذا المذهب في محاربته بالطعن في أشياعه، وحسبهم أن يطلقوا على الرجل منهم ذلك اللفظ الذي بعد عن مدلوله كل البعد والذي أصبح مسبة عامة ليشفوا ما في صدورهم من غل. تجد مثلاً واضحاً لذلك في العبارة الآتية التي وصفت بها كاتبة في أوائل القرن الثامن عشر ما كان يلاقي البيوريتانز من خصومهم في عهد الملك جيمس الأول الذي خلف إليزابث على العرش عام 1603 أي بعد نحو أربعين عاماً من مبدأ ظهور البيوريتانية قال: (إذا أظهر الرجل حزنه على ما ينال شرف المملكة وما يصب من العذاب على رؤوس الرعية فهو بيوريتان؛ وإذا تمسك أحد أفاضل الريف بقوانين الأرض وحرص على المطالبة بحسن الإدارة وانتظام الحكم فهو بيوريتان؛ وإذا تمسك أحد أفاضل الريف بقوانين الأرض وحرص على المطالبة بحسن الإدارة وانتظام الحكم فهو بيوريتان؛ وجميع من لا يأبهون بمطالب رجال الحاشية الممتدة أيديهم والقساوسة المعتدين على الحقوق وذوي الرذيلة من النبلاء فهم كذلك بيوريتانز! ومن لا يطيقون سماع الأيمان الحانثة والحوار الذي يكنفه الأسفاف، والتعريض الماجن والاستهزاء بكلام الله فهم جميعاً في عداد البيرويتانز؛ ومتى كانوا بيوريتانز فهم أعداء الملك وحكومته وهم متمردون متبجحون منافقون وهم الطاعون في هيكل المملكة)
على أن هؤلاء البيرويتانز على الرغم من مطاعن خصومهم يتكاثر عددهم ويتغلغل في النفوس مذهبهم منذ أواخر القرن السادس عشر، ولن يزالوا في تكاثرهم وتحمسهم حتى تم لهم السيطرة السياسية على البلاد عقب الحرب الأهلية التي انتهت بأعدام الملك شارل الأول، وكان مرد الانتصار على الملك وحزبه إلى عبقرية حربية ظهرت في شخص أليفر كرمويل أحد أشياع ذلك المذهب.
(يتبع)
الخفيف