مجلة الرسالة/العدد 655/على هامش النقد:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 655/على هامش النقد:

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 01 - 1946



شيلوك الجديد أو قضية فلسطين

مسرحية للأستاذ باكثير

للأستاذ سيد قطب

هذه المسرحية من عمل الأستاذ (علي أحمد باكثير) صاحب مسرحيات: (مملكة السماء، والفرعون الموعود، وقصر الهودج)؛ وقصص: (سلامة القس، وا إسلاماه). . . أصدرتها (لجنة النشر للجامعيين) في سلسلتها التي بلغت إلى اليوم أربعاً وثلاثين حلقة، معظمها لأسماء شابة أبرزتها اللجنة، وكشفت عن مواهبها، وهيأت لها فرصتها للظهور، والإنتاج المفيد؛ ولعلها كانت وشيكة أن تطمر، أو أن تنتظر طويلاً حتى تنال حقها الطبيعي في الميدان الأدبي. وذلك فضل للجنة ليس باليسير.

ومسرحية (شيلوك الجديد) عمل أدبي يجيء في إبانه، ليلقي على (قضية فلسطين) في هذه الأيام ضوءاً منيراً كشافاً، وليصورها على حقيقتها التاريخية والواقعية، وليرسم الحل الناجع لها، وهو الحل الذي اهتدت إليه جامعة الدول العربية بعد شهر من ظهور المسرحية. وحسب المؤلف - وهو فرد - أن يلتقي في تفكيره مع أبرز رجال الجامعة العربية في حل قضية فلسطين!

وهذه المسرحية - من الوجهة الفنية البحتة - ليست أحسن أعمال الأستاذ باكثير؛ ولكنها من الجهة الأخرى تعد أكبر عمل أدبي تصدى لقضية فلسطين منذ نشأتها إلى اليوم. . .

أنها تقرير حي عن هذه المأساة، لا يسرد القضية سرد التقريرات، بل يعرضها عرضاً حياً على المسرح، فيكشف عن حقيقة مطامع الصهيونيين في هذه البلاد المقدسة، وعن وسائلهم الخسيسة والجهنمية في تحقيق هذه المطامع، وعن نواحي الضعف التي يستغلونها في جسم الأمة العربية أفراداً وشعباً، وعن مدى مشاركة السياسة البريطانية في هذه الوسائل، وهي مشاركة كانت كلية سافرة في وقت من الأوقات، وما تزال إلى اليوم تعمل، ولكن في حذر ومن وراء ستار؛ لأن القوانين والإجراءات المالية والنظامية التي سنتها لا تزال باقية تخدم القضية الصهيونية أجل الخدمات، وتهيئ لها امتلاك الأراضي، بعد أن تضيق الخ الاقتصاد العربي، وتجعله مضطراً لأن يمد يده إلى الاقتصاد الصهيوني، أو إلى الشرك الصهيوني بتعبير أدق!

ولا تخلو المسرحية - بعد هذا - من عرض لوحات حية من المشاعر والأحاسيس والعواطف الإنسانية، والغرائز البشرية تتصارع وتتزاحم، وإن كان المؤلف - على عادته دائماً - يغلب عواطف الخير والطهر، ويمكن للأريحية والنبالة. . . وذلك نضح نفسه الطيبة على أبطاله وقصصه

وهو إذ يصور الوسائل الخسيسة العجيبة التي تلجأ إليها الصهيونية لسلب أموال العرب وشبابهم!!! ويستعرض المكايد والدسائس المحبوكة التي تستخدمها، لا يكون الأمر مجرد حوادث ودسائس تستعرض؛ ولكنه يتعمق صميم النفس اليهودية، فيبرزها (نموذجاً بشرياً) واضح السمات متميز الملامح. وهذه المواضع في المسرحية هي أجودها من الناحية الفنية. ولو أن المسرحية كلها في مستوى هذه المواضع لارتفعت إلى مستوى شكسبير، في رواية (تاجر البندقية). فطبيعة النفاذ إلى صميم الشخصية الإنسانية تكاد تتساوى في هذه المواضع المعدودة!

وأخيراً يهتدي المؤلف إلى الحل الحاسم الذي اهتدت إليه الجامعة العربية أخيراً. . . يهتدي إلى سلاح المقاطعة الحاسمة الباتة؛ التي تخنق الصهيونية في فلسطين خنقاً. وقد ذهب المؤلف إلى أبعد الحدود، ففرض تخلي العرب عن فلسطين كلها، وضرب نطاق من الحصر الاقتصادي عليها. فما لبثت الصهيونية أن اختنقت فجاءت تطلب الصفح والمغفرة، وتتخلى عن مطامعها في الوطن القومي ليرفع العرب عنها هذا الخنَّاق المميت.

