مجلة الرسالة/العدد 653/الجامعة العربية حركة طبيعية
مجلة الرسالة/العدد 653/الجامعة العربية حركة طبيعية
للأستاذ محمود العقاد
قيل في الغرب - وردد بعض الشرقيين هذا القول - إن الجامعة العربية حركة مصطنعة تديرها بعض الدول الأجنبية لأغراضها السياسية في الوقت الحاضر، وإنها تستطيع أن تبطلها كما استطاعت أن تختلقها متى فرغت من حاجتها إليها.
والذي نريد أن نقرره قبل بيان الحقيقة في هذه الأقاويل أن الحركات العالمية، أو الحركات القومية، لا يخلقها تدبير مصطنع على الإطلاق، وأنها توجد بأسبابها الكامنة فيها وتتجه إلى غاياتها الموافقة لتكوينها، فلا تستطيع قوة في الأرض أن تظهرها وهي خافية، أو تتجه بها إلى غاية لا توافقها ولا تلائم مصالح ذويها.
والحركة العربية قامت في نشأتها الحديثة على الرغم من السياسة الأوربية ولم تقم باختيارها وتدبيرها، وعادت إلى التجمع والوحدة بين الحربين العالمتين؛ لأنها لا بد أن تعود بعد تلك القومة الأولى.
فمنذ أوائل القرن التاسع عشر سُئِل إبراهيم باشا وهو يناضل الدولة العثمانية: إلى أين تنتهي فتوحاته؟ فقال: إلى حيث لا يوجد من يتكلم العربية. يريد بذلك أن ينشئ دولة عربية محضاً، ولا يريد أن يتجاوزها إلى بلاد أخرى.
وحوالي هذا الوقت كان محمد بن عبد الوهاب في نجد يعلن ثورة على الحكومة العثمانية، ويجمع القبائل في جزيرة العرب لتوحيد كلمتها، والاتجاه بها إلى وجهة الاستقلال، عن السيطرة الخارجية.
ولم تكن جزيرة العرب يومئذ تعترف بشيء من السلطان الأجنبي غير السيادة الإسمية والرقابة البعيدة التي لا تعترض لشؤونها الداخلية، فكان أمراء نجد والكويت والحجاز واليمن يأخذون وقلما يعطون في علاقتهم بالدولة العثمانية، وكانوا على استقلالهم الذي تعودوه منذ القدم في حواضر الصحراء وبواديها، ولا سيما البوادي التي تحجم عنها جنود الدولة ولا تنفذ إليها بغير إذن من أبنائها.
أما في سورية ولبنان فقد رحبت جمهرة الشعب بحركات الوحدة مع الأمم العربية الأخرى وكانت على اتصال دائم بوادي النيل والجزيرة، وكانت علاقة أمرائها بمحمد على ما يعلم المطلعون على تاريخ ذلك الحين.
وفي كلُّ هذا كانت السياسة الأوربية تقف من حركات العرب موقف المقاومة والتثبيط، لأنها عملت على بقاء الأمم العربية في حوزة الدولة العثمانية، محرومة جهد المستطاع من حقوق السيادة والاستقلال.
ولم تفلح هذه المقاومة إلا ريثما استجدت تلك الأمم نشاطها وتحفزت مرة أخرى للوثوب إلى غايتها.
فقامت في مصر حركة المطالبة بمصر للمصريين، وقامت في السودان حركة (التُرُك) كما كانوا يسمون الأجانب أجمعين، وقامت في بلاد العرب دعوة واحدة إلى الاستقلال، ولكنها كانت تمتحن من آونة إلى أخرى بمحنة المنافسة بين زعماء العشائر وأمراء الأقاليم، ودخل السوريون واللبنانيون والعراقيون في حزب تركيا الفتاة؛ لأنه الحزب الذي كان يمنيهم بالحكومة (اللامركزية) أي حكومة العرب في بلادهم، كما يشاءون، وبمن يشاءون.
وفي هذا الدور أيضاً في من أدوار القضية العربية كانت لسياسة الأوربية تخذل العرب أو تمنعهم أن يبلغوا من الاستقلال غاية ما يقدرون عليه.
ثم نشبت حرب الأمم قبل ثلاثين سنة فتحركت الجامعة العربية من جديد، تارة على هدى وتارة على ضلال، فتسابقت دول أوربا إلى كسب الأنصار من أمم العرب التي استقلت أو طمحت إلى الاستقلال، وانتهت الحرب والأمم العربية جمعاء متفقة على المطالبة على الحرية والمناداة باسم العروبة في جامعة تتوافر لأعضائها حقوق الاستقلال.
