مجلة الرسالة/العدد 66/ الشخصية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 66/ الشخصية

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 10 - 1934


4 - الشخصية

للأستاذ محمد عطية الابراشي المفتش بوزارة المعارف

العناصر الرئيسية التي تتكون منها الشخصية القوية: -

تكلمنا فيما مضى عن الجاذبية، والنشاط العقلي، والمشاركة الوجدانية، والشجاعة، من العناصر الرئيسية المكونة للشخصية القوية. والآن نتكلم عن بعض العناصر الأخرى المقوية للشخصية كالحكمة، والتفاؤل، والتواضع، ومظهر الإنسان وقوامه، وقوة البيان وأثرها في الشخصية فنقول.

الحكمة:

إن شخصية الإنسان لا تكون متينة إلا إذا زانتها الحكمة والعلم والحزم، ووضع الأشياء في مواضعها، وقدرها حق قدرها. والرجل الحكيم هو السديد الرأي، البعيد النظر، الحسن التقدير، الذي يعرف الحق فيتمسك به، ويفعل ما يجب أن يفعل، ويترك ما ينبغي أن يترك، ويقول ما يجب أن يقال، يرى الفرصة فينتهزها، ويشعر بالطريق المستقيم فيسلكه، يحس بنتيجة الشيء حتى قبل حدوثها، ويعامل غيره بما يحب أن يعامل به، ويحكم على غيره بما يود أن يحكم به عليه، يحب لأخيه ما يحب لنفسه. وإذا حكم على غيره كان حكمه بعيداً عن الأهواء والأغراض، تتمثل فيه النزاهة والعدالة. كل هذه الصفات نتيجة الحكمة وحسن التقدير. والحكمة صفة أساسية في تكوين الشخصية السامية. أما إذا انتفت الحكمة فان الإنسان يكون واهن الرأي، مضطرب البصيرة، سيئ الحظ، عاثر الجد، ضعيف الشخصية، يعجز عن تقدير الأشياء، ويفعل ما يجب ألا يفعل، ويهمل أموراً تجبُ العناية بها، ويهتم بأشياء لا قيمة لها، يحب ما ينبغي أن يكره، ويكره ما ينبغي أن يحب، فيصبح ضحية لوجداناته وأقواله وأفعاله، ويصير مكروهاً لدى من يعرفونه.

ومن الحكمة أن نجتهد في إرضاء الناس - وإن كان إرضاؤهم جميعاً غاية لا تدرك - من غير أن نضحي بمبدأ من مبادئنا، أو مظهر من مظاهر رجولتنا حتى نمتلك قلوبهم، وهذا دليل على وجود الشخصية القوية الجذابة.

وكثيراً ما تفسد الحكمة وتشوه بالفخر، أو التكبر، أو الحقد، أو الغيرة، أو الغش. فينبغي أن يهذب الإنسان نفسه، ويترك الفخر جانباً ولا يتكبر أو يحقد على غيره، ولا يغش أحداً أو يضله، حتى تكون علاقته بغيره حسنة وتكون شخصيته محبوبة لدى من يتصلون به أو يعرفونه.

التفاؤل:

من العناصر التي لا تقل أهمية في تكوين الشخصية الممدوحة: التفاؤل والتيمن والنظر إلى الأشياء بمنظر الفأل الحسن؛ ويمن الطالع، لا بمنظار التشاؤم والتطير، ذلك المنظار الأسود، منظار الشؤم والطِّيَرَة. فقد كان النبي () يحب الفأل ويكره الطيرة. ولا نقصد بالتفاؤل أن نغمض أعيننا عن الحقائق نتائج الأمور، بل نقصد أن نعتاد في تفكيرنا النظر إلى الأشياء بعين الأمل والرحمة، لا بعين اليأس والقنوط، وننظر إليها في نور الأمل لا في ظلام اليأس، من الناحية المضيئة من الطريق، لا من الناحية المظلمة الحالكة. والمتفائل يرضى بالماضي خيره وشره ويثق بالمستقبل، ثم يؤدي الواجب ويترك النتيجة لله سبحانه وتعالى. وتعتبر هذه العادة العقلية - عادة التفاؤل - من الأمور الجوهرية في تقوية الشخصية. وكثيراً ما ينشأ التفاؤل عن نشاط الشخص وقوته العقلية والعصبية، وعن نوع الأفكار التي يسمح لها بالدخول إلى العقل، وإذا تعود الإنسان أن يزود نفسه بالأفكار الصحية السارة فانه لا يتجنب التشاؤم والحزن فحسب، بل قد يطل من نوافذ على الناحية السارة المضيئة من الحياة.

