مجلة الرسالة/العدد 650/مؤلف العباسة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 650/مؤلف العباسة

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 12 - 1945


بكرم صاحب الجلالة الفاروق

ربما صاحب (الأنات الحائرة) مثلاً فريداً في تاريخنا الأدبي كله: أبدر قمره وهو هلال يلوح، وأينع ثمره وهو زهر يفوح، واكتمل شعره وهو قصيد ينوح؛ فلم نكد نرى الشاعر وجدانياً يرجِّع الأنات على قبر (زين)، ويوقع الذكريات على ضريح (خديجة)، حتى رأيناه روائياً يحتجب وراء الأستار، ثم يقول قول الفلاسفة، ويفعل فعل الآلهة، فيبعث الأموات، ويخلق الأشخاص، ويعيد الأحداث، ويصور الأخلاق، ويمثل العواطف، ويفلسف الحياة، ويرسم البيئة، ويستخلص العبرة! وبين الشعر الوجداني والشعر الدرامي دهر طويل وشوط بعيد لابد منها ليستطيع الشاعر أن يخرج عن ذاته، وينقل عن حياة غيره لا عن حياته؛ ولكن شاعر المآسي نضج باكراً من حرارة الحزن، وفاض طاغياً من فوران الحس، وانفجر صارخاً من برحَاء الألم. فهو فريد في بزوغه، فريد في نبوغه، فريد في تطور شعره، فريد في استفاضة ذكره، فريد في كل ما يتصل بشاعريته حتى في الإرشاد بها والإثابة عليها؛ فقد تفضل صاحب الجلالة فاروق أعز الله نصره، وجمل بالآداب والفنون عصره، فأنعم على مؤلف العباسة بالباشوية، وما علمنا قبل عهد الفاروق ومجد عزيز أن رجلا أصبح باشا لأنه شاعر! والذي نعلمه أن الخطباء في عهود الحضارة العربية قد نالوا الإمارة، والكتاب قد بلغوا الوزارة، ولكن الشعراء كانوا كالمغنين والموسيقيين؛ شيئا من زينة الملك وترف الدولة بنادمون الخليفة ولا يدخلون في بطانته، ويطربون الشعب ولا يحسبون في قادته. فإذا أصبحنا ننظر إلى الشاعر العربي النابغ نظر الإنجليز إلى شاعر الملكية شكسبير، أو إلى شاعر الإمبراطورية كِبِلْنج، فإنما يرجع الفضل في هذا النظر الجديد الشديد إلى عطف ملكنا فاروق وفن شاعرنا عزيز!

ليت الشاعر أو الذين رصدوا كوكبه وسايروا هواه من لداته وثقاته

حللوا عوامل هذا النبوغ المفاجئ، وسجلوا أطوار هذا الشعر المحكم،

فإن رجال الأدب يستبعدون ان يولد شاعر بهذا الكمال، ويوجد شعر

بهذا الجمال، وفي صيف عام واحد والراصد البعيد يرى في الأمر أثراً من فضل الله، وفضل الله يؤتيه من يشاء لحكمة لا يدخل تعليلها في

منطق عباده

يرى الراصد البعيد تلك النفس اللطيفة التي أشبلت على مواهب هذا الشاعر وعواطفه شقيقةً وصديقةً وزوجةً، فيذكر أم المؤمنين التي حضنت الرسالة وواست الرسول وناصرت الدعوة. ثم يسمع هذا الشاعر المفجوع يهتف بشهر يونية وبما تفجر فيه على قلبه من ينابيع بعضها يسيل هادئاً باللذة، وبعضها يهدر صاخباً بالألم في ذكر شهر رمضان وما تجمع فيه للإسلام من الذكريات الملهمات من يوم بدر، إلى ليلة القدر. ثم يرى هذا الفيض الشعري الدافق ينبجس فجأة على لسان (المدير) بعد سن الأربعين، فيذكر الفضل الذي آتاه الله سيد البلغاء محمداً رسوله وهو في هذه السن فيفاجأ أمراء القول ببلاغة تشبه الإلهام لأنه لم يعانها ولم يتكلفها ولم يرتض لها ولم يشتهر بها قبل البعثة.

ذلك ما يراه الراصد البعيد وما يذكره. أما الناقد العليم بأسرار القلوب يرى أن زوج هذه النفس اللطيفة كان يقول الشعر منذ ثلاثين سنة. كان يقوله حين خالصها الإخاء وهي قريبة، وحين صافاها المحبة وهي خطيبة، وحين صادقها الوفاء وهي زوجة؛ ولكن شعره في هذا العهد الحبيب الخصيب كان صامتاً لا ينطق به لسان ولا قلم؛ لأن الشعور السعيد كالماء اللجي إذا عمق هدأ ثائر وسكن سطحه. والأليفان إذا لبس كل منهما صاحبه خيل إليهما أنهما الصورة، وكل ما على الأرض من شخص وشيء إطار؛ فالشاعر يشدو بهما، والمغني يغني لهما، والطبيعة الصادحة والباغمة كلها تعبر عن النظرة الساهمة في العين الحالمة، وتفسر اللفظة الهائمة على الشفة الباسمة؛ فما بهما إذن من حاجة إلى كلام يقاس بالتفاعيل ويحد بالقافية.

