مجلة الرسالة/العدد 650/القصص
مجلة الرسالة/العدد 650/القصص
اليد المقطوعة
للكاتب الفرنسي جي دو موباسان
بقلم الأديب محمد عبد اللطيف حسن
التف الجمع حول المسيو برمتير مدير الأمن العام الذي أمكنه أن يحل بذكائه ونباهته رموز جريمة سان كلود التي حيرت أهل باريس مدة عام كامل، وأن يكشف الستار عنها بما عرف عنه من مهارة البحث، ودقة التحري والاستقصاء
وكان المسيو ميتر جالساً يدخن غليونه في هدوء بجوار المدفأة التي كانت تتأجج فيها النار، وقد استلقى بظهره العريض الممتلئ على مقعد كبير مريح
وغادر بعض السيدات الموجودات وسط هذا الجمع مقاعدهن واقتربن منه ليتمكن من الإصغاء إليه وكن هو يسرد عليهن حوادث هذه الجريمة الرهيبة، ويروي لهن الغوامض والأسرار التي اكتنفها في ذلك الوقت من كل ناحية.
فلما انتهى من سردها التفتت إ ليه إحدى السيدات وقالت:
- إن هذه الجريمة تعتبر في نظري، بل في نظر الكثيرين أيضاً، من الجرائم الشاذة الخارقة لنواميس الطبيعة. . .
فأجابها المسيو متير وهو ينفث من فمه دخان غليونه في الهواء:
- إنها ليست يا سيدتي من النوع الشاذ الخارق لنواميس الطبيعة كما تظنين، وكل ما يمكنني أن أقوله عنها إنها ارتكبت بمهارة فائقة، ونفذت بطريقة متناهية في البراعة والدقة. وكان الغموض يكتنف هذه الجريمة من كل جانب حتى إنني لم أتمكن من حلها إلا بعد كثير من المشقة وطول البحث والتفكير. . .
وبعد أن سكت هنيهة تابع حديثه فقال:
- وقد مرت بي منذ بضع سنوات قضية يمكنني أن أقول عنها إنها شاذة خارقة لسنن الطبيعة، عنها بحق إنها شاذة خارقة لسنن الطبيعة، وهذه القضية هي الوحيدة التي لم أتمكن إلى الآن من حلها، ولم أوفق في العثور على أثر يساعدني على إجلاء غوامضها.
وقد اضطرت في النهاية إلى أن أنفض يدي منها بعد أن فشلت في الوصول إلى فك رموزها، وحل معمياتها الكثيرة
وكان لهذه البداية المشوقة التي استهل بها المسيو برمثير قصته أثرها في نفوس سامعيه، فلم يلبث أن طلب منه النساء والرجال الذين كانوا يصغون إليه بشغف زائد وانتباه عظيم أن يسرد عليهم تفاصيل هذه القضية العربية فارتسمت على شفتي المسيو برمتير ابتسامة خفيفة باهتة ثم اعتدل في جلسته وقال
كنت في الوقت الذي حدثت فيه وقائع هذه القضية الغامضة مفتشاً سرياً بمدينة أجاكسيو، وهي كما تعلمون مدينة صغيرة تقع على حافة خليج تحيط به الجبال العالية من كل جانب. . وكانت مهمتي الرئيسية هناك تدور حول كشف الجرائم التي يرتكبها أصحابها بدافع من الانتقام وحده. ففي ذات يوم علمت أن إنجليزياً غريباً عن تلك البلاد نزل في هذه المدينة واختار لسكناه دارة (فيلا) جميلة تقع في نهاية الطرف البعيد الممتد من هذا الخليج. وقد أحضرها الإنجليزي معه خادماً فرنسياً أثناء مروره بمدينة مرسيليا. وقد دارت الإشاعات الكثيرة حول هذا الإنجليزي الذي كان يعيش في هذه الدارة بمفرده، والذي لم يكن يغادرها إلا عندما يخرج للقنص والصيد فحسب! ولاحظ عليه سكان المدينة أنه لم يكن يخاطب أحداً من أهلها، ولا يسير في شارع من شوارعها إلا نادراً! وكان يتمرن ساعة أو ساعتين في صباح كل يوم على إطلاق النار من مسدسه الذي لم يكن يفارق جيبه الخلفي مطلقاً! وأشاع عنه بعض الناس أنه قدم إلى هذه المدينة بعد أن فر من بلاده لأسباب سياسية، والبعض الآخر أشاع عنه أنه ارتكب جريمة شنيعة فر بسببها إلى هذه البلاد هارباً من وجه العدالة! وكانت طبيعة عملي تحتم على إذ ذاك أن ألم بشيء من حياة هذا الرجل الغامض، الغريب الأطوار، بيد أني لم أنجح في ذلك في بداية الأمر. كان الاسم الذي عرف به هذا الإنجليزي بين أهل هذه المدينة هو السير جون رويل. وبالرغم من أنني كنت أقتفي أثره وألازمه ملازمة الظل في كل خطواته دون أن أشعره بمراقبتي له، فأنني لم ألحظ عليه ما يريبه أو يشين سمعته بشيء.