وعلى ما كان من موقف أوربا في المقاومة والتثبيط كانت لها فلتات هنا وفلتات هناك تبدر منها حيناً بعد حين؛ في سبيل التشجيع والإغراء.
فكان الإنجليز مثلاً يشجعون المناداة بمصر للمصريين لأنها تفصل مصر عن الدولة العثمانية، ولكنهم يثبطونها من جهة أخرى لأنها ثورة صريحة على الاحتلال البريطاني، وما عسى أن يتطور إليه من بسط الحماية البريطانية في صورة من صورها الكثيرة.
وكان الفرنسيون ينشئون المدارس في البلاد السورية، كما ينشئون بها المطابع والمجامع لنشر كتب العرب وثقافة العرب وإحياء التراث العربي القديم، سعياً إلى الفصل بين العرب والدولة العثمانية لا سعياً إلى استقلالهم عن جميع الطامعين، وفي طليعتهم الفرنسيون.
وكان الألمان يقابلون هذا بالتقرب إلى (الجامعة الإسلامية) لأنها تشمل التقرب من الترك والعرب على السواء، ولكنهم كانوا يطمحون من وراء هذه الجامعة إلى بلاد العرب في طريقهم إلى الهند والأقطار الآسيوية، ويدفعون السلطان عبد الحميد إلى مد خطوط المواصلات في أنحاء سورية والجزيرة تحقيقاً لأحلامهم التي تتلخص في صيحتهم (من برلين إلى بغداد) ثم إلى الهند من هذه الطريق.
فالسياسة الأوربية قد وجدت حركة قائمة فاستفادت منها تارة بالمقاومة وتارة بالتشجيع.
أما أنها تخلقها خلقاً فذلك مخالف للواقع ومخالف لفحوى التاريخ، وهو على هذا وذلك مستحيل.
واليوم تدخل (الجامعة العربية) في طور جديد بفضل كيانها القديم لا بفضل السياسة المصطنعة أو التدبير الخارجي من جانب الإنجليز أو جانب الأمريكيين.
وقد تكون للإنجليز مصلحة في مصادقتها ورغبة في التفاهم بينهم وبينها، ولكنهم يجدون مثل هذه المصلحة في التفاؤل بينهم وبين الإغريق أو التفاهم بينهم وبين الإيطاليين، فلا يقول قائل أنهم خلقوا القومية الإغريقية أو خلقوا القومية الإيطالية، أو أنهم قادرون على تجاهل القوميتين وإحباط ما ترميان إليه إذا تحولت السياسة من خطة إلى خطة في المستقبل القريب، أو المستقبل البعيد.
وكل ما يعنينا أن التفاهم بين الجامعة العربية وكائن من كان من أصدقائها والراغبين في مصادقتها لا ينتهي إلى ضرر يحيق بالاستقلال أو يحيق بالمصالح الجوهرية، أو يتجه بها إلى غير الوجهة التي يرضاها أبناء الجامعة لأوطانهم، ولأوطان العروبة على الإجمال.
ومتى وثقنا من ذلك فنحن الغانمون باتفاق المصالح بيننا وبين الإنجليز وغير الإنجليز، بل نحن خلقاء أن نزيد من هذا الاتفاق في المصالح والسياسات لأننا لا نحب أن نصطدم بسياسة غيرنا تسنى لنا أن نعامله على وفاق.
إن الجامعة العربية حركة طبيعية من قديم الزمن وهي طبيعية في هذا الزمن على التخصيص، لأن العصر الحاضر ينادي باحترام حقوق الأوطان، وأبناء العروبة يذودون عن أوطانهم وينشدون لها نعمة الحرية الكاملة، ولأن العصر الحاضر ينادي بالتعاون في الجوار وأبناء العروبة متجاورون محتاجون إلى التعاون فيما بينهم على المرافق المشتركة وهي أكثر من أن تنحصر في مرافق الماضي أو مرافق الحاضر أو مرافق المستقبل على انفراد، ولأن العصر الحاضر ينادي بالتعاون الشامل في المسائل العالمية الكبرى، ونحن نستطيع أن نعين ولا نكره أن نعان ولا نستغني عن المعونة بحال.
وحسب الجامعة العربية أنها عمل ينفع أبناءه ولا يضر غيره - وقد ينفعهم في كثير من الأحوال - ليستحق البقاء ويستحق السهر عليه من ذويه ويستحق الصداقة ممن يعمل في العالم الجديد عمل البصراء والعارفين.
عباس محمود العقاد