مجلة الرسالة/العدد 655/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 655/القصص

ملاحظات: بتاريخ: 21 - 01 - 1946



من ذكريات الشباب

اجترار

للأستاذ حبيب الزحلاوي

- 2 -

حكايتي أيها الأصدقاء تدور حول الأثر الذي تركته حوادث الجهاد الوطني في نفسي، لا حول أبلغ حادث حدث لي.

كنت أتوقع عندما عينت ضابطاً في الجيش أن ألقي مشاكسة من زملائي الفرنسيين، وتعالياً على الضبط (العربي) فوطدت النفس على التمسك بالكرامة مع السلاسة واللطف، نجحت بعض النجاح في السير على منهاجي، وكنت أفشل في قطع ألسنة أولئك الضباط عن القدح في قومي وسب (السوريين القذرين) ولاسيما حينما كانت تضمنا مائدة شراب، ولم يكن يند عنهم إلا ضابط من رتبتي كان يقف دائما في وجه أولئك القادحين فيصدهم عن المضي في طعن الأمة العربية إكراماً (لزميلينا الضابط الكيس والخلصاء الذين عرفناهم من السوريين) فكان أولئك الضباط الأجلاف ينحرفون عن الموضوع، ناسبين ذلك إلى ما يلاقون من الشعب من كراهية وبغض، وكان ذلك الضابط، نضر الله وجهه، يدافع عن حق السوريين وينعت حكام قومه بالطيش والهوج في مد حكمهم وبسط وأخبار رجال السياسة البعيدين عن مواطن الخطر، وأخبار إخواننا المهاجرين تصلنا منبئة بقيامها كلها متساندة متضافرة تعمل لجعل هذه الثورة هي الأخيرة للخلاص التام من الأجنبي المستعمر.

عملت ما في وسعي لأقنع الأجناد الوطنيين تحت إمرتي أن نهرب بسلاحنا وميرتنا للالتحاق بإخواننا المجاهدين لتحرير الوطن، وقبل انبلاج الصبح كانت دوابنا المثقلة بالأحمال على بضعة كيلو مترات من مرابط الثوار، والفضل في هربنا يعود إلى زملائي الضباط الفرنسيين الذي أثقل (الحشيش) أدمغتهم تلك الليلة.

في منتصف ليلة من الليالي، سرنا بطوائف منظمة من الثوار لنقطع الطريق على حملة من الفرنسيين جاءت لتطويقنا من ناحية الشمال، بلغنا الموقع الذي قدرت أن الواقعة ستقع فيه، ووزعت رجالي توزيعاً يوهم العدو بكثرة عددنا، وأوصيت بعدم الإسراف في إطلاق الرصاص ليكون متواصلا، ووقفت في مكان مرتفع مع بعض زملائي نرقب الموقعة ونديرها.

لم أر ولم أسمع في حياتي عن موقعة التزم رجالها ضبط النفس والعمل بإقدام وشجاعة وحزم كتلك الموقعة التي كانت كأن الصخور والمتاريس وأكوام الحجارة هي التي تنفجر فتطلق النار فتصيب الهدف، لا رجالا مثلنا من لحم ودم.

أخذت الشمس تميل إلى الغروب، ولم يتقدم العدو خطوة إلى الأمام، ولم يتبين له أآدميون يقاتلونه، أم مردة وشياطين يصبون عليه الموت، وبينما نحن في هذا الموقف ترفرف فوقنا أجنحة الشعور بالظفر على العدو وإفساد خططه، وإذا بصوت من الخلف يناديني باسمي مقرونا بصفة حبيبة إلى قلبي (يا صديقي العزيز، لا تظن أني أغتالك غدراً بل أقتلك دفاعاً عن قومي وشرفي العسكري) وصوب بندقيته وسددها.

يكفي أن أقول لكم يا إخواني إن خمس بندقيات صوبت في لحظة واحدة إلى صدر (صديقي العزيز) وإلى من مكان معه من ضباط، وأن رصاصتي كانت الأسبق إلى قلبه.

بكيت ذلك الصديق، وما برحت أبكي سجاياه وشمائله، لأنه إنسان مهذب.

