مجلة الرسالة/العدد 654/في مآتم الأشواق

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 654/في مآتم الأشواق

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 01 - 1946



للأستاذ محمد العلائي

(إلى طه حسين، والمازني، والعقاد، والزيات، إلى الصديق سيد قطب، إلى هؤلاء أولا، إلى أدباء العربية ثانياً أقدم هذه اللوحة المشبوبة، وهي: مواقد أشواق تسامت بلهيبها أوهام الليل، وترامت على ضوئها مخاوف الرحيل، فباركتها بدعائي، وأحرقت فيها مواهبي، ثم تنفس الفجر فعصفت بقداستها سخرية اليقيقن، وأختنق شيطانها بأريج السلام. . . فسارعت إليها وأطفأتها بأقدامي):

تذكرتُ أيامي ودَارَ متاعبي ... ومشرق أحلامي ومسرى مواهبي

تراءى لناالماضي ولاحت معاهدٌ ... تمليت أوهامي بها وتجاربي

ومأساتُنا الأولى هناك تنزلت ... عليّ بدار الشمس قبل الغياهبِ

وراحت توافيني بكل كريهةٍ ... وتقذف ألوان القذى بمشاربي

وتفجر ما بين الضلوع تزيفها ... لنغمة شادٍ أو لآهة نادبِ

لها كل يوم في الشروق مناحةٌ ... وأوجع منها عند زحف المغاربِ

ظلام الضحى أبلى جديدي وعاقني ... وبيّض في شرخ الشباب ذوائبي

وأطفأ مني القلب في ميعة الصبا ... ويتم أفراحي وأذوَي رغائبي

وحجبني بين اللدِّاتِ فكلهم ... لعوبٌ وهذا منزوٍ غير لاعبِ

وأخرج من أدنى القلوب محبتي ... فأمي لا ترجو بقائي ولا أبي

وأشهدُ أني كنتُ نور عيونهم ... وكنت عزيز الدار نجم الملاعبِ

ولكن أمراً والزمان أراده ... فلست على أهل الزمان بعاتبِ

تناسيتُ إلا محنتي ومواجعاً ... تُقَلِّبها الساعات بين جوانبي

ورحلتنا الأولى ويوم تضاحكت ... أمامي أساريرُ المنى والمطالبِ

ولاح رجاءٌ واطمأنت مشيئتي ... بطالعٍ يمن في جبين الكواكبِ

فأجمعت أمري لا أخاف على غدي ... لقاء العوادي أو ركوب المصاعب

وخلفتُ أحباباً ورائي وأنفساً ... يعزُّ عليها غربتي ومتاعبي

وتحنو على ضعفي وترحم جرأتي ... وتخشى على حظي عثار المراكبِ وقلت وداعاً وانتهجنا سبيلها ... وسرنا بأرض الله ذات المناكبِ

وكانت ليالٍ ثم أشرف ركبنا ... على شاطئ الصحراء مثوى العجائبِ

سلامٌ على دار المنايا وأهلها ... من ابن سبيل أشعث الوجه شاحبِ

يروم الغنى فيها ويبغي كنوزها ... ويرجو بها ظلا وضجعة لاغبِ

طلبتُ على جهل سواء سبيلها ... وأُنسيت حظي والتفاف المشاعبِ

وكلفني ما لا يراد توهمي ... وشفت أحاسيسي بروق المغايب

وأشربت حب الخير حتى أضلني ... وشبَّه معوجاً بآخر لا حبِ

وغشَّى على عقلي فأكبرت تافها ... وسُمْتُ البلايا رغبة في المكاسبِ

وران على نفسي صداها فعانقت ... - لها الله - أمواج السراب المُكاذبِ

وخايلها يمُّ غرورٌ فأنزلت ... بأتعس ثغر فيه أشأم قاربِ

أُسائل مَنْ حولي وليسوا نواطقا ... وليسوا سوى أشباح غرقى رواسبِ

وتُؤذن بالرجعى نوايا عُبابه ... وأين وما بالشط مرسى لراكبِ

أمامي سدود كالفضاء ومفزعي ... إلى غُصص مشبوبة وكواربِ

وأفنى السُّري زادي ومائي ولم أجد ... بها مستقراً واستدارت مذاهبي

وضاق بِوَعثاءِ الطريق تفكري ... ومصَّت شعوري موبقات السباسبِ

وضمَّت على أدهى من اليأس أضلعي ... وناءت بأثقالي ظهور النجائبِ

وأرَّقني خوف المصير ولم أعُد ... أطيقُ الدياجي وارتجافَ المهاوبِ

فأخرجت من صخبي كريماً يودني ... وذا بصرٍ يومَ الشدائد ثاقبِ

وملّكته أمري فكان دليلها ... وسيرت ركبي خلفه غير ناكبِ

وسِرْتُ زماناً مغمض القلب سادراً ... تُلِمُّ في الذكرى وأحدو ركائبي

وأخشع أحيانا أحيىِّ مقابراً ... دفنت بها أهلي وبعض صواحبي

وأسمع للصحراء جُنَّت رياحها ... وردَّت على الموتى نُواح الأقاربِ

وأهوى مع الآفاق جسما مفرغاً ... وروحاً أتاه الموت من كل جانبِ

وبعد أعاجيب تراءت كنوزها ... وراء ضباب كالدجى وسحائبِ

وأذَّن حادي الركب: لا هُمَّ نعمةًً ... ونادى بيوم طافح البشر واهبِ فصدقتُ مأخوذاً وجئتُ وصيدَها ... أغالبُ خوفاً واندفاعةََ راغبِ