ومع كل ذلك فان هذه الإشاعات والأراجيف التي كان تقولها الناس عنه بالحق أو بالباطل لم تقف عند حد، بل لقد زادت في الواقع انتشاراً وذيوعا إلى درجة دفعتني إلى محاولة الاتصال بهذا الرجل مهما كلفتني ذلك من جهد أو كبدني من مشقة وعناء. وكانت أول خطوة خطوتها لتحقيق غرضي أنني بدأت أصطاد بانتظام، وفي مواعيده معينة، في بقعة كبيرة مكشوفة بالقرب من مسكنه. وفي ذات يوم اصطدت طائراً سقط لحسن حظي في حديقة دارته الواسعة المترامية الأطراف، فأسرع كلبي الذي كنت أصطحبه معي دائماً عند خروجي للقنص والصيد وأحضر الطائر المصاب بين أنيابه وهو يلهث من شدة التعب. وقد انتهزت حينئذ هذه الفرصة التي أتاحتها لي الظروف للتعرف بالسير جون رويل الذي كان جالساً وقتئذ في حديقة منزله، فاجتزت المسافة التي كانت تفصلني عنه بخطوات سريعة واسعة، ثم قدمت إليه هذا الطائر - وكان من الطيور الغريبة النادرة المثال - على سبيل الهدية وأنا أعتذر إليه في نفس الوقت من تهجمي على حرمة مسكنه. فشكرني السير جون رويل بحرارة وإخلاص لم أكن أتوقعهما منه وتقبل مني هديتي البسيطة وهو يتمتم بعبارات الشكر والامتنان.
وقبل مضي شهر على هذا الحادث كنت قد تبادلت الحديث معه نحو خمس مرات أو ست، ولكنه كان حديثاً عادياً مألوفاً لا يقدم ولا يؤخر. وفي ذات مساء كنت أمر بجوار منزله فشاهدته جالساً في الشرفة يدخن غليونه بهدوء وقد أمسك في يده صحيفة يومية كان يطالع فيها بشغف واهتمام. فلما وقع بصره علي حييته برفع قبعتي، فرد تحيتي باسماً ثم دعاني إلى الجلوس معه فقبلت دعوته عن طيب خاطر.
وقد انتهزت حينئذ هذه الفرصة التي كنت أترقبها بفروغ صبر فسألته حين استقر بنا المقام عن تاريخ حياته الذي لا أعرف عنه حتى تلك اللحظة شيئاً! فعلمت منه حينئذ أنه سافر إلى أمريكا وأفريقيا والهند وكثير من الأقطار الأخرى. وبعد أن مرت بيننا لحظة سكوت قصيرة قال لي وهو يبتسم: (لقد صادفت أثناء تجوالي في تلك البلدان كثيراً من المخاطر والأهوال التي كادت تودي بحياتي في كثير من الأوقات لولا لطف الله ورعايته. .) وهنا أطلعني على كثير من التفصيلات العجيبة الخاصة بصيد فرس البحر، والفهود، والفيلة، والغوريلا وغيرها. فقلت له وأنا أعجب بغزارة علمه، وسعة إطلاعه: (إن هذه الحيوانات وحشية ومخيفة للغاية).
فأجابني محدثي وهو يبتسم بهدوء: (نعم هذه الحيوانات وحشية ومخيفة كما تقول، ولكن هنالك بين البشر من هم أكثر وحشية وأشد شراسة وفتكا منها!) وتطرق الحديث بنا بعد ذلك إلى التكلم عن أنواع بنادق الصيد المختلفة. ثم دعاني بعد أن فرغنا من هذا الحديث إلى مشاهدة مجموعة البنادق والأسلحة التي كان يحتفظ بها في إحدى الغرف الخلفية للمنزل. واسترمي نظري في هذه الغرفة التي أدخلني فيها شئ غريب معلق على الحائط، وكان هذا الشيء موضوعاً داخل جراب من القطيفة السميكة الحمراء. فلما اقتربت من هذا الشيء لأتبينه عن قرب وجدته يداً بشرية كبيرة الحجم! وكانت هذه اليد المقطوعة جافة سوداء ذات أظافر طويلة مصفرة اللون، وعليها آثار دماء متجمدة سوداء قديمة العهد. وكان يلوح لي على هذه اليد أنها قطعت بمهارة فائقة عند اتصال أعلى الذراع بالكتف بآلة صلبة حادة.