وينشأ التشاؤم عن ضعف النشاط وضعف القوة العصبية، وهو الرقابة العقلية في الإنسان؛ فيسمح لنفسه بأن تسبح في جو مظلم من الأوهام حتى يصبح عقله متلبداً بغيوم لا حقيقة لها، ودخان لا أصل له، هي الغيوم التطير ودخان التشاؤم. وإن ضبط النفس والنظر إلى الناحية السعيدة دائماً مما يزيل عن أولئك المتشائمين وهؤلاء المتطيرين هذه الهموم والأحزان التي تسيطر على نفوسهم. وإذا كان التفاؤل موقظاً للعقل، ومدعاة للنشاط وباعثاً على الإقدام، ومحرراً للإنسان، ومنشطاً لجميع قواه العقلية، فالتشاؤم سبب في الخمول والكسل وكثرة التردد والفشل والشقاء والضعف لا في التفكير فحسب، بل في الشخصية أيضاً.

فالشخصية الحية القوية ينبغي أن تتمسك بالتفاؤل، وتلتزم الناحية السارة، يقودها الأمل، ويحييها الرجاء. تفكر في النجاح أكثر من الخيبة، وفي التقدم أكثر من التأخر. وتميل إلى جانب الثقة أكثر من الميل إلى جانب التردد، وتثق بما تقول وما تفعل، ولديها كل علاج وهي منبع النشاط والقوة. قال (روبرت بروننج): (من الحكمة أن ترجح جانب الخير على جانب الشر، واللين على الشدة، والتعقل على الطيش، والأمل على اليأس، والنور على الظلام).

التواضع وعدم التصنع:

العنصر السادس من عناصر الشخصية التواضع وعدم التصنع، وذلك بأن يكون لدى الإنسان استعداد به يقدر نفسه ومركزه تقديراً يدل على التفكير والحكمة من غير تصنع أو تظاهر بما ليس فيه.

فإذا تصنع المرء وادعى صراحة أو ضمناً ما ليس فيه؛ كأن يقدر نفسه فوق قدرها ويعطيها أكثر من حقها، ويتعظم وما هو بالعظيم، ويَدّعى العلم وما هو بالعالم، والثروة وما هو بالثري، والقوة وما هو بالقوي - إذا ادعى شيئاً من هذه الأشياء فقد يتضح أمره لدى الناس، ويتبين جهله أو فقره أو ضعفه على عكس ما ادعى، فيعلمون كذبه، فيحتقرونه ويزدرونه، وينفرون منه ويتباعدون عنه، ويصبح ممقوتاً عندهم جميعاً.

وإن مدح الإنسان نفسه ثقيل لا يقبل، وإذا قبل فانه يجب أن يستند إلى حقائق. والأولى أن يترك الإنسان عمله ليدل عليه ويتحدث عنه، بدلاً من أن يتحدث هو عن نفسه. وإن كان المرء جديراً بالمدح فسرعان ما تظهر حقيقته، ويقدر الناس كفايته، ويزنون أعماله، ويعترفون بشخصيته ومقدرته. فالتواضع سبيل النجاح والرفعة، والتصنع سبيل الفشل والذلة.

وإننا وإن كنا ضد التصنع والتظاهر لا نمنع أن ننزل أنفسنا منزلتها ونعدها، وحدة من المجموع، لها ماله وعليها ما عليه، ونستحسن أن نترك للغير الحكم لنا أو علينا، وأن نتحلى بالتواضع في غير ضعف أو ذلة. فالتواضع أساس للشخصية المحبوبة الجذابة. وإننا نجتذب غيرنا بقدر ما يحبنا الغير. وإذا كانت الشخصية مظهراً لقوة النفس فهي عدوة الكذب والتضليل. فليس المهم في أن تَدَّعِى كذباً، ولكن المهم في أن تعمل حتى تثبت لنفسك العظمة إن كنت عظيماً.