وأشعلت مصباحي فلما تكشفت ... عرفت نصيبي عند بيض العواقبِ

ودرتُ كمغشىّ ٍ عليه وحينما ... تمالكت أنفاسي ابتسمت لصاحبي

وقلت جزائي يوم خدَّر مسمعي ... منجم سوءِ بالأماني الكواذبِ

وأيضاً جزائي يوم حمَّت بصيرتي ... وملكت أمري خائباً وأبن خائبِ

فقال: مقاديرٌ ولما تنزلت ... وقعتَ وخابَ الحزمُ يا أبن التجاربِ

وعدتُ كأن الأرض حولي مآتمٌ ... وليس عليها غيرُ باكٍ وناعبِ

أصانع أبناء السبيل وأشتكى ... تعثر أقدامي ورعشة غاربي

أراودُ يأسي والقضاءُ كخاتم ... وأسبحُ في بحر مخيف وناضبِ

أباعدُ عن نفسي حقيقة رجعتي ... وأجبر بلواها بشتى العصائب ِ

وأحكي رؤاها في مضاجع ذابل ... ينام على جنبين صادِ وساغبِ

ومرّ بما أبكى رحيلا مُرزءاً ... جنيت الردى منه وشوك المجادبِ

ولاحت على مرمى العيون مواطني ... تحيةَ وشتاقٍ وفرحة آيبِ

هي الجنة الأولى وفيها منازلٌ ... تنسمتُ أهلي بينها وحبائبي

وفاح شذاها من بعيدٍ فهزني ... وذكّرني عهد الصِّبا ومآربي

وهاج زماناً كالربيع فشاقني ... ترنح آصالي بها ومغاربي

وأنهارها تحت الظلال جوارياً ... وفلكي عليها بين طافٍ وراسبِ

تموج بما فيها كأن غصونها ... على شغب ما بين راضٍ وغاضبِ

هي الجنة الأولى وتحت سمائها ... رأينا تباشير المنى والشبائبِ

مجالان هذا للشراب وللندى ... وذاك لأفراح الهوى والكواعبِ

وقلبان في صدري أروح بجامد ... وأغدو بمنساب الإرادة ذائبِ

يفزعني مسُّ اليقين ولونه ... وأومن مسحوراً بما هو رائبي

أميل مع الأهواء وسنان حالماً ... مكانٌ ينادي وآخر جاذبي

وقلت سأنسى في رُباها مَهالكاً ... أضلَّت صوابي واستباحت مضاربي

ولكن دخلناها فيا بؤس جنتي ... ويا بؤس إيماني وبؤس مثاوبي هي الجنةُ الأولى ولستُ بتائه ... فهذى مغانيها وتلك ملاعبي