كان ذلك والعش الوثير الدافئ ناعم في ظلال الأمن، غارق في صفاء النعيم؛ فلما لحظته عيون الغير، وقوضته أيدي شعوب، ارفض صبر الشاعر وهي خلد الزوج فجأر بالشكوى وزفر بالأنين؛ وكان من تلك الزفرات الحارة وهذه الأنات الحائرة مجموعة من الشعر الباكي استوجفت القلوب واستوكفت العيون وإن هش بها الفن وصفق لها الأدب! وهكذا استطاع الحزن أن يحمل شاعرنا على أن ينوح، ولم يستطع السرور أن يحمله على أن يغرد.

ثم ضاق وسُعه عن احتمال أساه، فطفق ينشد العزاء في مآسي الأزواج الذين تساقوا كؤوس الهوى صافية مترعة، ثم سعى بينهم الدهر، وصدع شملهم البين، فمزج دمعه الدامي بدموع قيس وجعفر، وبكى ربعه الموحش في ربوع لبنى والعباسة. فكان شعره الدرامي تعبيراً عن ذاته وتمثيلا لمأساته، وإن تغيرت لأسماء وتباينت الصور واختلفت النتائج.

شعر عزيز باشا الذي سمعناه أو قرأناه شعر عالي الطبقة؛ جرى فيه على سنن الفحول من صاغة القريض، فنضّد اللفظ وجود المغنى وراض القافية، وهي صفات لا تكتسب إلا بسعة الاطلاع وطول المعاناة وقوة المَلكة. وإن له في الديوان الأول قصائد ترفعه إلى المكانة العليا من شعراء العربية. ولكن هذا الشعر كله قد قطَر من فؤاده القريح كما يقطر الدمع من العين أو الدم من الجرح؛ فهو وليد الأسى وربيب الألم. فليت شعري أيعتريه الذُّوِىّ إذا ما التأم جرحه واندمل قلبه وجف ينبوعه، أم يَفْجُر الله له ينابيع أخرى تسقيه وتغذيه فيزكو ويتلون ويتنوع؟ إن الرجل فنان موهوب ما في ذلك شك. وإن فنه الحزين قد استطاع على قرب عهده بالحداد أن يحلق فوق السحائب الجون فيكشف آفاقاً بعيدة ويخلق معاني جديدة. ولعلك تجد في العباسة على الأخص مصداق ذلك، فإن فيها الغزل الرقيق، والفلسفة الراشدة، والسياسة الحكيمة، والنوازع النفسية، وكل ذلك حوار قوى، وتشويق جاذب، وتنسيق عجيب، ومواءمة بين المعنى واللفظ، وملاءمة بين الموضوع والوزن؛ ومثل ذلك لا يتسنى إلا لمن ملك ناصية الشعر وقبض على أزمة البلاغة

لهذا النبوغ الأصيل، وهذا الشعر الفخم الجميل، استحق شاعرنا التكريم. ومن تكريم الله إياه أن كرمه صاحب الجلالة الفاروق بأرفع الرتب في الدولة. ولهذا الإنعام السامي مغزى خطير وأثر كبير في نهضة الأدب وحياة أهله: مغزاه الخطير أنه توجيه ملكي كريم إلى ما ينبغي أن يكون عليه أمر الأدب قدر الأديب في هذا العهد. وهو تنويه بشأن البلاغة العالية في الوقت الذي طاولها فيه الأدب الخسيس فطغت السوقية على الصحافة والعامية على المسرح.

وأثره الكبير أنه تشجيع رفيع لعزيز باشا على أن يجرى إلى أبعد الغايات في شعره، تحقيقاً لرغبة المليك وقياماً بواجب شكره. وهو تشجيع لكل شاعر على أن يجدد ويجيد التماساً لرضا الفاروق حلمي ونصير الأدب.

وفي هذه الإنعام السامي كذلك تكريم للأسرة الأباظية العظيمة على ما أشاعت في الأمة من خصال الفتوة. والفتوة العربية عناصرها أهمها الشجاعة والفصاحة والسماحة والمروءة، وهي الخصال الغالبة على زعماء هذه الأسرة من سلف منهم ومن خلف.

نضر الله بأمثالهم عهد الفاروق، وجدد بأعمالهم مجد مصر!

أحمد حسن الزيات