ومما استرعى انتباهي أكثر من أي شئ آخر أنني رأيت جون معصم هذه اليد سلسلة حديدية متينة مشدودة إلى حلقة مثبتة في الحائط بدقة عجيبة، بحيث لا يقوى على انتزاعها من مكانها أقوى الرجال عضلا وأشدهم بأساً!
فلما راني السير جون رويل أحدق بدهشة وذهول في تلك اليد البشرية البشعة المنظر تلاشت الابتسامة التي كانت مرتسمة على شفتيه منذ لحظة وقال: (إن هذه اليد التي تراها معلقة على الحائط أمامك هي يد ألد عدو لي على ظهر البسيطة، وهو رجل زنجي من أهالي أمريكا الجنوبية، وقد قطعت يده هذه بفأس كبيرة حادة النصل بعد أن قتلته شر قتلة، ثم نزعت عنها جلدها الخارجي وجففتها في الشمس مدة أسبوع كامل واحتفظت بها بعد ذلك داخل هذا الجراب الذي تراها موضوعة فيه) وكانت أصابع هذه اليد اللعينة طويلة ملتصقا بعضها ببعض بقطعة كبيرة من القماش المتين. وقلت للسير جون رويل وأنا أشيح بوجهي عن هذه اليد التي كان يدل قطعها على منتهى الوحشية والقسوة: (أظن أن عدوك كان قوياً كبير الجسم؟) فأجاب الإنجليزي ببرود وجمود: (نعم لقد كان ضخماً قوياً في الواقع، ولكنني كنت في ذلك الوقت أقوى وأشد بأساً منه، وقد ربطت يده في تلك السلسلة الحديدية المتينة حتى لا تحاول الإفلات منها!) وظننت حينئذ أنه قال العبارة الأخيرة على سبيل الدعابة والتفكه فقلت: (ولكن هذه اليد لا يمكنها الإفلات بطبيعة الحال، ولا سيما بعد أن فصلت عن جسم صاحبها الذي قتلته شر قتلة كما قلت؟) فأجاب السير جون رويل وهو عابس الوجه، مقطب الجبين: (لقد أخطأت القول يا صاحبي، فقد حاولت هذه اليد الإفلات فعلا عدة مرات، ولهذا لم أجد بداً من ربطها في هذه السلسلة القوية!) فنظرت إليه نظرة غريبة متشككة وظننت أن به مساً من الجنون، ولكن جمود وجهه وصرامة هيئته كانا يدلان على أنه جاد في قوله، صادق في زعمه. ولما سألته عن سبب قتله لهذا الرجل انقلب سحنته واكفهر وجهه ثم هز رأسه متأسفاً وقال: (هذا يا صاحبي سري الخاص الذي أحتفظ به لنفسي ولا يمكنني أن أبوح به لأي مخلوق. . .) وتبين لي وقتئذ أن السير جون رويل كان لا يزال يعيش في رعب دائم، وهلع مستمر من هذه اليد البشرية المقطوعة الكئيبة المنظر.