رجعنا إليها بعدهمّ وغُربة ... وبعد ملمّات أشبن ذوائبي

وهأنا فيها لا ضميري ضاحك ... ولا أملي بين الرياض بواثبِ

على بابها الميمون ظلُّ كآبةٍ ... وفي الساحة الكبرى عبيرُ النوائبِ

وأشهى جناها ليس فيه مذاقهُ ... وكوثرها - لا كان - جمُّ الشوائبِ

وأشجارها الموتى غصون تهدَّلت ... وكانت عناقيد الثمار الأطايبِ

وأزهارها صفرٌ عليها مَذَلةٌٌ ... وأطيارها مبحوحة كالنوادبِ

وما كان منها دافقاً رُدَّ ماؤه ... وصاخبها أمسى وليس بصاخبِ

مرابعها جفَّت وراحت أجادبا ... وكانت مزاراً للحيا والسواكبِ

خمائلها محزونةٌ وسماؤها ... تميلُ بأشباه النجوم الغواربِ

ومالت أعاليها وزارت رُبوعها ... عواصف شتى بين ساف وحاصبِ

تحوَّل عنها أهلها وتناوحَت ... بأبهى مجاليها ظِماءُ النواعبِ

وجوهٌ كأحداث الزمان مخيفةٌ ... أطلت عليها من قصور خواربِ

وتلك التي بالأمس كنا نُريدها ... ونسأل عنها كلَّ آتٍ وذاهبِ

هي الجنة الأولى وكنتُ أمامها ... أحس بأن الكون بين جوانبي

وأشهدُ آفاقاً كباراً وعالماً ... عرفتُ به قلبي وأولى عجائبي

ونادمتُ أشواقي هناك مواسماً ... أجِدُّ وألهو بالظنون اللواعبِ

وأرسلتُ أحلامي وراء غُيُوبه ... أخاف وأرجو مُبهمات العواقبِ

وفي النفس أهواء وفيها مواجد ... وفيها تهاويلٌ سدَدْن مذاهبي

وفيها تسابيحٌ لعرش أظلَّني ... وفكَّ قيودي واستفزَّ مواهبي

وألهمني حتى كأني مُنَوَّمٌ ... أزال حجاب السرعن كل غائبِ

وأنطقني حتى لخْلتُ أضالعي ... ستعلن أسراري وتُفشي مآربي

وأسكتَني حتى تجمَّد خاطري ... وماتت بأعراقِ اللسان غرائبي

وغيَّر حالاتي وصفَّى مشاعري ... أحس كمخدور وأهذي كشاربِ

وأغرى بأسباب الحياة نوازعي ... وحرَّكَ أوهامي وأذكى رغائبي ونضَّر أجوائي فأضحت خمائلاً ... يفوح شذاها من صبا وجنائبِ

وتحظى بما دون القليل مطامعي ... فتُشرق آمالي وتصفو مشاربي

وأصبح والدنيا بصدري مباهج ... وأمسى وأفلاك الزمان مواكبي

هي الجنة الأولى وبات نسيمها ... روائح أنقاضٍ ورجعَ منادبِ

معالمها ليست كأمس وإن هفت ... عليها ظلال من أمان ذواهبِ

وأمست خلاءً غير ماض يعودها ... وريح كأنفاس الخطوب الأشايبِ

سلامٌ عليها يوم كانت رياضُها ... مشارقَ أفراحٍ وقبلةَ راهبِ

سلامٌ عليها يوم أطفئ نورها ... وغشَّى زواياها نسيج العناكبِ

تعلمت من هذا الزمان ولم أكن ... لأعلم لولا واصبٌ بعد واصبِ

هضمنا الليالي واعتصرنا بلاءها ... وعريت أجسادَ المنى والنوائبِ

وقلبت في جدِّ الحياة وهزلها ... وما عفت إلا مائعات المصائبِ

وساجلت أقداري وكانت مريرة ... فعدت بما شاءت سليباً كسالبِ

وأدهى من الحالين سِلْمٌ تنالها ... بوجدان مغلوب وبسمة غالبِ

وملت إلى ظلِّ السلام فأطمعت ... سماحة إغضائي ضعاف الثعالبِ

وأبلغ رُزءٍ أن تكون فريسةًً ... لأفواه ما ليست ذوات مخالبِ

وقاويت دهري فاستحاني ضميره ... ولما يحذرني طريق المعاطبِ

وباصرته فازورَّ عني حنانه ... وألقى رزاياه حيال مساربي

حياةٌ وليست بالقليل وإنما ... يقلل منها كل أعزل هاربِ

خِضَمٌّ من اللذات يلعن موجه ... لفيف من الغرقى ضعاف المناكبِ

هي الكأس يحلو مُرُّها لمعاقر ... ويجزع منها كلُّ غر مُجانبِ

كرهنا على عجز ولم نر غيرها ... وعند بلوغ اليأس خلق المعايبِ

حياةٌ وموتٌ ليس بعدُ حقيقةٌ ... وليس سوى هذين معنى لحاسبِ

رسائلُ شتى والضمير مغيَّبُ ... وإغراءُ مطلوب وشهوة طالبِ

ومُعتركٌ والحظ يعرف أهلهُ ... وأنات مغصوب وتعليل غاصبِ

نصيبي مقدور فما اخترت موطني ... وما اخترت أمي قبل ذاك ولا أبى حبيب إليَّ العيش رغم توجعي ... ورغم شعورٍ بالفجيعة ناصبِ

ورغم انطوائي لا أضاحك غايةًً ... ولا أمنحُ الدنيا بشاشة راغبِ

أصَمُّ وفي أذنيَّ وقرٌ وإنني ... لتحرق سمعي هامسات المغايبِ

وأبكم لا أُفضىَ وأَنَّى لمنطقي ... وأسمى نواديهم صريرُ جنادبِ

بأنفسهم عَوْراتُ سوءٍ تردُّني ... وتخْجلُ وجداني فأغضى كهائبِ

وأرحمهم مما تكنُّ صدورُهم ... وأرثى لأبناء الأذى والعقاربِ

وأصغرت ما يرجون حتى زمانهم ... ودنيا غوانيهم وعُليا المراتبِ

وأوصدت باب المجد لما تكشفت ... أمامي أربابُ العُلا والمناصبِ

وأسأمني دهرٌ يَمُرُّ عجيبُه ... وأعجبُ منه ماثلٌ في تجاربي

(القاهرة)

محمد العلائي