مظهر الإنسان وقوامه:

لمظهر الإنسان أثر في شخصيته، فالرجل الصحيح الجسم الحسن القامة، قد لا يحتاج في إظهار شخصيته والتأثير في غيره إلى ما يحتاجه الشخص النحيف الجسم، المشوه الخلقة؛ فبينما تجد الأول طبيعياً في معاملته لأنه لا يشعر بنقص خارجي يريد أن يكمله، إذ تجد الثاني محباً للتظاهر، متكلفاً في أقواله وأفعاله، متخذاً كل وسيلة يستطيع أن يظهر بها نفوذه، فيتظاهر بالعلم تارة، ويفخر بحسبه ونسبه تارة أخرى. وقد يتخذ أحياناً وسائل ثعبانية أو ثعلبية، ليظهر بها نفسه أمام من يبغي الظهور بينهم، فيلجأ إلى الوشاية حيناً، وإلى الملق حيناً آخر. وقد يضطر إلى التجمل في جسمه ولبسه، أو المداعبة في حديثه، كل ذلك ليكمل ما فيه من نقص جسمي.

فالإنسان حينما يحس بنقص من الناحية الجسمية مثلاً تراه يعمل على أن يسد هذا الفراغ، ويكمل ذلك النقص من الناحية العقلية أو الخلقية حتى يظهر شخصيته للملأ. فسقراط مثلاً شيخ الفلاسفة من اليونان، كان أفطس الأنف، غليظ الشفتين، جاحظ العينين، قبيح المنظر، ولكنه قد وصل بمواهبه العقلية والخلقية الأخرى إلى ذروة المجد. ويكفيه فخراً أنه أستاذ أفلاطون، وأنه أكبر فلاسفة اليونان. والجاحظ كان أديب العلماء، وعالم الأدباء، وما لقب بهذا اللقب الذي كان مبغضاً إليه إلا لأنه كان جاحظ العينين (بارِزهما)، دميم الخلقة، حتى قيل إن الخليفة المتوكل سمع بمنزلته من العلم والفهم، فاستقدمه إليه (بسر من رأى) ليؤدب ولده، فلما رآه استبشع منظره، وصرفه بعشرة آلاف درهم. ولكنه بجانب ذلك كان خفيف الروح، ذكي الفؤاد، واسع الاطلاع، وكان يعد دائرة معارف في الآداب والعلوم واللغة والتاريخ حتى أصبح لقبه - الذي كان يكرهه - دليلاً على التبحر في العلم والآداب، والتفوق في فنون البلاغة والبيان، سئل كيف حالك يا أبا عثمان؟ فقال: (حالي أن الوزير يتكلم برأيي، وينفذ أمري، ويواتر الخليفة الصلات إلىَّ. . .) والتاريخ حافل بكثير من العظماء المشوهة أجسامهم، السامية أرواحهم وعقولهم، فلا حاجة بنا إلى التطويل. وكل ما نريد أن نقوله هو أنه إذا نقص الإنسان من جهة حاول أن يكمل نفسه من جهة أخرى.

قوة البيان: إن قوة البيان، وفصاحة اللسان، وحسن المنطق والقدرة على التأثير في السامع مع رجاحة العقل، تكسب الإنسان شخصية وتجعل له منزلة بين سامعيه، ولذلك لما أُمر سيدنا موسى عليه السلام أن يذهب إلى فرعون، شكا موسى العي في القول، وطلب من الله أن يرسل معه أخاه هرون لفصحاته قائلاً: (وأخي هرون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً يصدقني) يريد فرعون. وإننا لا نريد بالفصاحة والثرثرة والتشدق والتوعر في الكلام، كما لا نريد بها أن يزيد كلام الإنسان على عقله، بل نريد حسن التعبير عما في النفس، وقوة التأثير في المستمع، والتكلم من غير تهيب أو تخوف بحيث يكون الكلام حلواً رشيقاً، سهلاً عذباً مؤثراً. أما العيّ والحصر واللجلجة، والتمتمة والفأفأة وكثرة التردد في القول، والخجل في أثناء التكلم فتقلل من تأثير الشخص في سامعيه. وإن حُسْن التعبير عما في النفس شرط أساسي لقوة الشخصية، وهو يتطلب العلم بالشيء الذي نريد التكلم عنه؛ لأن أفكارنا إذا عرفت كان من السهل التعبير عنها. وكما يجب أن نعرف ما نريد أن نقول، وما نريد أن نفعل، كذلك يجب أن نحسن القول ونحسن العمل. وما أجمل الكلمة الصائبة في اللحظة المناسبة. وكما ينبغي حسن التكلم والخطاب، كذلك ينبغي حسن الإصغاء والاستماع للغير. وقد تكون لدينا الأفكار السامية ولكننا نحتاج إلى شجاعة في إظهارها حتى ينتفع بها غيرنا. . .

محمد عطية الابرشي