سأل واحد من المستمعين بتلهف عن مصير تلك الموقعة فأجاب المتحدث بصوت تخنقه العبرة الجامدة، (لقد تولى رفاقي إدارتها بنجاح حتى ارتد العدو أما أنا فقد واريت قتيلي التراب).

من يراقب أولئك الأصدقاء يؤلفون دائرة في وسطها نرجيلات نكركر، وأنفاس تطلق في الهواء، يحس بأن لا فارق بين المتحدث والسامع في اعتصار أحداثه من قرارة نفسه، وأن الكلمات المهموسة تبلغ مكمن الضمير وحنايا الوجدان.

- 4 -

أحدثكم أيها الرفاق عن حادثين متناقضين يسبقان أحداث الثورات الداخلية، لعلي أعيد بهما نضرة الحياة إلى وجوهكم وقد فنيت فيها البشاشة وغاضت مياهها.

وحكايتي لابد لها من مقدمة أقرر لكم فيها، أن المبادئ التي يصطنعها أصحاب الأغراض الوطنية ويتخذها الشبان مثلا عليا، ليست إلا سطورا مسجاة في صدورنا، أو جثثا مدفونة فيها، قيمتها في الثرثرة عنها، وهي على وجه التمثيل كالبخور الذي يطلقه المشعوذ، أما تنفيذ المبادئ والعمل للمثل العليا، أو العمل على الأقل، في حيز غير عنها، فليس في وسع الرجل أو الشعب الذي قضى عليه بأن يكون محكوماً، ولا راد لقضاء القوة عليه؟!!

ولبيان ذلك أقول: ألفنا نحن الطلاب العرب، أيام كنا نطلب العلم في الأستانة، جمعية اتخذنا لها القانون الذي قننه لنا أصحاب المثل العليا في الوطنية والقومية، وأقسمنا بالله وبالشرف والوطن على تنفيذه بسلاحنا ودمائنا.

ساقتنا الدولة العلية التي كنا نعمل للخلاص منها، والإعتاق من عبوديتها، إلى محاربة دولة غربية كنا نؤمن آنذاك أن لا سبيل لنيل استقلالنا الوطني، وتحقيق آمالنا القومية العربية، إلا بمساعدتها إيانا.

وقفت ورفاقي نتحسس المبادئ المدفونة في صدورنا، وإذا الأوامر العليا تستحثنا على التقدم والقتال، وشعرنا بأن قوة جارفة من حديد ونار تجرفنا من الوراء إلى الأمام.

حاربنا، أجل لقد حاربنا من قال زعماؤنا عنهم إنهم عدتنا للاستقلال، وقاتلنا قتال المجاهدين في صفوف من قالوا لنا إنهم أعداء استقلال وطننا وقوميتنا!!!

لقد أنستنا الحرب إنسانيتنا وردتنا إلى أصولنا المتوحشة. كنت في بداية الحرب، وقد خفت ميدان القتال، لا تفارقني الأشباح المرعبة، والخيالات المزعجة لشخوص من كنت أراهم يسقطون بضربة سيف، أو بطلقة مسدس أطلقها من دون وعي، وما عتَّمت أن تأكسدت مشاعري فصرت كالجزار ينحر الكبش وهو يكبّر.

صدرت إلينا الأوامر من القيادة بأن نحتفظ بمواقفنا مهما كلفنا الأمر، وبأن نعمل على التقدم مهما باهظ الثمن. كانت المدافع تدوي، والقذائف تحفر فجوات في الفضاء فتكظم بزخمها نفس من يدنو من طريقها العريض، وبرغم ذلك كنا كالمناجذ نتقدم فنحفر حفرة تتحول في وقت قصير إلى خندق يقينا ويلات المدافع الرشاشة.

لم نكن نحفل بمن يستشهد منا، أو يجرح فيتلوى كالطفل الممغوص، بل كان همنا أن نتقدم وأن نقي أنفسنا، ونحتفظ بمراكزنا، كأن في ذلك منجاة لنا من موت يحوم فوقنا.