وبعد أن فرغت من التفرج على معروضات الغرفة استأذنت منه في الانصراف فأذن لي بعد أن أخذ مني وعداً بزيارته كلما سمح لي وقتي بذلك. وقد بررت بوعدي إياه فترددت على منزله عدة مرات ثم انقطعت فجأة عن زيارته لأسباب هامة شغلتني عنه. ولاحظت في هذا الوقت أن الأراجيف التي كان يروجها الناس عن السير جون رويل بدأت تخف حدتها، وتقل وطأتها شيئاً فشيئاً حتى تلاشت نهائياً في آخر الأمر. وفي صباح ذات يوم أيقظني خادمي وأخبرني أن السير جون رويل وجد مقتولا في منزله حوالي الساعة السابعة صباحاً؛ وهي الساعة التي اعتاد خادمه الفرنسي أن يوقظه من نومه. ولم تمض نصف ساعة على أثر سماعي هذا النبأ السيئ حتى كنت في منزل القتيل ومعي اثنان من مفتشي البوليس. وهنالك وجدت خادم السير جون رويل واقفاً على باب المنزل في انتظاري. وكان يبكي بحرقة وحرارة على وجهه آثار الحزن العميق والألم الدفين. وجال بفكري أولا أنه مرتكب هذه الجريمة دون غيره. ولكني لم ألبث أن نفيت عني هذا الخاطر بعد أن اتضح لي فيما بعد براءته مما نسب إليه. ولما فحصت جثة السير جون رويل التي كانت ملقاة على ظهرها وسط غرفة نومه وجدت سترته ممزقة شر ممزق، وكان أحد أكمامها منزوعاً من مكانه بشدة، فاستنتجت من ذلك أنه قد حدثت مشادة عنيفة بينه وبين القاتل. واتضح لي أيضاً بعد أن كشف على جثته أنه مات مخنوقاً لأن لون بشرته كان يميل إلى الزرقة الداكنة الضاربة إلى السواد. وكان يلوح على وجهه الجامد الصارم التقاطع آثار رعب هائل وفزع شديد. وقد لاحظت أن أسنانه كانت مطبقة بشدة على شيء غريب لم أتبينه في بادئ الأمر. وكان في أسفل عنقه خمس ثقوب صغيرة بارزة بحجم أصابع اليد.
وطبيعي أن هذه الثقوب قد نشأت من غرز أصابع يد قوية شديدة الصلابة. ولما وصل الطبيب الشرعي الذي قدم على أثرنا مباشرة، وفحص بصمات الأصابع الموجودة على عنق القتيل التفت نحوي وقال: (لقد نشأت هذه الثقوب التي تراها واضحة في أسفل العنق من تأثير ضغط يد بشرية قوية وهي في الغالب يد هيكل بشري أكثر منها يد إنسان حي!) فسرت في جسدي رعدة قوية عندما سمعت منه ذلك، وانتقل تفكيري بسرعة إلى تلك اليد المشئومة التي رأيتها في الغرفة الخلفية لمنزل السير جون رويل.
ولم تمض على ذلك برهة حتى كنت داخل هذه الغرفة، فلم أجد هذه اليد في مكانها من الحائطّ فدهشت لذلك دهشة عظيمة وتحيرت في تفسير هذا الأمر الغريب الذي لم يسبق أن صادفت مثله في حياتي الحافلة بالمهالك والمجازفات! ومما زاد في دهشتي وحيرتي أنني وجدت السلسلة التي كانت هذه اليد مشدودة إليها، مفككة الأجزاء، مقطعة الأوصال، وملقاة على الأرض بلا عناية!. . .
ولما عدت أدراجي إلى الغرفة الموجودة بها جثة السير جون رويل، انحنيت فوق جسمه الممدود على الأرض ثم فتحت فمه بأقصى قوتي وانتزعت الشيء الغريب الذي كان مطبقاً عليه بين أسنانه فوجدته لعظم دهشتي أحد أصابع اليد المقطوعة المختفية! ولم يؤد البحث الذي قمت به في ذلك الوقت في سبيل العثور على تلك اليد إلى نتيجة، ذهبت جهودي ومتاعبي أدراج الرياح! وعلمت من خادم القتيل عند استجوابي له، أن جميع أبواب ونوافذ المنزل كانت محكمة الإغلاق في الليلة التي ارتكبت فيها هذه الجريمة، ولم يسمع الخادم نباح الكلاب التي كان يطلقها السير جون رويل في حديقة المنزل كل ليلة مما يدل على أن أحداً غريباً لم يدخل المنزل من الخارج! كما أنه صرح لي ضمن أقواله التي أدلى بها إلى أن سيده كان يبدو قلقاً مشتت الفكر في الشهر السابق لوفاته، وأنه تسلم في أخريات أيامه رسائل كثيرة كان لا يلبث أن يلقي بها طعمة للنيران بمجرد قراءته لها! وقال أيضاً إنه كثيراً ما رآه ممسكاً في يده بهراوة ثقيلة؛ وقد تجلى في عينيه الرهيبتين بريق الشراسة والغضب، ثم يهوي بها بشدة وعنف على تلك اليد المقطوعة التي كانت معلقة على الحائط، والتي اختفت من مكانها فجأة في ليلة مصرعه! وزاد الخادم على ما تقدم فقال: (لقد آوى سيده إلى فراشه متأخراً في تلك الليلة المشئومة على غير عادته، وأوصد عليه باب غرفته من الداخل. وقد اعتاد أن يضع مسدسه الكبير وسادته بعد أن يحشوه بالرصاص، ولكنه نسي ما أن يضعه في تلك الليلة في مكانه المعهود. .)
