انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 652/من محاسن التشريع الإسلامي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 652/من محاسن التشريع الإسلامي

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 12 - 1945



للأستاذ حسن أحمد الخطيب

- 10 -

جعله العرف قاعدة وأساساً للتشريع

من مزايا الشريعة الإسلامية ومحاسنها أنها جعلت العرف أساساً من أسس التشريع إذا لم يخالف

نصاً صريحاً - على ما سنبين - حتى جعل الفقهاء الإسلاميون العرف والعادة قاعدة من قواعدهم، بنوا عليها كثيراً من أحكام الفروع الفقهية، وجرت على ألسنتهم في عبارات مختلفة لفظاً، متقاربة مآلا ومعنى، فقالوا: (العادة مُحَكَّمة، والمعروف كالمشروط، والمعروف عرفا كالمشروط شرطاً)، وفي المبسوط (الثابت بالمعروف كالثابت بالنص)، وفي الجزء الثاني من رد المختار للعلامة ابن عابدين:

والعرف في الشرع له اعتبار ... لذا عليه الحكم قد يُدار

وفي الجزء الخامس منه في مبحث تحديد سن البلوغ للغلام والجارية: (العادة إحدى الحجج الشرعية فيما لا نص فيه)،

وإنما تعتبر العادة والعرف مرجعاً تبنى عليه الأحكام بشروط ثلاثة:

الأول - ألا يخالف العرف نصاً صريحاً.

الثاني - أن يكون العرف عاماً، فالحكم العام لا يثبت بالعرف الخاص، كتعارف أهل بلد واحد، أو تعارف خواص أهل جهة دون عامتها، فإن التعارف لا يثبت بهذا القدر، وقيل يثبت به، ولكن المعول عليه عدم اعتبار العرف الخاص، وإن أفتى بعضهم باعتباره.

الثالث - إذا اطردت العادة وغلبت.

ولكثرة الفروع والأحكام التي بنيت على تلك القاعدة - نجتزئ بذكر الأمثلة:

1 - ألفاظ الواقفين نبتني على عرفهم، وكذا لفظ الناذر والحالف.

2 - قال بعض الفقهاء في حد الماء الجاري: هو ما يعده العرف جاريا.

3 - وقالوا في الحيض والنفاس إذا زاد الدم على أكثر مدة الحيض أو النفاس - ترد المرأة إلى أيام عدتها.

4 - وأجازوا استئجار الظئر بطعامها وكسوتها على المستأجر وإن كان مجهولا للعرف.

5 - ومن ذلك أيضاً ما ذهب إليه أهل المدينة في الدعاوى، فقد جعلوها على ثلاث مراتب:

الأولى - دعوى يشهد لها العرف بأنها تشبه أن تكون حقاً، وهذه تسمع من مدعيها، وله إقامة البينة، أو استحلاف المدعى عليه:

الثانية - ما يشهد العرف بأنها لا تشبه ذلك، وإلا أنه لا يقتضي بكذبها - كما إذا ادعى شخص على رجل ولا معرفة بينهما البتة، وأنه أقرضه أو باعه شيئاً بثمن في ذمته إلى أجل - فهذه الدعوى تسمع، ولمدعيها أن يقيم البينة، ولكنهم قالوا إنه لا يملك استحلاف المدعى عليه على نفيها إلا بإثبات خلطة بينه وبين المدعى عليه.

الثالثة - دعوى يقضي العرف بكذبها، فلا تسمع، ولهذه أمثلة كثيرة، منها أن تأتي المرأة بعد سنين متطاولة، تدعي على زوجها أنه لم يكسها في شتاء ولا صيف، ولا أنفق عليها شيئاً فهذه الدعوى لا تسمع، لتكذيب العرف العادة بها، ولا سيما إذا كانت المرأة فقيرة، وكان الزوج موسراً

6 - يقبل قول الوصي فيما ينفقه على اليتيم إذا ادعى ما يقتضيه العرف، فإذا ادعى أكثر من ذلك لم يقبل قوله.

7 - قال أبو يوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة يحكم ببلوغ الغلام والجارية إذا بلغا خمس عشرة سنة - عند عدم ظهور إمارات البلوغ - وبه قالت الأئمة الثلاثة، وعللوا ذلك بأنه العادة الغالبة على أهل زمانهم.

والأصل في وضع هذا الأساس وتقرير تلك القاعدة قوله عليه الصلاة والسلام: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن)؛ قال العلائي لم أجده مرفوعاً، وإنما هو من قول عبد الله ابن مسعود، فقد روى عنه الإمام أحمد وغيره: (إن الله نظر في قلوب العباد، فرأى قلب محمد خير قلوب العباد، فاختاره لرسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعده، فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته، فما رآه المؤمنون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المؤمنون قبيحاً فهو عند الله قبيح)، وقال شهاب الدين القافي: إن الأحكام تجري مع العرف والعادة، وينتقل الفقه بانتقالها، ومن جهل المفتي جموده على المنصوص في الكتب غير ملتفت إلى تغيير العرف.

هذا وإنك لتدهش حقاً حينما تطلع على كثرة المسائل الفقهية، والأحكام التشريعية التي بناها علماء التشريع الإسلامي على العرف والعادة، إذ اعتبروهما أساساً من أسس التشريع بالشروط التي أسلفناها، ولكن لا يلبث دهشك أن يزول إذا علمت أن القانون الصالح هو الذي تراعى فيه أحوال الأمة الاجتماعية والاقتصادية، وعاداتها العامة، على ألا يكون في ذلك إقرار مفسدة، أو تعطيل مصلحة، ومن جهة أخرى، فان النزع من العادة الظاهرة، وإقصاء الناس عن العرف العام - في غير حاجة ولا ضرورة - فيه حرج لهم، ولا شك أن أصلح الشرائع، وأجدرها بالبقاء ما روعي فيها اليسر، وانتفى منها الحرج والعسر، وذلك ما تحقق في شريعة الإسلام.

(يتبع)

حسن أحمد الخطيب