ولست أشك لحظة في أن هذه المسرحية تقدم لقضية فلسطين أعظم خدمة في طوق عمل أدبي واحد أن يقدمها، بل في طوق عمل سياسي ضخم أن ينهض بها؛ ذلك أنها لا تدع (قضية فلسطين) جملة رنانة ترد في الخطب الحماسية، ثم تنقضي مناسبتها فتبرد وتتلاشى. . . إنما تحيلها حقائق ووقائع حية، وتردها أموراً عملية محسوسة، في الوقت الذي تثير الأريحية الإنسانية، وتوقظ فيه النخوة العربية، وتكشف عن الوسائل والدخائل في الصراع بين العرب والصهيونية، وتوازن بين القوى الحقيقية التي يملكها الفريقان في الميدان. . . تكشف ذلك كله كما لم يكشف من قبل أبداً.

وأنا أحد الذين كانوا يزعمون لأنفسهم أنهم ممن يهتمون بقضية فلسطين ويتتبعون خطواتها، ويهتفون بها هتاف المتحمسين لها. . . وقد تضمن ديواني الأول منذ أكثر من عشر سنوات تحية لأبطال فلسطين جاء فيها:

عهد على الأيام ألا تهزموا ... فالنصر ينبت حيث يهراق الدم

في حيث تعتبط الدماء فأيقنوا ... أن سوف تحيوا بالدماء وتعظموا

تبغون الاستقلال؟ تلك طريقه ... ولقد أخذتم بالطريق، فيمموا

وهو الجهاد حمّيةٌ جشَّامة ... ما إن تخاف من الردى أو تحجم

إن الخلود - لمن يطيق ميسّرٌ ... فليمض طلاب الخلود ويقدموا

وطن يقسّم للدخيل هديةً ... فعلام يحجم بعد هذا محجم؟

الشرق. يا للشرق! تلك دماؤه ... والغرب. يا للغرب! يغريه الدم

الشرق. ويح الشرق! كيف تقحموا ... حرماتِه الكبرى وكيف تهجموا

غرتهمو سِنة الكرى فتوهموا ... يا للذكاء! فكيف قد غرتهمو!

سِنة ومْرت والنيام تيقضوا ... فليعلموا من نحنُ أو لا يعملوا!

أبطالَ الاستقلال. تلك تحية ... من مصر يبعثها فؤاد مفعم

إخواننا في الحال والعقبى معاً ... إخواننا فيما يلذ ويؤلم

مصر الفتاة ولن تزال فتية ... تهفو إليكم بالقلوب وتعظم

في كل مطلع وكل ثنية ... نار من الشرق الفتي ستضرم

أنا الذي زعمت لنفسي يوم نظمت هذه القصيدة، وأيام تتبعت قضية فلسطين في مراحلها المختلفة أنني ممن يعرفون هذه القضية. أشهد أن رواية (شيلوك الجديد) قد أطلعتني على أنني كنت واهماً فيما زعمت، مغالياً في حقيقة اهتمامي بهذه القضية المقدسة، فلقد كشف لي الأستاذ (باكثير) عن حقيقة وضع القضية، وحقيقة العوامل التي تتصارع فيها، بما لم يكشفه لي كل ما وصل إلى يدي عنها في خلال خمسة عشر عاماً أو تزيد.

ولكنني أختلف مع الأستاذ (باكثير) في أمر واحد. ذلك أنه يبدو في سياق الرواية وفي ختامها أنه واثق بأن هناك شيئاً اسمه (الضمير البريطاني) أو (الضمير الغربي) على وجه العموم. يبدو ذلك في فصل (المحاكمة) الذي عقده في نهاية المسرحية! وأنا أخشى هذه الثقة على قضية فلسطين، كما أخشاها على جميع قضايا البلاد العربية.

ليس للسياسة البريطانية ضمير. وليس للعالم الغربي شرف.

هذه هي العقيدة التي أعتقد أن من واجب كل كاتب وكل سياسي في هذه الشرق العربي أن يمكن لها في ضمير الأمة العربية بل في ضمير الشرق الذي ما نكب في تاريخه كله بمثل ما نكبته الثقة في الضمير البريطاني، وفي الشرف الغربي!

ولن ينال الشرق العربي - أو الشرق عامة - شيئاً من حقه، ولن يعرف الطريق الصحيح والوسائل المجدية لنيل هذا الحق، قبل أن ييئس اليأس الكامل من هذا الضمير البريطاني، ومن هذا الشرف الغربي. وقبل أن يعتمد على نفسه اعتماداً كاملاً في الصراع مع ذلك الوحش الأوربي - والأمريكي أيضاً - ذلك الوحش الناعم الملمس، واللبد على بعد ملليمتر من هذا الأديم الرقيق!

وإذا كان الشرق العربي لا يزال مبتلي إلى اليوم بجماعة من الساسة المخدوعين في حقيقة هذا الضمير الغربي عامة، فإن من واجب حملة القلم أن يكون لهم شأن غير شأن الساسة، وإلا كانوا غير جديرين بالهبة الإلهية اللدنية التي منحتها إياهم السماء.

سيد قطب