وسكت الخادم هنيهة ليسترد أنفاسه اللاهثة ثم تابع حديثه لي فقال: (وكثيراً ما كنت أسمعه يخاطب نفسه أثناء نومه بصوت عال مسموع كما لو كأن يشاجر إنساناً موجوداً معه بالغرفة! ولكن لم أسمع له صوتاً في تلك الليل التي قتل فيها، ولم أكتشف مصرعه إلا عند دخولي غرفته في الصباح بعد أن دفعت الباب بكل قوتي حين لم أسمع من الداخل رداً على نداءاتي
المتكررة. ولا يمكنني أن أتهم أحداً، أو أشتبه في أحد، لأنني لا أعرف له أعداء على الإطلاق، فضلاً عن أنه كان قليل الاختلاط بالناس)
ولما فرغ الخادم من الإدلاء بأقواله غادرت منزل القتيل ثم ذهبت إلى حاكم المدينة وأطلعته على كل التفاصيل التي عرفتها عن هذه القضية الغامضة. وعلى الرغم من التحريات الدقيقة التي قام بها مفتشو البوليس في المدينة - وأنا معهم - فانهم لم يتمكنوا من الوصول إلى معرفة القاتل الذي لم يترك وراءه أثراً على الإطلاق ولم يعثروا طوال مدة بحثهم أي أثر - ولو بسيطا - يستدل به عليه! ومن غريب ما حدث بعد ذلك أن أحد رجال الشرطة السريين أحضر إلي في الشهر التالي لوقوع هذه الجريمة تلك اليد المقطوعة التي اختفت في ليلة مصرع السير جون رويل، وأخبرني أنه عثر عليها بطريقة المصادفة على مقربة من قبر القتيل نفسه؟ فلما اختبرت هذه اليد وفحصتها بعناية ودقة بالغتين، وجدت أحد أصابعها ناقصاً! فتذكرت على الفور ذلك الإصبع الذي كان السير جون رويل مطبقاً بين أسنانه. وبمطابقة هذا الإصبع الذي احتفظت به معي بعد وقوع الجريمة بباقي أصابع اليد، وجدته بطابقها تمام المطابقة!
وبعد أن سكت المسيو برميتر سكتة قصيرة حول وجهه نحو مستمعيه ليرى تأثير قصته في نفوسهم ثم استطرد في حديثه فقال:
- هذه هي تفاصيل القضية الغريبة، وهي مع الأسف الشديد كل ما أعرفه عنها حتى يومنا هذا.
وهنا سألته إحدى السيدات وهي تجفف بمنديلها قطرات العرق الذي أخذ يتجمع فوق جبينها فقالت:
- ولكن حل هذه الجريمة لم يزل غامضاً لنا يا سيدي إلى الآن؟ فابتسم المسيو برمثير ابتسامة مغتصبة وأجابها بقوله:
- إن الذي أمكنني أن استنتجه من خلال الحوادث والملابسات التي مرت بهذه القضية الغامضة، وهو أن صاحب هذه اليد المقطوعة لم يمت كما توهم السير جون رويل. والظاهر أنه تتبعه في كل رحلة من رحلاته، واقتفي أثره في كل مكان ذهب إليه، حتى استقر به المقام مدينة أجاكسيو. وهنالك أمكنه أن يقتله في منزله بيده الأخرى الصحيحة شر قتلة بعد أن نشبت بينهما تلك المعركة العنيفة التي أدت إلى مصرع السير جون رويل في النهاية. ويلوح لي أن المجرم انتزع اليد المقطوعة من مكانها بعد أن فرغ من ارتكاب جريمته، وغرز أصابعه في عنق القتيل تشفياً وانتقاماً منه ثم أخذها معه وفر هارباً. فلما دفن السير جون رويل ذهب هذا المجرم الجريء إلى مقبرته ووضع هذه اليد بجوارها، ليوهم الناس أنها هي التي قتلته من ناحية، وليضلل رجال البوليس من ناحية أخرى! فإذا كان استنتاجي هذا صحيحاً فلا شك أن القاتل قد نجح في تحقيق فكرته الشيطانية كل النجاح، ووفق في الانتقام من السير جون رويل كل التوفيق. وأما الطريقة التي دخل بها المجرم إلى منزل عدوه ثم خرج منه على الرغم من أن النوافذ والأبواب كانت موصدة كما ذكر الخادم في روايته، فهذا ما لم أجد له حلا ولم أتوصل إلى معرفته للآن!
محمد عبد اللطيف حسن