يا لله يا أصدقائي من نزعة حب البقاء كيف تدفع إلى الموت حباً للحياة، كان الوجود بأكمله في ناحية، وكنت أنا وحدي في الناحية الأخرى، فلو فني الوجود بمن عليه وبقيت أنا وحدي لكنت الوجود بتمامه وكماله، ولم أكن أفكر ساعة الموقعة إلا في شيء واحد هو (أنا).

لا أدري كيف لم تغب شمس ذلك النهار، لأن الجو كان مناراً بآلاف من ومضات المدافع وشرار البنادق فكان من مجموعها يتألف نور وضاء ساعد على مواصلة القتال.

لم يكن الزاد ينقصنا، وأكوام الذخيرة تطمئننا على أن في وسعنا الدفاع عن أنفسنا حباً في البقاء.

أين الراحة؟ كيف السبيل إليها والموقعة ما برحت تتطلب الدماء!! لقد ارتوت هاتيك البطاح بدماء المتقاتلين فلمن منهم تنبت الإصلاح يا ترى؟ كنا نتقدم تارة ونتراجع أخرى، هذه هي الحرب السجال ولكن متى تنتهي الموقعة أو تخمد نارها؟

انبلج الفجر، وأشرقت الشمس، وأقبل الليل الثاني!! لم أعد أحس بحماس للحياة، ولا بدافع إلى البقاء، إنما أنا في حاجة إلى النوم، إلى نوم عميق طويل ينقدني من نفسي، إلى هروب من هذه النفس التي تحوطها عناية الله، وينزل بها بلاء الإنسان.

يا للشيطان!! هل هناك تناقض بين غايتين غاية الله في الحياة وغاية الإنسان في إزهاق الحياة؟

ألقيت بجسمي في حفرة من هذه الحفر التي شققناها بمعاولنا وأظافرنا فصارت خنادق طويلة عميقة، ألقيت مسدسي كأن لم يعد لي حاجة إليه ونمت.

كم ساعة قطع النوم من عمري؟ لا أدري!! أقسم لكم يا إخواني أن لو اتصل نومي بالأبدية لما قلت إلا أنه الراحة الكبرى. . . ولكني استيقظت. لقد أيقظتني مياه غمرت الخندق وقد بلغ ارتفاعها فمي، وقد أخذت امتصها مع التنفس وكدت أختنق من الغصّة. نهضت كالكلب المبلول، أنفض جسمي والسعال يكاد يخنقني وكنت أرتعد من البرد، وإذا بجماعة من الجند يصوبون فوهات بنادقهم إلى صدري، سمعت منها رطانة تنبهني إلى أني أسير.

عرفت بعد إذ بلغت مكان الاعتقال من زملائي الأسرى الذين جاءوا بعدى أننا لم نخسر تلك الموقعة، ولم نفقد مراكزنا الأمامية، ولكن حين شعر الأعداء بإعيائنا وبحاجتنا إلى الراحة، خففوا ضغطهم علينا، وعند ما طلبنا الراحة مستسلمين للنوم، حوّلوا مجرى مياه النهر نحونا فغمرت خنادقنا وأغرقتها، فغطس فيها من غطس غرقاً، ونجا من الموت من أفاق من النوم وداهمته قناصة الأعداء ليلقي منهم الأسر كما لقيته أنا. ومن العجب العجاب أن حكومة الدولة التي أسرتني، بعثت بي إلى ميدان حرب جديد أقاتل فيه مع إخواني من كنا نقاتل في صفوفهم!! والفرق بين الدولتين أن العثمانيين ضنوا علينا بالاستقلال وأن الإنجليز وعدونا به فصدقنا وعدهم!!! والأغرب من هذا، أني بينما كنت أحارب الأتراك بسلاح من الإنجليز معار إلى الدولة العربية التي ارتجلتها السياسة ارتجالا، التقيت عفواً بأخي الضابط يحافظ على الخط الحديدي الحجازي الذي انتدبت لنسفه بالديناميت؛ وقد ساعدني على إتمام مهمتي وعاد هو ورجاله معي لا كأسرى حرب بل كجنود بالجيش العربي، جيش الخلافة العربي.

(يتبع)

حبيب الزحلاوي